د. محمد عباس ناجي


        
<p><strong>تمارس إيران سياسة مزدوجة في تعاملها مع الاتفاق النووي المزمع توقيعه، وذلك عبر توزيع الأدوار وتنويع التوجهات إزاء تطورات الصفقة النووية، ما بين الدبلوماسية والتهدئة من جانب والتشدد والتصعيد من جانب آخر، من أجل تعزيز مكاسب طهران التفاوضية والتوصل إلى أفضل اتفاق ممكن للجانب الإيراني. وفي هذا الإطار فقد وقَّع نحو 190 نائباً في مجلس الشورى (من أصل 290)، في 5 أبريل الجاري، على رسالة موجهة إلى الرئيس إبراهيم رئيسي تدعوه إلى "حفظ الخطوط الحمر، وتأمين مصالح الأمة، ومراعاة الإطار المحدد الذي حدده المرشد علي خامنئي لفريق المفاوضين في مفاوضات فيينا مع مجموعة 4+1″. كما تطالب الرسالة بـ"أخذ الضمانات المطلوبة حتى لا تنسحب أمريكا مجدداً من الاتفاق النووي، وأن يتحقق الفريق المفاوض الإيراني من تنفيذ جميع التزامات الطرف الآخر". وقد كان لافتاً أن هذا الانخراط جاء عقب نشر مسودة اتفاق تضم 4 صفحات أساسية، و18 صفحة تشمل 3 ملاحق، تركز على قضايا رفع العقوبات والالتزامات النووية الإيرانية.</strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">انخراط محسوب</span></strong></p>



<p><strong>يمكن تفسير تعمد البرلمان الانخراطَ في الجدل العالق حول الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، في ضوء اعتبارات خمسة رئيسية تتمثل فيما يأتي:</strong></p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1- تبني سياسة مزدوجة تجاه القوى الدولية:</strong> يُعبِّر هذا الانخراط عن سياسة مستقرة تتبناها إيران دائماً، وتقوم على تعمد توجيه رسائل مزدوجة إلى الخارج؛ بهدف توسيع حرية الحركة وهامش المناورة المتاح أمامها. وقد كان لافتاً – على سبيل المثال – أن هذا الانخراط تكرَّر من قبل، وتحديداً بعد أن أُعلن عن التوصل إلى اتفاق نووي بين إيران ومجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015؛ حيث بدأ تيار المحافظين الأصوليين يشنون حملة قوية ضد حكومة الرئيس حسن روحاني وفريق التفاوض النووي، لدرجة أن النائب في مجلس الشورى روح الله حسينيان هدد وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، ورئيس منظمة الطاقة الذرية علي أكبر صالحي، في 12 أكتوبر 2015، بـ"دفنهما حيَّيْن وسكب إسمنت عليهما في مفاعل آراك"، في إشارةٍ إلى أن الاتفاق كان يقضي بتغيير نظام تشغيل المفاعل من خلال إلقاء الإسمنت بداخله.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2- تعزيز موقع فريق التفاوض الإيراني:</strong> يسعى النظام الإيراني، عبر تبني هذه السياسة المزدوجة، إلى تعزيز موقع فريق التفاوض النووي خلال الفترة المتبقية من المفاوضات التي تنتظر الوصول إلى توافق بين طهران وواشنطن حول شطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية التي تُصدرها وزارة الخارجية الأمريكية. ووفقاً لذلك، فإن هذه الحملة القوية التي يشنها البرلمان، يمكن أن يستند إليها فريق التفاوض من أجل تبرير رفض إيران تقديم أي تنازلات، على مستوى الإقليم، مقابل شطب الحرس من القائمة؛ حيث سبق أن حاولت الولايات المتحدة الأمريكية الحصول على مقابل لهذه الخطوة، من خلال مطالبة إيران بخفض مستوى التصعيد في المنطقة، أو التوقف عن محاولات "الانتقام" لقائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني الذي قُتل في 3 يناير 2020 في عملية عسكرية شنتها الولايات المتحدة الأمريكية في العراق.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3- الرد على ضغوط الكونجرس الأمريكي:</strong> لا ينفصل التدخل الملحوظ للبرلمان في الجدل حول الصفقة النووية المحتملة، عن التصعيد الذي يمارسه نواب الحزب الجمهوري وبعض نواب الحزب الديمقراطي ضد إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن؛ بسبب سعيها إلى إبرام صفقة نووية مع إيران؛ فقد شن بعض أقطاب الحزب الجمهوري حملة قوية ضد السياسة الأمريكية تجاه إيران، واعتبروا أن التساهل في الوصول إلى صفقة جديدة يمكن أن يهدد المصالح الأمريكية، لا سيما في حالة شطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية، على نحو يمكن أن يسمح لعناصره بدخول الولايات المتحدة الأمريكية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وقد انخرط بعض أقطاب الحزب الديمقراطي بدورهم في هذه الحملة؛ حيث عقدوا مؤتمراً صحفياً، في 6 أبريل الجاري، أعربوا فيه عن معارضتهم أي اتفاق نووي يمكن التوصل إليه مع إيران، محذرين من أن رفع العقوبات سيؤدي إلى الإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة التي ستُخصصها إيران لأنشطتها الإرهابية. وفي رؤية اتجاهات عديدة في طهران، فإن هذه الضغوط التي يمارسها بعض أقطاب الحزبَيْن الجمهوري والديمقراطي، تدخل في إطار السياسة المزدوجة نفسها التي تتبناها إيران؛ حيث يمكن أن تستند الإدارة الأمريكية إلى هذه الضغوط والانتقادات لتبرير عزوفها، حتى الآن، عن اتخاذ قرار بشطب الحرس من قائمة التنظيمات الإرهابية، رغم أن هذه الخطوة تكتسب طابعاً رمزياً بامتياز، ولن تؤدي إلى رفع العقوبات المفروضة على الحرس، خاصةً أن هذه العقوبات مفروضة من قبل وزارة الخزانة الأمريكية منذ عام 2007.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4- التخوف من نفوذ مجموعة روحاني:</strong> لا يستبعد بعض النواب المتشددين من تيار المحافظين الأصوليين، أن تكون حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي قد فشلت في "تطهير" وفد التفاوض من بعض الكوادر التي تنتمي إلى تيار المعتدلين وسبق أن اختارهم الرئيس السابق حسن روحاني لإدارة المفاوضات مع القوى الدولية. وفي رؤيتهم، فإن الحكومة الحالية ربما اكتفت بإبعاد بعض القيادات الرئيسية في فريق التفاوض، مثل مساعد وزير الخارجية السابق للشؤون السياسية عباس عراقجي، دون أن تطال الإجراءات التي اتخذتها، بعضَ الكوادر الرئيسية التي لا تزال تؤثر في أجندة فريق التفاوض. ومن هنا، يمكن تفسير حرص بعض نواب تيار المحافظين الأصوليين على الترويج إلى أن المسودة المحتملة للاتفاق، التي نُشرت مقتطفات منها في الأيام الأخيرة، تتضمَّن تنازلات وتجاوزات للخطوط الحمراء التي سبق أن أعلنها المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، وأن ذلك معناه أن تلك المسودة "تحمل بصمات" بعض الكوادر في وفد التفاوض السابق.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>5- التماهي مع توجهات المتشددين:</strong> رغم اقتراب موعد انتهاء المفاوضات، واستمرار المسؤولين الإيرانيين في الإدلاء بتصريحات توحي بأنه يمكن إبرام صفقة في الفترة المقبلة، فإن هناك تياراً يضم بعض القيادات المتشددة، يرى أن الاتفاق الجديد قد يفرض تهديدات مباشرة على أمن ومصالح إيران، لدرجة أنه دعا إلى وقف المفاوضات وإلغاء العمل بالاتفاق النووي الحالي، باعتبار أن "عدم الوصول إلى اتفاق أفضل من الوصول إلى اتفاق سيئ". ويستند هذا التيار في تبرير انتقاداته القوية للاتفاق النووي المحتمل، إلى أن هذا الاتفاق لا يشمل، في الغالب، ضمانات أمريكية بعدم الانسحاب مرة أخرى، فضلاً عن أنه سوف يفرض على إيران إعادة تقويض أنشطتها النووية بعد أن وصلت إلى مرحلة غير مسبوقة على مستوى عمليات تخصيب اليورانيوم.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">سياسة مستقرة</span></strong></p>



<p><strong>إن ما سبق، في مجمله، يوحي في النهاية بأن إيران لن تتراجع عن تبني هذه السياسة خلال المرحلة القادمة، حتى لو تم التوصل إلى صفقة في فيينا، فضلاً عن أن إيران نفسها لا تحصر هذه السياسة في إدارة علاقاتها مع القوى الدولية، بل تتبعها حتى في توجيه علاقاتها مع دول المنطقة، ولا سيما دول الجوار، وفي مقدمتها دول مجلس التعاون الخليجي، على نحو يبدو جلياً في حرصها على تأكيد اهتمامها بتطوير العلاقات مع تلك الدول، بل فتح قنوات تواصل أمنية وسياسية معها، في وقت تسمح فيه للميليشيات الموالية لها بتهديد أمنها واستقرارها بالهجمات العسكرية التي تشنها باستخدام الصواريخ والطائرات من دون طيار.</strong></p>

      

لماذا يُصعِّد البرلمان الإيراني قبل إبرام الصفقة النووية؟