إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

في كلمته أمام المؤتمر العام السابع لحزب العدالة والتنمية في أنقرة، في 24 مارس الحالي؛ قال الرئيس التركي إن الدستور الجديد المرتقب سيكون من صنع الشعب مباشرةً لا من صنع "الانقلابيين"، وأضاف أن "مناقشة إعداد دستور جديد للبلاد باتت أمرًا حتميًّا، نظرًا إلى تاريخنا والمتغيرات الدولية". وتعهد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في فبراير الماضي، بكتابة دستور جديد للبلاد؛ حيث تحدث عن الحاجة إلى صياغة دستور "مدني" جديد لتركيا. وبرغم تغيير أكثر من نصف الدستور الحالي الذي تمَّ وضعه في عام 1982؛ يقول أردوغان: "إن الدستور الحالي يحتوي على آثار لا تُمحَى من الوصاية العسكرية"، كما أكد أن "مصدر كافة المشاكل التي تعاني منها تركيا منذ عام 1960، نابعٌ من الدساتير التي صيغت من قبل الانقلابيين".’ ومنذ دعوة أردوغان إلى كتابة دستور جديد، انطلقت الدعاية الحزبية التي يقودها الحزب الحاكم، وشريكه في الائتلاف حزب "الحركة القومية"؛ حيث تُروِّج دعايتهما لأهمية صياغة أول دستور مدني بعد دستور 1924، حتى يضع تركيا في موقعها الحقيقي في ذكراها المئوية الثانية المقرر لها 2023.



 تغيير التوازنات:



 يطرح سياق هذه العملية مؤشرًا ظرفيًّا خاصًّا بالمرحلة الحالية، في إطار تراجع موقع العدالة والتنمية على الساحة السياسية مقابل صعود المعارضة. وتثير دعوة أردوغان إلى وضع دستور جديد للبلاد تساؤلات حول غايته من ذلك. وفي حين يقول إنه يريد وضع "أول دستور مدني" في تاريخ تركيا، فإن الدستور الجديد قد يسعى إلى معالجة الخلل الذي يعانيه الحزب الحاكم من جهة، وإلى تقزيم نفوذ الخصوم من جهة أخرى. وفي هذا السياق، يُتوقَّع أن يستهدف الدستور الجديد التركيز على المواد التي تسهم في تثبيت هيمنة النظام الرئاسي الذي يتمتع فيه رئيس الجمهورية بصلاحيات تنفيذية واسعة.. وكشف عن ذلك تصريحاتُ الرئيس التركي في 3 فبراير الماضي، عندما قال: "إن الدستور الجديد المزمع إعداده سيُبنى على القفزات التاريخية التي حققناها في البلاد، وخاصةً نظام الحكم الرئاسي".



 كما قد يتضمَّن الدستور المُنتظَرةُ كتابتُه، تعديل قانون الانتخابات الرئاسية، وحاجز العتبة الانتخابية لدخول البرلمان، بحيث يتم تخفيض الحد الأدنى للتمثيل في البرلمان من 10% إلى 7%، إضافة إلى إجراء الانتخابات الرئاسية ضمن جولة واحدة بدلًا من جولتين، وإلغاء النسبة الاعتيادية للفوز التي تتمثل في ضرورة حصول المرشح الفائز على (50+1). ويقترح النظام بدلًا من الحصول على أكثر من نصف الأصوات، أن تقر التعديلات فوز المرشح الحاصل على أكثر الأصوات بالجولة الأولى ولو كانت أقل من 50%، وإلغاء الجولة الثانية. خلف ما سبق، ربما يتجه الدستور الجديد نحو محو أثر القوانين التي تعزز تدخُّل الجيش في الحياة السياسية المدنية، وتحييد تدخُّل المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية، ورضوخها للسلطة المدنية. وكذلك من المتوقع أن تتضمن بنود الدستور الجديد، موادَّ تمنح الحكومة حقَّ إغلاق الأحزاب السياسية التي تُتَّهم بالتورط في الإرهاب والجريمة، مثل "حزب الشعوب الديمقراطي".



 مقاصد متنوعة:



 يمكن تفسير إصرار الرئيس التركي على كتابة دستور جديد في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:



 1– تكريس الهيمنة السياسية: لا تنفصل الدعوة إلى كتابة دستور جديد عن مساعي الرئيس التركي إلى تفصيل المشهد على مقاس طموحات حزبه، ووضع فصول جديدة تعزز هيمنته على السلطة، وتقزيم السلطات التي يمكن أن تمثل تحديًا أمام توجهاته، وتفتح الباب أمام إمساكه بمفاصل المشهد في الداخل. في هذا السياق، فإن الدعوة إلى كتابة دستور جديد، تمثل إحدى آليات تثبيت النفوذ من جهة، ويمكن توظيفها في التحايل على التراجع الحادث في شعبية الحزب الحاكم، بصرف الانتباه إلى حدث مغاير من جهة أخرى.



 2– مهادنة حزب الحركة القومية: مع التدهور الحاد في شعبية حزب الحركة القومية الذي يقوده دولت بهجلي، وتراجع فرص دخوله البرلمان في الانتخابات المقبلة إذا ظلت العتبة الانتخابية على وضعها الحالي (10%)؛ ففي هذا السياق، فإن أحد أهداف كتابة دستور يرتبط بتحقيق مطالب "الحركة القومية"، ومنها إدخال تعديلات على قانون تأسيس الأحزاب السياسية، تمهيدًا لإغلاق حزب الشعوب الديمقراطي (الجناح السياسي للأكراد). وكان رئيس حزب الحركة القومية قد أعلن في 2 فبراير الماضي عن حاجة تركيا إلى دستور جديد، وأضاف في بيان له: "من الواضح أن تركيا بحاجة إلى دستور جديد.. وإن هدف ومنظور وفكر حزب الحركة القومية يصب في هذا الاتجاه".



 3– محاصرة دعوات المعارضة الإصلاحية: يستهدف الرئيس التركي من وراء الدعوة إلى كتابة دستور جديد، الالتفاف على دعوات الإصلاح التي تروج لها المعارضة، والتي ترتكز في الأساس على أهمية العودة إلى النظام البرلماني، بينما يسعى أردوغان إلى حماية النظام الرئاسي الذي وفَّر بيئة خصبة لتمكينه من إحكام السيطرة على هياكل الدولة ومؤسساتها. في المقابل، تصاعدت مخاوف العدالة والتنمية على النظام الرئاسي مع بدء المعارضة الاستعداد لتشكيل لجنة دستورية مشتركة للانتقال إلى نظام برلماني، كما تصاعد قلق الرئيس التركي مع نجاحات استراتيجية "بناء الأصدقاء" التي اعتمدها حزب الشعب الجمهوري في توسيع الائتلاف الحزبي المعارض "تحالف الأمة"، في ظل تنامي مساحات التفاهم مع الأحزاب التي خرجت من رحم الحزب الحاكم، وهما: الديمقراطية والتقدم، وحزب المستقبل.



 4– استيعاب الضغوط الخارجية: يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من خلال التوجه نحو إثارة الحديث عن كتابة دستور جديد، إلى مواجهة الانتقادات الخارجية التي تتعرَّض لها تركيا في مجال حقوق الإنسان وحرية التعبير؛ ففي تقييمها لعام 2020، وضعت منظمة فريدوم هاوس، تركيا على قائمة الدول "غير الحرة"، كما أشار تقرير صدر في 29 ديسمبر 2020 من منظمة إكسبريشن إلى أنه "من بين جميع أعضاء مجلس أوروبا البالغ عددهم 47، فإن تركيا لديها معظم انتهاكات حرية التعبير بموجب المادة 10 من الاتفاقية".



 5– مناورة لتجنب الانتخابات المبكرة: مع تصاعد دعوات المعارضة إلى إجراء انتخابات مبكرة، على خلفية انتكاسة للداخل، وتراجع مناعة تركيا إقليميًّا ودوليًّا؛ يجد الرئيس التركي وحليفه "القومي" مدفوعًا نحو كتابة دستور جديد؛ لتأمين سيطرته على المشهد حال إجراء اقتراع مبكر. وتضغط المعارضة باتجاه ضرورة إجراء انتخابات مبكرة؛ بسبب تنامي حالة الاستقطاب المجتمعي، والانشقاقات داخل الحزب الحاكم، وتفاقم الأزمة الاقتصادية الراهنة، إضافةً إلى الارتدادات السلبية التي أسفر عنها الانخراطُ التركي في صراعات الإقليم على موقع وموضع تركيا خارجيًّا. والأرجح أن الأزمات التي تعانيها تركيا تُفاقِمُ أزمة العدالة والتنمية، وتجعله في المرحلة الراهنة أقلَّ قدرةً على حشد قواعده الانتخابية حال إجراء انتخابات مبكرة. ويكفي دليلاً على مواجهة المخاطر لأردوغان، تعرُّض حزبه في عام 2019 لهزيمة انتخابية كبرى في الانتخابات البلدية؛ حين خسر مدينتي إسطنبول وأنقرة اللتين كان الحزب الحاكم يسيطر عليهما منذ ربع قرن.



 ختامًا، فإن تحركات الرئيس التركي نحو الدفع لكتابة دستور جديد، لا تنفصل عن محاولة استيعاب ضغوط الداخل التركي، والقفز على الأزمة الاقتصادية التي تعانيها البلاد منذ عام 2018، إضافةً إلى محاصرة نفوذ المعارضة التي تحولت إلى رقم صعب في المعادلة السياسية، خاصةً في ظل استمرار الانشقاقات داخل الحزب الحاكم، إضافة إلى قطع الطريق على دعوات المعارضة إلى ضرورة إلغاء النظام الرئاسي والعودة إلى النظام البرلماني.

لماذا يدعو الرئيس التركي إلى كتابة دستور جديد؟