إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

تتجه الإدارة الانتقالية الجديدة في سوريا نحو تفعيل آلية "الحوار الوطني"؛ لتجاوز الإشكاليات الانتقالية التي تشهدها البلاد بعد انهيار حكم "الأسد" في 8 ديسمبر 2024؛ حيث أعلنت في 20 ديسمبر 2024 عن عقد اجتماع موسع لإطلاق حوار وطني شامل خلال الأيام المقبلة، بهدف تعزيز الاستقرار، ومواجهة التحديات المتزايدة. ويُنظر إلى دعوات "الحوار الوطني" كإطار تنسيقي جامع للفاعلين في قضايا الداخل؛ بهدف التشاور والوصول إلى خريطة عمل داعمة لمسارات بناء الدولة الجديدة، والتحايل على الملفات الشائكة التي أفرزتها حقبة "الأسد". وتزامنت الدعوة للحوار الوطني، مع تظاهر المئات من النساء والرجال في ساحة الأمويين بدمشق في 19 ديسمبر 2024 للمطالبة بنظام حكم مدني.قضايا الحوارمن المتوقع أن يتطرق الحوار الوطني المرتقب في سوريا إلى جملة من القضايا، يتمثل أبرزها فيما يلي: 1- تأسيس مجلس انتقالي موسع ومؤقت: يرجح أن تكون قضية تشكيل هيئة للحكم الانتقالي في سوريا، من حيث مهامها وجدولها الزمني ضمن أولويات الحوار الوطني المقترح، على أن تشمل جميع السوريين، وأن تكون ذات مصداقية وغير قائمة على أساس طائفي، وضمن جدول زمني محدد.2- حسم الجدل بشأن القرار الأممي 2254: تتنامى مساحة الجدل في الساحة السورية بشأن مستقبل القرار الأممي 2254، الذي تنص مادته الرابعة على دعم عملية سياسية بقيادة سورية، تيسرها الأمم المتحدة، وتقيم في غضون فترة مستهدفة مدتها 6 أشهر، حكماً يتمتع بمصداقية يشمل الجميع و"لا يقوم على الطائفية".وبينما تدعو أطراف المعارضة المدنية السورية – ومن بينها "الائتلاف الوطني السوري" و"هيئة التفاوض السورية" – إلى تفعيل هذا القرار، بالإضافة إلى وجود توجه إقليمي ودولي بشأن إجراء العملية الانتقالية في سوريا وفقاً للمرجعيات الدولية؛ فإن قائد "هيئة تحرير الشام" "أحمد الشرع"، كان قد ألمح في 17 ديسمبر 2024 خلال لقائه مع المبعوث الأممي إلى سوريا "جير بيدرسون"، في دمشق، إلى ضرورة إعادة النظر في القرار 2254؛ لأن الواقع في البلاد تغير.3- وضع مرجعيات حاكمة لمستقبل الدولة السورية: يُرجح أن يتم وضع مرجعيات حاكمة بشأن مستقبل بناء الدولة السورية، وتقوم على عناصر محددة، منها الالتزام بتوصيات ومخرجات الحوار، بالإضافة إلى احتمال استبعاد القوى التي مارست العنف أو شاركت فيه أو حرضت عليه خلال فترة حكم "بشار الأسد"، وكذلك توسيع المناقشات المتعلقة بمواد قانون مباشرة الحقوق السياسية، وقضية ماهية النظام الانتخابي، فضلاً عن الرقابة القضائية على الاستحقاقات السياسية المقبلة.4- التمهيد لكتابة دستور توافقي جديد: ستكون مسألة إنشاء لجنة دستورية مكلفة بصياغة الميثاق الأساسي لسوريا، خطوة أساسية في الحوار الوطني. وبحسب تصريحات مسؤولي الإدارة السورية الجديدة، وبعض القوى السياسية الفاعلة، فإن الحوار الوطني سيركز على تمهيد الطريق لكتابة دستور توافقي ليتم طرحه للاستفتاء، ثم إجراء انتخابات على أساس هذا الدستور، الذي يمثل ضمانة مهمة لإيجاد مخرج من الأزمات الموروثة من نظام "الأسد". وعلى ضوء ذلك، يُرجح طرح رؤى تتعلق بطبيعة النظام السياسي السوري، والعلاقات بين السلطات الرئيسية في نظام الحكم.5- تحديد كيفية التعاطي مع ملف الأقليات: وفقاً للعديد من الاتجاهات، فإن المسألة القومية، وتحديد وضع الأقليات، وخاصةً الأكراد، سيكون بنداً رئيسياً في الحوار الوطني السوري، خاصةً أن المسألة القومية تُعد من أهم التحديات التي تواجه المرحلة الحالية في سوريا. وهنا، يمكن فهم اقتراح المعارضة المدنية السورية إنشاء لجنة مصالحة من شأنها تسهيل عملية الانتقال وتوحيد الجماعات المنعزلة، باعتبار ذلك أمراً بالغ الأهمية لضمان شرعية أي حكومة سورية مستقبلية.6- بحث حالة التأزم الاقتصادي في سوريا: من المرجح أن يكون الملف الاقتصادي من أهم قضايا الحوار الوطني المنتظر. ويزاد هذا الملف إلحاحاً لاعتبارين مهمين، أولهما تصاعد حدة التأزم الاقتصادي، بفعل استمرار العقوبات الاقتصادية على سوريا؛ حيث أقر مجلس النواب الأمريكي في 12 ديسمبر 2024 قانون تفويض الدفاع الوطني، ويتضمن تمديد عقوبات "قانون قيصر" حتى عام 2029، التي تنطبق على الأعمال التجارية في سوريا.أما ثانيهما فيتمثل في تباين الرؤي بشأن طبيعة التوجه الاقتصادي للبلاد، وهل تتجه سوريا نحو اقتصاديات السوق الحر، وهو التوجه الذي يتعارض مع قطاع واسع من التيارات الدينية المؤدلجة، أم ستمتلك الدولة مقومات الإنتاج، أم سيُترك الاقتصاد مفتوحاً على كافة المذاهب.أهداف متعددة ثمة جملة من الأهداف المنشودة من وراء مؤتمر الحوار الوطني المرتقب في سوريا، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:&nbsp;1- تعزيز حالة الوفاق الوطني لأقصى مدى ممكن: يستهدف الحوار في جانب منه تعزيز حالة الوفاق الوطني لأقصى مدى ممكن في مواجهة التحديات النابعة من البيئتين المحلية والخارجية، بالإضافة إلى قطع الطريق أمام أي محاولات للمزايدة السياسية من قبل بعض الأطراف المحلية العلمانية والمدنية، التي من المحتمل أن يتجاوزها المشهد السياسي وتفاعلاته في المرحلة المقبلة، وهو ما ظهر في التظاهرات التي شهدتها ساحة الأمويين في 19 ديسمبر 2024 للمطالبة بدولة مدنية علمانية.2- تهيئة المجال العام لبناء سوريا الجديدة: في رؤية "الجولاني" وحكومته الانتقالية، يمكن توظيف دعوة الحوار الوطني تمهيداً لإعادة تهيئة المجال العام لبناء الدولة السورية الجديدة وفقاً لقناعات "هيئة تحرير الشام". وعلى ضوء ذلك، فإن الدعوة إلى المؤتمر الوطني، تمثل رافعة يمكن البناء عليها في التوقيت الحالي لتحقيق أوسع نطاق من المشاركة بين الفاعلين المؤثرين في المشهد السياسي الحالي لمصلحة بناء الدولة الجديدة.3- وقف العنف في مناطق شمال وشرق سوريا: تعي الإدارة الانتقالية أن إمكانية احتواء قوات سوريا الديمقراطية "قسد" أو تحييد قدراتها العسكرية ربما يكون هدفاً بعيد المنال في التوقيت الحالي؛ ولذلك ربما اختار "الجولاني" مسار الحوار الوطني كمحاولة لتفكيك العقدة الكردية، ووقف العنف الدائر في مناطق شمال وشرق سوريا، من خلال مجموعة من الحوافز السياسية يمكن أن تقدمها جلسات الحوار الوطني.&nbsp;4- التمكين لنموذج حكم "هيئة تحرير الشام": لا تنفصل دعوة "هيئة تحرير الشام" إلى الحوار الوطني عن رغبتها في تثبيت موقعها في السلطة، من خلال توظيف تكتيك الحوار، باعتباره وسيلة مهمة لتحشيد مواقف الأطراف المحلية على اختلاف اتجاهاتها وتوجهاتها لتسويق تجربة "الجولاني" في إدارة السلطة. وهنا، يمكن تفسير إبداء "الجولاني" وحكومته المؤقتة حرصاً لافتاً على دعوة أطياف مختلفة من القوى السياسية، ووجهاء العشائر، باعتبار أن ذلك يساهم في تطوير الصورة النمطية لـ"الجولاني" وتبييض صورة الهيئة في آن معاً.إشكاليات ضاغطةرغم الزخم الذي صاحب إطلاق الدعوة للحوار الوطني، فإن ثمة مجموعة من الإشكاليات قد تواجه الحوار، وتمثل تحدياً في تحقيقه إنجازاً ملموساً، ويمكن بيانها كالتالي:1- غياب الرؤية الحاكمة لترتيبات الحوار الوطني: على الرغم من تأكيد الإدارة الانتقالية السورية الجديدة أهمية الحوار الوطني، فإن المتابع لتصريحات "الجولاني"، يُدرك التناقض والالتباس في بعض جوانبها؛ فعلى سبيل المثال، لم يحدد القوى السياسية والمدنية التي سيتعاطى معها،&nbsp;كما لم تتضح الصورة بشأن كيفية اختيار أعضاء مؤتمر الحوار الوطني المرتقب ومدى تمثيله للسوريين بلا استثناء، لا سيما مع استمرار حالة الغموض التي تحيط باللجنة التحضيرية التي يُفترض أن تتولى ترتيبات المؤتمر الوطني، بالإضافة إلى مهمتها بشأن وضع معايير لاختيار الشخصيات التي ستشارك في المؤتمر.وبالتوازي مع ذلك، تشير بعض التحليلات إلى غياب مقومات رئيسية ينبغي أن تستبق الحوار الوطني الشامل، من بينها، على سبيل المثال، إعلان دستوري مؤقت، أو إعلان ينص على العودة إلى دستور عام 1952؛ وذلك لضمان أن تكون الإجراءات المرتبطة بعملية الانتقال محصنة بإطار دستوري وقانوني.2- الرفض الكردي للانخراط في الحوار الوطني: تشير بعض التقديرات المحلية إلى عدم انخراط التيار الكردي في الحوار الوطني، خصوصاً بعد إعلان "الجولاني" في 21 ديسمبر 2024، أن جميع الفصائل العسكرية سيتم إدماجها في مؤسسة واحدة تحت إدارة وزارة الدفاع في الجيش السوري الجديد، ناهيك عن تعيين المهندس "مرهف أبو قصرة" وزيراً للدفاع، وهو الذي أكد في تصريحات له أن مناطق سيطرة القوات الكردية ستُضم إلى الإدارة الجديدة للبلاد، معلناً رفضه الفيدرالية، واقترح إقامة "منطقة منزوعة السلاح" في "كوباني" شمال سوريا.3- تزايد التأثير الخارجي على تفاعلات الداخل: وفقاً لبعض التقديرات، فإن كثافة الانخراط الدولي والإقليمي في المشهد السوري بعد سقوط "الأسد"، والحراك الخارجي المتصاعد للتأثير في مسار مستقبل سوريا، يُتوقع أن يلقي بظلال سلبية على الحوار الوطني السوري، وتوجهاته وخياراته؛ فعلى سبيل المثال، في الوقت الذي تتجه فيه واشنطن إلى محاولة فرض نوع من الوصاية على المشهد السوري، وهو ما تجلى في تصريحات مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية خلال زيارتها إلى دمشق في 20 ديسمبر 2024، التي قالت فيها: "ناقشنا مع الشرع المبادئ التي اتفقت عليها واشنطن مع شركائها في العقبة"، فإن القوى الأوروبية تبدو مترددة نسبياً تجاه الإدارة السورية الجديدة، وتربط تأييدها بضمان تأسيس مجتمع سوري متعدد الأعراق في إطار قائم على سيادة القانون.بالتوازي مع ذلك، يلعب الجانب التركي دوراً معتبراً في التمكين لـ "الجولاني" والفصائل الموالية لها، بينما تتخوف قوى إقليمية وعربية من وصول تيار ديني متشدد إلى صدارة المشهد السوري، وتسعى إلى فتح قنوات مع الائتلافات المدنية السورية.4- ضعف الكيانات المدنية السورية: تمثل منظمات المجتمع المدني نقطة استناد استراتيجية لإنجاح أي حوار وطني، وضمانة مهمة لتعزيز حالة الاستقرار السياسي عقب انهيار الأنظمة الحاكمة، بالإضافة إلى دورها الفاعل في المراحل الانتقالية. بيد أن النقابات ومنظمات المجتمع المدني السورية، في التوقيت الحالي، تبدو غير مؤهلة فعلياً لتمثيل النخبة السياسية والرأي العام في سوريا، كما أن القوى المدنية، وبخاصة الائتلاف الوطني، واجه تحديات صعبة خلال السنوات الماضية أدت إلى تآكل جانب معتبر من دوره.معالجة الشكوك وختاماً، يمكن القول إن دعوة الإدارة الانتقالية السورية إلى حوار وطني شامل، تعكس رغبة "هيئة تحرير الشام" وقائدها "أحمد الشرع" في تهدئة الساحة السياسية، ومعالجة الشكوك بشأن الميول الإسلامية للنواة الصلبة للنخبة السورية خلال المرحلة المقبلة، بيد أن ثمة مجموعة من الإشكاليات المنهجية يُرجح أن تمثل حجر عثرة أمام تحقيق اختراق ملموس في الملفات السورية الشائكة.

ما التحديات أمام الحوار الوطني المرتقب في سوريا؟