عرض: د. إيمان عبد الحليم

شكَّل الاقتصاد غير المشروع تحدياً اقتصادياً وأمنياً كبيراً في باكستان على مدى العقود القليلة الماضية، وإن اتخذ أبعاداً أشد خطورةً خلال الأعوام الخمسة الماضية؛ ما دفع السياسيين والعسكريين في الدولة إلى مضاعفة الجهود المبذولة في محاولات الحد من التدفق غير المشروع للبضائع والعملة والمخدرات والمنتجات النفطية من البلاد وإليها، وإن كانت جهودهم تواجَه بالعديد من التحديات.

ومن هذا المنطلق، نشرت مؤسسة "نيو لاينز" في يناير 2024، تقريراً حمل عنوان "باكستان تتخذ إجراءات صارمة ضد الاقتصاد غير المشروع وسط الأزمة الاقتصادية"، لكل من "عزير يونس" المدير في "مجموعة آسيا"، الذي شغل سابقاً منصب مدير مبادرة باكستان في "مركز جنوب آسيا" التابع للمجلس الأطلسي، و"روحان أحمد" الصحفي المقيم في العاصمة الباكستانية إسلام أباد، الذي كتب على نطاق واسع عن الجماعات المسلحة والأحزاب الدينية والسياسية ووكالات إنفاذ القانون وانتهاكات حقوق الإنسان في البلاد والمنطقة لمختلف وسائل الإعلام الوطنية والدولية.

وقد قدَّما في ورقتهما المنشورة رؤى مختلفة حول طبيعة وحجم وتأثير الاقتصاد غير المشروع في باكستان؛ وذلك من خلال تحليل أبعاد هذه الظاهرة المتنامية في الدولة، والدوافع الرئيسية وراء النمو الهائل للاقتصاد غير المشروع، والطرق التي يجري بها تهريب البضائع والعملات والمخدرات من البلاد وإليها، وكيف يرتبط هذا الاقتصاد بالنخب التي تمثل الدوائر الانتخابية الرئيسية في الدولة.

مخاطر واسعة

شكَّل الاقتصاد غير المشروع، الذي يمثل مجموعة فرعية من الاقتصاد غير الرسمي الأوسع، تحدياً دائماً لباكستان على مدى العقود الماضية، وإن اتخذ أبعاداً أشد خطورة في الأعوام الأخيرة؛ حيث توسعت مظاهره على النحو الآتي:

1– توسع الاقتصاد السري في باكستان: بحسب ما يشير التقرير، فإن الاقتصاد غير المشروع يمثل جزءاً من الاقتصاد السري في باكستان، الذي يتكون من أربعة مكونات رئيسية: الاقتصاد غير القانوني، الذي يتكون من ممارسات اقتصادية غير قانونية بموجب القانون، مثل المخدرات والكحول، والاقتصاد غير المبلغ عنه الذي يشمل التهرب من الضرائب على الأنشطة المشروعة، والاقتصاد غير المسجل الذي يشمل الأنشطة التي لم تُسجَّل من قبل السلطات الإحصائية، والاقتصاد غير الرسمي الذي يعمل خارج النظام القانوني والتنظيمي في البلاد، ولا يمكن للمحاكم والمصارف والمؤسسات الرسمية الأخرى السيطرة عليه.

ويهتم التقرير، على نحو خاص، بتناول مجموعة فرعية فقط من الاقتصاد السري في باكستان، الذي يغطي في المقام الأول الاقتصاد غير القانوني؛ نظراً إلى أن تهريب البضائع والعملة ومشتقات النفط من الدولة وإليها يعد جريمة جنائية.

2– ارتباط توسع الاقتصاد غير المشروع بتفاقم الأزمات: حتى إن تفاقمت مشكلة الاقتصاد غير المشروع في الدولة خلال الأعوام الماضية، لكنها تمثل ظاهرة قديمة. ووفقاً للتقرير، بلغ حجم الاقتصاد السري 102% من الناتج المحلي الإجمالي الباكستاني في عام 1998، بعد فترة وجيزة من فرض العقوبات على البلاد بعد إجراء تجارب نووية، حتى إن أدى رفع العقوبات إلى انخفاض حجم الاقتصاد السري؛ إذ يُقدر الخبراء أنه بحلول عام 2013 بلغ الاقتصاد غير الرسمي نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، الذي كان نحو 92 مليار دولار في ذلك الوقت.

واستناداً إلى التقديرات الواردة في التقرير، يمكن افتراض أن الحجم الحالي للاقتصاد السري في باكستان يبلغ 150 مليار دولار على الأقل، أو 40% من الناتج المحلي الإجمالي لباكستان لعام 2022 الذي يبلغ 375 مليار دولار، ولكن نظراً إلى الأزمة الاقتصادية والسياسية والأمنية المستمرة في البلاد، فمن المرجح أن يكون هذا الرقم أعلى من هذه الأرقام.

3– تعدد مجالات الاقتصاد غير المشروع في باكستان: ازدهر الاقتصاد غير المشروع في باكستان على مدى الأعوام الماضية ليشمل العديد من المنتجات الرئيسية؛ من المخدرات والعملات الأجنبية والمشتقات النفطية إلى السلع الاستهلاكية. ووفقاً للبيانات التي تم جمعها من جميع أنحاء الدولة، فإن الدولار الأمريكي مع العملات الأخرى، والذهب الذي يدخل بشكل رئيسي عبر الموانئ، والمنتجات النفطية، وخاصةً الديزل، ومحركات السيارات، والمخدرات مثل الهيروين والمواد الأفيونية، وأدوات النظافة والملابس وحقائب اليد والسجائر، ومنتجات مثل السكر، والمنتجات الاستهلاكية الأخرى مثل الشوكولاتة ومشروبات الطاقة وحتى الشاي والصابون والإلكترونيات؛ إما يتم جلبها بشكل غير قانوني إلى باكستان أو تهريبها منها.

4– تأثير التدفق غير المشروط للمخدرات من أفغانستان: يعد التدفق غير المشروع للمخدرات من أفغانستان وإليها، التي تعد أكبر منتج للأفيون في العالم، إحدى القضايا الرئيسية التي تواجه باكستان. ووفقاً لقوات مكافحة المخدرات الباكستانية، فإن ما لا يقل عن 40% من المخدرات المزروعة في أفغانستان تمر عبر طرق التجارة الباكستانية، وتظهر بياناتها لعام 2015 أن نحو 7 ملايين شخص في باكستان يستهلكون المخدرات. وفي سبتمبر 2023، كشفت أرقام وزارة الداخلية عن ضبط باكستان 43 طناً من المخدرات المهربة في مداهمات في جميع أنحاء البلاد، وتم القبض على ما لا يقل عن 246 شخصاً خلال تلك المداهمات.

ورغم وعد قادة طالبان، بعد استيلائهم على حكم كابول في أغسطس 2021، بفرض حظر كامل على إنتاج المخدرات في البلاد، فإن هذا الوعد لم يتم الوفاء به بعد. ورغم ذكر مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجرائم أنه كان هناك انخفاض بنسبة 95% في المعروض من الأفيون في عام 2023 مقارنة بعام 2022، يقول المسؤولون في باكستان إن تهريب المخدرات لم يتوقف، مضيفين أن كمية كبيرة من المواد المحظورة لا تزال تصل إلى بلوشستان وكراتشي خلال حكم طالبان؛ إذ تشير التقارير إلى أن الانخفاض في إنتاج الأفيون قد تم تعويضه من خلال النمو الهائل في تهريب الميثامفيتامين؛ ما وفر مصادر دخل جديدة للشبكات المشاركة في تجارة المخدرات.

5– تهريب المنتجات النفطية من إيران: بدأت باكستان تشهد كذلك زيادة في تدفق المنتجات النفطية المهربة، وخاصةً من إيران، وأشارت التقارير إلى أن هذه المنتجات التي يتم تهريبها عبر المنافذ الحدودية في إقليم بلوشستان، تجد طريقها إلى أسواق كراتشي والبنجاب. وفي مايو 2023، قالت جمعية تجار النفط الباكستانية إن ما يصل إلى 35% من وقود الديزل المبيع في المقاطعة يأتي بشكل غير قانوني من إيران، لتشير تقديرات مكتب الإيرادات الفيدرالي الباكستاني إلى أن البلاد خسرت ما يقرب من 1.5 مليار دولار من عائدات الضرائب بسبب هذا التهريب.

ومن الجدير بالذكر أن قضية تهريب النفط الإيراني كانت مشكلة متنامية منذ سنوات في باكستان. وقد أشار تحقيق في عام 2020 حول نقص المنتجات النفطية في باكستان، إلى أن المنتجات النفطية (خاصة البنزين والديزل) يتم تهريبها إلى باكستان من الحدود الغربية لإيران، كما يقدم التقرير بعض البيانات حول حجم هذا التهريب، مسلطاً الضوء على أنه في الفترة من يوليو 2019 إلى يونيو 2020، صادر مكتب الإيرادات الفيدرالي ما يقرب من 28 مليون لتر من البنزين ونحو مليار لتر من الديزل. وبلغ صافي الخسارة من حيث الإيرادات الضريبية وحدها 48 مليار روبية (ما يقرب من 300 مليون دولار على أساس متوسط سعر الصرف خلال تلك الفترة).

ويقول التقرير إن هذا التقدير يستند فقط إلى 20% من إجمالي كمية الوقود المهربة من إيران إلى باكستان. ونتيجة لذلك، يقول التقرير إن إجمالي خسارة عائدات الضرائب السنوية لباكستان بلغ ما يقرب من 1.5 مليار دولار في الفترة المشمولة بالتقرير؛ وذلك فيما استخدم النظام الإيراني – الذي يتعرض لضغوط العقوبات الدولية – نمو هذا الاقتصاد غير المشروع كشريان حياة اقتصادي وآلية للوصول إلى الدولار.

6– ازدهار أنشطة سوق العملة الموازية بالدولة: من المظاهر الأخرى الخطرة للاقتصاد غير المشروع في باكستان، ما يرتبط بازدهار نشاط سوق العملة الموازية في الدولة؛ إذ تزعم الحكومة الباكستانية أنها صادرت عملات بقيمة 658.47 مليون روبية – ما يقرب من 2.5 مليون دولار – من الأسواق غير القانونية فقط في شهر سبتمبر 2023، حتى إن الضغط المتزايد على الروبية وتأثيره المصاحب على المعنويات الاقتصادية والتضخم أجبر الجيش الباكستاني على التدخل في مواجهة المصارف الخاصة وأسواق العملة غير الرسمية، في محاولة للسيطرة على سعر الدولار مقابل الروبية.

7– امتداد خطر الاقتصاد غير المشروع على الصعيد الإقليمي: ذلك أن نمو الاقتصاد غير المشروع في باكستان قد وفر آلية يمكن من خلالها للشبكات الإجرامية والمتشددة، بما في ذلك حركة طالبان الأفغانية والنظام الإيراني وجماعات أخرى مثل حركة طالبان الباكستانية، الوصول إلى الموارد المالية للحفاظ على وجودها في المنطقة وتنميته؛ وحيث وفر التدفق غير المشروع للمخدرات والعملة المرتبطة بها شريان حياة لحركة طالبان الأفغانية على نحو خاص؛ ما ساعدها على سد العجز المتزايد الذي يتجاوز 6 مليارات دولار في أفغانستان، وفقاً للبنك الدولي.

وأيضاً فإن إيران وجدت أسواقاً جديدة يمكنها من خلالها التهرب من العقوبات وكسب العملات الأجنبية التي تحتاجها بشدة للحفاظ على استقرار اقتصادها في مواجهة العزلة الدولية المفروضة عليها. بالإضافة إلى ذلك، فإن الشبكات المسلحة، التي يشكل الكثير منها تهديداً لقوات الأمن الباكستانية، وحتى لمصالح الأمن القومي الأمريكي، متورطة بعمق في الاقتصاد غير المشروع؛ ما يوفر لها التمويل اللازم للحفاظ على بصمتها العملياتية في المنطقة والعمل لتوسيعها.

محفزات رئيسية

ارتبطت زيادة حجم الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة في باكستان بأسباب وعوامل عدة، وخاصة مع غياب الاستقرار السياسي في الدولة، وتنامي مظاهر العنف والإرهاب، وخصوصاً فيما بعد سقوط كابول تحت سيطرة طالبان، ودون إغفال التحديات المرتبطة بفرض الضوابط على رأس المال والاختلاف في أسواق أسعار الصرف الرسمية وغير الرسمية. وفي هذا الصدد، يمكن تحديد أسباب تفاقم الأزمة الخاصة بالأنشطة غير المشروعة في العوامل التالية:

1– التبعات الأمنية لسقوط كابول: بالرغم من أن الاقتصاد غير المشروع مثّل تحدياً اقتصادياً وأمنياً كبيراً لباكستان على مدى العقود القليلة الماضية، فإن سقوط كابول في أغسطس 2021 كان بمنزلة نقطة انعطاف؛ حيث أدت الصدمة الاقتصادية في أفغانستان بسبب خروج القوات الدولية، الذي تسبب في تصاعد الإرهاب، وتزايد حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، إلى زيادة كبيرة في حجم هذا الاقتصاد في باكستان، التي أظهرت عدم القدرة على التخطيط لسيناريوهات الانهيار السريع والمفاجئ لنظام أشرف غني في كابول؛ ليس فقط من حيث التداعيات الأمنية، ولكن الأهم من ذلك التأثير الاقتصادي لخروج الولايات المتحدة الأمريكية من أفغانستان.

وحتى قبل استيلاء طالبان على السلطة، كان الوضع الأمني في باكستان محفوفاً بالمخاطر، وكان له آثار ضارة على اقتصادها. ونتيجة لذلك لم تكن البلاد مستعدة بشكل كامل للتأثيرات اللاحقة على اقتصادها السياسي. وأيضاً بسبب الكارثة الإنسانية في أفغانستان في الأسابيع والأشهر التي أعقبت سقوط كابول، لجأ ما يقرب من 300 ألف أفغاني إلى باكستان بحلول نهاية عام 2021؛ ما زاد من تعقيد الوضع الاقتصادي في باكستان وزيادة الطلب الأوسع على الضروريات الأساسية.

ومن ناحية أخرى، أدى الطلب المتنامي على العملات الأجنبية في أفغانستان في أعقاب سقوط كابول إلى تعزيز حجم وطبيعة سوق الصرف الأجنبي غير المشروع في باكستان بشكل كبير؛ حيث يشير رئيس جمعية تجار العملة في باكستان، إلى أن نحو 25% من إجمالي الدولارات المتاحة في باكستان تذهب إلى أفغانستان من بيشاور؛ وذلك مع إشارة البنك الدولي إلى أن معظم المعاملات في أفغانستان تتم "باستخدام قناة الحوالة غير الرسمية"، وذلك ما تسبب جزئياً في اختلاف كبير في سعر الدولار الأمريكي في الأسواق المصرفية الرسمية وأسواق صرف العملات غير المشروعة.

2– صدمة أسعار الطاقة في أعقاب حرب أوكرانيا: تزامنت التطورات السابقة في باكستان مع الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير 2022، الذي تسبب في صدمة لأسعار الطاقة العالمية، وخاصة المنتجات النفطية. ومع ارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة، تعرض الاقتصاد الباكستاني المترنح لضربة جديدة قوية، وكان لا بد من سد العجز المالي المتفاقم في البلاد كجزء من شروط صندوق النقد الدولي لاستئناف حزمة الإنقاذ، لتضطر الحكومة إلى زيادة الضرائب على المنتجات النفطية؛ الأمر الذي أدى إلى تأجيج النيران التضخمية.

وقد أدى ارتفاع أسعار الطاقة إلى خلق اقتصاد موازٍ في تهريب وبيع المنتجات النفطية غير المشروعة، وخاصة من إيران، فيما أدى ارتفاع أسعار الطاقة وارتفاع التضخم وتزايد عدم اليقين الاقتصادي والسياسي إلى تحفيز نمو الاقتصاد غير المشروع في باكستان؛ ما أدى إلى خلق أزمة اقتصادية وأمنية قومية.

3– تنامي أنشطة التهريب من أفغانستان وإيران: كثيراً ما يلقي المسؤولون وشركات الصرافة في باكستان اللوم على أفغانستان في تهريب الدولارات والسلع الأخرى مثل السكر واليوريا، وخاصة مع اشتراك باكستان في حدود يبلغ طولها 2670 كيلومتراً (1659 ميلاً) مع أفغانستان، ووجود معابر حدودية متعددة.

وفي فبراير من عام 2023، كشفت شركات الصرافة التابعة للجمعية الباكستانية أنه تم تهريب ما لا يقل عن 5 ملايين دولار من العملة الأمريكية إلى أفغانستان من باكستان يومياً، وذلك ما قد يعني أن إجمالي التدفق السنوي للعملة وحده يصل إلى أكثر من 1.8 مليار دولار، ليعني ذلك استنزافاً لاحتياطات النقد الأجنبي الشحيحة في باكستان، ويضعف قيمة الروبية.

ويقول مسؤولون وقادة أعمال باكستانيون إن هذا كان يحفز تهريب البضائع إلى باكستان من أفغانستان، مع اعتبارهم كذلك أن المشكلة تكمن في اتفاقية التجارة العابرة بين أفغانستان وباكستان (APTTA)؛ حيث تسمح الاتفاقية الموقعة في عام 2010 لأفغانستان باستخدام الموانئ الباكستانية لوارداتها دون أي رسوم جمركية، وهو ما يُساء استخدامه ويضر باقتصاد باكستان. وفي تقاريرها، أشارت وكالات إنفاذ القانون الباكستانية مرات عدة إلى أن حاويات تجارة الترانزيت الأفغانية تُستخدم لتهريب البضائع إلى باكستان.

هذا وتشترك باكستان أيضاً في حدود يبلغ طولها 909 كيلومترات (نحو 565 ميلاً) مع إيران، التي لا تحول العقوبات المفروضة عليها دون تهريب منتجات تبلغ قيمتها مليارات الدولارات – وفقاً لمسؤولين حكوميين وتجار محليين – إلى باكستان من المناطق الحدودية الإيرانية، وبما يشمل الكثير من السلع الاستهلاكية، مثل الشوكولاتة والبسكويت والشاي والزيت ومشروبات الطاقة ومنتجات الألبان الإيرانية ومنتجات أخرى كثيرة يتم جلبها خاصة إلى بلوشستان من المناطق الحدودية الإيرانية؛ وذلك بجانب عمليات تهريب النفط. ولا تقتصر عمليات التهريب هذه من إيران على باكستان؛ ففي السنوات الأخيرة استهدفت الحكومة الأمريكية شبكات التهريب التي يقودها "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإسلامي.

4– غياب الاستقرار السياسي والاقتصادي في الدولة: لا ترتبط مشكلات الاقتصاد غير المشروع في باكستان بالتطورات في الجوار فحسب؛ ذلك أن تفاقم حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في الدولة منذ عام 2018، كان سبباً لضعف الجهود في مواجهة هذه الظاهرة، وخاصة أن الاقتصاد الباكستاني كان قد بدأ يضعف بشكل كبير قبل الانتخابات العامة في أغسطس 2018، وبعد وقت قصير من تولي رئيس الوزراء الأسبق عمران خان منصبه، اضطرت حكومته إلى طلب خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى الدعم الثنائي من دول مثل الصين والمملكة العربية السعودية.

وأدت هذه الأزمة إلى انخفاض قيمة الروبية الباكستانية، وتباطؤ النمو الاقتصادي، وزيادة حادة في التضخم، لتدفع جائحة "كوفيد–19" إلى تفاقم الأزمة؛ حيث دخل الاقتصاد الباكستاني في حالة من الركود، واستمر التضخم في الارتفاع، في حين واصلت الروبية مسارها الهبوطي مقابل الدولار الأمريكي، وذلك ما ساعد على ازدهار نشاط سوق العملة الموازية، وأنشطة الاقتصاد غير المشروع على نحو عام في باكستان. وتفاقمت الأزمة في أوائل عام 2022؛ حيث سعى تحالف من أحزاب المعارضة إلى الإطاحة بخان في تصويت بحجب الثقة عن البرلمان.

وبعد الإطاحة به، تولى خلفه شهباز شريف منصبه بفاتورة دعم ضخمة ومتزايدة إلى حد غير مستدام. ومن أجل إعادة برنامج صندوق النقد الدولي إلى المسار الصحيح، ألغت الحكومة الدعم، ولكن بتكلفة اقتصادية كبيرة، وزاد التضخم أكثر، وانخفضت قيمة العملة، واستمر عدم اليقين الاقتصادي في النمو، لتواصل الحكومة إدارة عجز مالي مرتفع، تم تمويله من خلال الاقتراض المحلي.

وكانت النتيجة زيادة كبيرة في عرض النقود والنقد المتداول في الاقتصاد، الذي ارتفع من نحو 22% في عام 2013، إلى أكثر من 29% في عام 2023. ويستمر هذا النمو في الاقتصاد النقدي في لعب دور رئيسي في الاقتصاد غير المشروع الأوسع، لا سيما فيما يتعلق بتدفق السلع غير المشروعة وتزايد الدولرة في الاقتصاد، مع تركيز السياسات الحكومية على التحكم في سعر الدولار الأمريكي؛ ما أدى إلى إنشاء سوق سوداء للعملة.

5– تواطؤ مؤسسات إنفاذ القانون مع الشبكات الإجرامية: يشكل نظام إنفاذ القانون الضعيف في باكستان إحدى العقبات الرئيسية أمام وقف التهريب، وخاصة مع التواطؤ القائمين على مؤسسات إنفاذ القانون ذاتها في باكستان، والنخب السياسية، والشبكات الإجرامية والمتشددة العاملة في المناطق الحدودية لأفغانستان وباكستان وإيران، وقد أدى نموها إلى إثراء المشاركين النشطين في العمليات غير المشروعة بسبب موقعهم المؤثر في مؤسسات الدولة، وذلك ما يهدد حتى الجهود الجارية لأجل مواجهة الأنشطة غير المشروعة في باكستان.

ذلك أن المهربين من المحتمل أن يحظوا بالدعم من جانب بعض المسؤولين الحكوميين والبيروقراطيين والسياسيين، حتى بعد أن شددت الحكومة الباكستانية مؤخراً من إجراءاتها الأمنية، بل كشفت التحقيقات أن المهربين كانوا يستخدمون طائرات بدون طيار لتهريب المخدرات إلى ولاية البنجاب الهندية من مقاطعة البنجاب الباكستانية؛ حيث ألقت قوة مكافحة المخدرات في باكستان القبض على أربعة من موظفي الشرطة لقيامهم بتسهيل تهريب المخدرات، فيما لا يزال المسؤول الرئيسي هارباً.

وكشفت كذلك إحدى وكالات الاستخبارات المدنية الباكستانية في تقرير لها، أن نحو 90 مسؤولاً حكومياً و29 سياسياً متورطون في تهريب البنزين الإيراني. وذكر التقرير أن بعض المنظمات المسلحة متورطة أيضاً في تجارة النفط الإيراني المهرب في بلوشستان. وفي حين أن الحكومة لم تعلق على هذا التقرير، فإنه بعد أيام من بث التقرير في بعض وسائل الإعلام الباكستانية، أنهت السلطات توظيف أكثر من عشرة أفراد من لواء بلوشستان، وهي قوة شبه عسكرية في بلوشستان. وأكدت السلطات في المقاطعة أنه تم فصل الموظفين بعد تبين تورطهم في تهريب النفط الإيراني إلى باكستان. وأفيد أيضاً بأن هؤلاء الأفراد سمحوا لـ40 إلى 60 مركبة تحمل ما بين 500 ألف إلى 700 ألف لتر من النفط الإيراني بدخول باكستان يومياً لمدة 14 شهراً.

6– احتمالية مقاومة بعض السكان المحليين لسياسات الحكومة: حتى إن اتخذت الحكومة الباكستانية موقفاً أشد في الفترة الأخيرة بالعمل ضد أنشطة التهريب، فإن القيام بذلك يمثل مهمة شاقة؛ إذ يُعتقد أن خطة الحكومة لوقف التهريب بشكل كامل ستواجه بمقاومة من جانب السكان المحليين، وخاصة في بلوشستان التي تعاني من التشدد الانفصالي والإسلامي، وتعد واحداً من أفقر أقاليم باكستان؛ حيث يعيش أكثر من 60% من سكانها تحت خط الفقر؛ فرغم إدراك السكان أن التهريب يمثل عملاً غير قانوني وجريمة، فإن الكثير من صغار المتورطين في مثل هذه الأنشطة ليس لديهم خيار آخر لتوفير الطعام لعائلاتهم في حال عدم منحهم طريقة بديلة لكسب الرزق؛ وذلك مع غياب أنشطة الشركات أو الصناعات الكبيرة التي يمكنها توفير فرص عمل للسكان المحليين في المناطق النائية والحدودية من الدولة.

حتى إن الأحزاب السياسية في بلوشستان قد احتجت على حملات القمع ضد بعض المتورطين في الأنشطة غير المشروعة، وتم تنظيم اعتصام في منطقة "كيش" في بلوشستان في سبتمبر 2023؛ حيث عارض السياسيون المحليون الحظر المفروض على النفط الإيراني وزعموا أنه ليس تهريباً، بل "إمداداً قانونياً".

6– تورط بعض المؤسسات غير الحكومية في أنشطة غير مشروعة: حيث يقوم صناع السياسات في إسلام أباد بمراقبة شركات الصرافة بشكل متزايد، للاشتباه في تورط هذه الشركات في تجارة غير مشروعة للعملة، وخاصة الدولار الأمريكي، وقد التقى رئيس الأركان بشخصيات أعمال بارزة في كراتشي ولاهور ليطلب منهم لعب دور في وقف التداول غير القانوني للدولار وإغلاق الأسواق السوداء السرية. وبعد فترة وجيزة من الاجتماع، داهمت المخابرات الداخلية العديد من أسواق العملات غير القانونية؛ ما ساعد في انخفاض الطلب على الدولار الأمريكي بعد بدء الحملة ضد تجار العملة غير الشرعيين والمهربين.

7– جدلية دور المؤسسة العسكرية في مواجهة الاقتصاد غير المشروع: مع التداعيات الاقتصادية والأمنية الخطرة الناجمة عن نمو الاقتصاد غير المشروع، كل ذلك أجبر المؤسسات وصانعي السياسات، وخاصة الجيش الباكستاني، على التدخل لاتخاذ إجراءات قوية للحد من عمليات التهريب وللسيطرة على أنشطة الاقتصاد غير المشروع الأوسع.

وجاء في إطار ذلك اعتزام باكستان تشكيل مركز جديد لمكافحة المخدرات، من شأنه تعزيز القدرات الاستخباراتية للبلاد، مع إطلاق حملة ضد التهريب، وخاصة التجارة غير المشروعة بالعملة، وبما يشمل العمل على تسييج الحدود؛ إذ تدعي باكستان أنها قامت بتسييج أكثر من 98% من حدودها مع أفغانستان، بالتوازي مع زيادة وتيرة الغارات من أجل ردع أنشطة التهريب، وإجراء تغييرات في السياسة لمنع تهريب البضائع المعفاة من الرسوم الجمركية المخصصة لأفغانستان إلى باكستان؛ وذلك مع تحذير رئيس الأركان عاصم منير، المسؤولين بالدولة من مواجهتهم محاكمة عسكرية محتملة إذا تبين تورطهم في عمليات التهريب عبر الحدود.

ولكن رغم هذه الجهود، فإن تدخل الجيش إنما يشير بوضوح إلى أن السلطات المدنية في البلاد إما غير جادة وإما غير مسموح لها بالقيام بعملها، وخاصة أن جهاز الدولة لم يتحرك بجدية إلا بعد أن قررت القيادة العسكرية أن الاقتصاد غير المشروع يشكل تهديداً اقتصادياً وتهديداً للأمن القومي، وهذا يثير القلق بشأن ما سيحدث إذا فقدت القيادة العسكرية الاهتمام بالاقتصاد غير المشروع وأعطت الأولوية لقضايا أخرى، بما في ذلك الديناميكيات السياسية الأوسع في البلاد.

وذلك مع إثارة قضايا رئيسية أخرى تتمثل في توغل الجهاز العسكري الدائم في المجالات الرئيسية للمؤسسات المدنية؛ وذلك بالرغم من أنه لدى باكستان العديد من الوكالات المدنية الأخرى مثل وكالة التحقيقات الفيدرالية ومكتب المخابرات التي يمكنها التعامل مع مثل هذه الجرائم. وفي الوقت نفسه، فإن إلقاء اللوم على المسؤولين المدنيين عن نمو الاقتصاد غير المشروع هو أمر غير عادل؛ فمن من المرجح أن يكون الضباط العسكريون، وخاصة الموجودين في المناطق الحدودية، متورطين بشكل كبير في الاقتصاد غير المشروع.

وفي الختام، ورغم أن حملة القمع والتهديد باتخاذ إجراءات قانونية ضد المتورطين تعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح في مواجهة الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة، فإن استدامة هذه الإجراءات تظل، بحسب التقرير، محل شك، مع استمرار المخاوف من ازدهار أنشطة الاقتصاد غير المشروع داخل باكستان؛ ما يضاعف الحاجة إلى قيام الدولة بإصلاحات هيكلية وقوية بعيدة المدى، تهتم خلالها بمعالجة الأوضاع الاقتصادية السيئة، توازياً مع تكثيف الاستثمارات التي تعزز التنمية البشرية والاقتصادية، وخاصة في المناطق الحدودية النائية، وللمساعدة في تخفيف الضغوط التي تدفع نمو الاقتصاد غير المشروع.

المصدر:

Uzair Younus and Roohan Ahmed, "Pakistan Cracks Down on Illicit Economy Amid Economic Crisis", New Lines Institute for Strategy and Policy, January 2024.

كيف تفاقمت معضلة الاقتصاد غير المشروع في باكستان؟