إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

اختتما وزيرا الخارجية والجيوش (الدفاع) الفرنسيان "كاترين كولونا" و"سيباستيان ليكورنو"، زيارتهما إلى منطقة غرب أفريقيا، التي امتدت ليومين، في 15 و16 يوليو الجاري، وهي الأولى من نوعها بعد انتخاب الرئيس ماكرون لولاية ثانية؛ حيث ارتبطت الزيارة بعدد من المتغيرات الرئيسية قد يكون أهمها محاولة الرئيس الفرنسي تعزيز الدور الخارجي لفرنسا باعتباره أداة يمكن من خلالها مواجهة التحديات والأزمات الداخلية المتصاعدة، ناهيك عن تبني باريس استراتيجية جديدة لمواجهة الإرهاب والتحديات الأمنية في غرب أفريقيا بعد تخفيض عدد قواتها في المنطقة.دلالات التوقيتتأتي زيارة الوزيرين الفرنسيين إلى منطقة غرب أفريقيا في سياق تحديات اقتصادية وجيوسياسية تواجه الرئيس ماكرون مع بداية ولايته الثانية، وأهمها:1- زيادة الضغوط الاقتصادية الداخلية: حيث يواجه الرئيس ماكرون مع بداية ولايته الثانية ضغوطاً اقتصادية نتيجة ارتفاع معدلات التضخم وتراجع قيمة العملة الأوروبية (اليورو) مقابل الدولار، من جراء استمرار الحرب الأوكرانية، وقلق المستثمرين من تأثير التوقف المحتمل لإمدادات الغاز الروسي على الاقتصاد الفرنسي (20% من إمدادات الغاز الروسي) واقتصادات منطقة اليورو بوجه عام.2- فقدان الرئيس ماكرون الأغلبية المطلقة داخل الجمعية الوطنية: وهو الأمر الذي يؤثر على قدرة الرئيس على المناورة داخل البرلمان الفرنسي في قضايا السياسة الخارجية. وقد أخفق ماكرون بالفعل في تمرير قانون الأمن الصحي في ظل المعارضة اليسارية الراديكالية واليمينية المتشددة.3- التداعيات الأمنية للحرب الأوكرانية: وهي التداعيات التي انعكس تأثيرها على العقيدة العسكرية الفرنسية، في تبني فرنسا استراتيجية جديدة تركز على إعادة نشر قواتها، وكان هذا لافتاً وملحوظاً في العرض العسكري خلال الاحتفال بالعيد الوطني؛ حيث حرصت فرنسا على إظهار قوتها العسكرية وتطوير قدراتها الإلكترونية والدفاعية، لا سيما مشاركة قوات أوروبية من الجوار الروسي، ومن ثم تحول العقيدة الفرنسية إلى التركيز على الحرب مع قوى متكافئة تتطلب عدداً من الجنود أكثر من التركيز على الحرب مع قوى غير متكافئة مثل التنظيمات الإرهابية في المناطق المختلفة لا سيما منطقة الساحل الأفريقي، وهو ما يكشف عن تحول عميق في العقيدة العسكرية الفرنسية.استراتيجية جديدةتهدف الزيارة إلى التمهيد لتنفيذ استراتيجية فرنسية جديدة لمواجهة الإرهاب والتحديات الأمنية في المنطقة؛ إذ ذكر ماكرون بعض ملامحها في خطابه أمام القوات المسلحة الفرنسية، عشية الاحتفال بالعيد الوطني، في 13 يوليو الجاري، بالإضافة إلى تصريحات المسؤولين الفرنسيين. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى عدد من الأهداف الرئيسية المرتبطة بزيارة وزيري الخارجية والجيوش الفرنسيين إلى المنطقة؛ وذلك على النحو الآتي:1- الاستعداد لمرحلة ما بعد انهاء مهام عملية برخان: وذلك في الربع الأول من عام (2022)، في إطار استراتيجية فرنسا الجديدة لتقليص وجودها العسكري في المنطقة، وإعادة تنظيم ما تبقى من قوات للمشاركة في قوة تاكوبا؛ حيث قال الرئيس الفرنسي إن "وجوداً عسكرياً أصغر حجماً وأقل تعرضاً للخطر في منطقة الساحل هو ضرورة استراتيجية"، وبرغم أن ماكرون لم يحدد سوى بعض ملامح هذه الاستراتيجية فإنه دعا وزير الجيوش الفرنسية إلى صياغة هذه الاستراتيجية بحلول سبتمبر القادم".2- التخطيط لإعادة التموضع العسكري في المنطقة: ففرنسا تعمل على تقليص الوجود العسكري في غرب أفريقيا من نحو 5000 إلى 2500 جندي فرنسي، وإعادة نشر القوات المتبقية في دول المنطقة؛ حيث عبرت تصريحات الرئيس الفرنسي في خطابه أمام القوات المسلحة الفرنسية عن ذلك بوضوح؛ حيث أشار إلى أن "فرنسا ستواصل التزامها ضد الإرهاب في أفريقيا بعد برخان لكن بأسلوب مختلف وبحزم وستكون أهدافها أن تكون القوات الفرنسية أقل انكشافاً وأن تحافظ على علاقات أكثر حميمية بالجيوش الأفريقية".3- منح الجيوش الأفريقية دوراً أكبر في الحرب على الإرهاب: وذلك لتكون في الصفوف الأمامية. وتعكس التحركات والاتصالات الفرنسية تركيزاً واضحاً على بعض دول المنطقة، لا سيما النيجر وتشاد وساحل العاج؛ حيث ترتبط باريس مع هذه الدول باتفاقيات أمنية وعسكرية. فيما ستعمل باريس، بالتعاون مع الدول الأوروبية، على تقديم الدعم العسكري واللوجستي وقيادة العمليات، وسيكون دورها قاصراً على تقديم الدعم اللوجستي والاستخباراتي وقيادة العمليات العسكرية المشتركة وتدريب وتوجيه القوات.وقد أوضح وزير الجيوش الفرنسية سيباستيان ليكورنو، خلال زيارته إلى ساحل العاج، ذلك قائلاً: "فرنسا وشركاؤها سيعملون على النظر في الاستخبارات وقابلية التفعيل المتبادل لقواتنا المسلحة ودور القوات الفرنسية عندما تكون متمركزة مسبقاً في بلد، كما في ساحل العاج التي تشكل إلى حد ما نموذجاً أساسياً لما نريد تطويره مستقبلاً"، متعهداً بالإعلان عن ذلك في الخريف أو في نهاية العام الجاري.4- تقديم مساعدات التنمية لدول غرب أفريقيا: وذلك من خلال ربط التنمية بمكافحة الإرهاب. وفي هذا السياق، وقعت باريس ونيامي على قرض قيمته 50 مليون يورو لتعزيز شبكة كهرباء النيجر، ومنحة بقيمة 20 مليون يورو؛ حيث تحصل النيجر على مساعدات فرنسية متزايدة، وهي من الدول ذات الأولوية في مساعدات التنمية الفرنسية، وقد حصلت في عام 2021 على نحو 143 مليون يورو. وعلى مدى السنوات العشر الماضية، زادت وكالة التنمية الفرنسية (AFD) من التزاماتها في النيجر عشرة أضعاف. وأعلنت السيدة كولونا أن فرنسا ستزيد أيضاً مساعدتها الغذائية للنيجر بنسبة 66% في عام 2022، لتبلغ 8 ملايين يورو.5- تقليص التكلفة الاقتصادية والسياسية للعمليات الفرنسية في المنطقة: وخاصةً بعد تزايد حدة الانتقادات الفرنسية والأفريقية للسياسة الفرنسية، وبعد مضي ما يقرب من عشر سنوات على بدء عملياتها في مالي خضعت الأخيرة للنفوذ الروسي، ومن ثم تكبدت باريس تكلفة سياسية واقتصادية باهظة؛ لذلك يرى مراقبون أن الاستراتيجية الفرنسية الجديدة قد تأثرت بالانسحاب الأمريكي من أفغانستان واتجاه الولايات المتحدة إلى تقليص نفقاتها الدفاعية في الخارج من خلال تقليص وإعادة نشر قواتها؛ حيث تبنت باريس هذا المنحى في ظل الضغوط الاقتصادية الداخلية والنفقات الدفاعية المتزايدة التي تفرضها التحديات الأمنية على الصعيد الأوروبي السالفة الذكر.6- مواجهة التحديات الأمنية على الصعيد الأوروبي: حيث فرضت هذه التحديات نفسها بقوة على الأجندة الأمنية الفرنسية. ويستعد الجيش الفرنسي لمواجهة تحديات جديدة ومتنامية تتعلق يخطر عودة الحرب الباردة، وخاصةً مع تنامي النفوذ الروسي والصيني في مناطق مختلفة من العالم، وقد عبرت تصريحات الرئيس ماكرون حول دوافع إعادة الانتشار الفرنسي عن ذلك بوضوح، وقال: "الحرب تعود بقسوة إلى التراب الأوروبي". وقال: "نحن نرى أنه يتعين علينا إعادة تقييم طموحنا". 7- تأكيد أهمية العلاقات مع النيجر: حيث تعكس زيارة وزيري الخارجية والدفاع الفرنسيين إلى النيجر ضمن جولتهما بالمنطقة رؤية باريس للنيجر باعتبارها نقطة ارتكاز وانطلاق للاستراتيجية الفرنسية الجديدة في الساحل، وهي الشريك الرئيسي الجديد في المنطقة، ويبدو بلداً راسخاً في مواجهة الإرهاب؛ إذ لم تتمكن التنظيمات الإرهابية من السيطرة على أجزاء من أراضيه مثل دول أخرى؛ لذلك تعهدت باريس بتقديم "الدعم العسكري" والاستخباراتي لجيش النيجر من أجل تأمين المنطقة الحدودية مع مالي. وقالت كاثرين كولونا بعد لقاء مع الرئيس محمد بازوم: "نحن هنا من أجل الاستجابة قدر الإمكان للاحتياجات التنموية ومحاربة الإرهاب".8- دعم الشراكة الأمنية والعسكرية مع ساحل العاج: فقد شملت جولة الوزيرين الفرنسيين زيارة ساحل العاج التي تعد نقطة ارتكاز في منطقة خليج غينيا؛ فقد ظلت أبيدجان في صدارة التعاون العسكري الفرنسي؛ حيث توجد بها قاعدة عسكرية ولوجستية فرنسية، وبها جالية فرنسية كبيرة تقوم بأعمال مربحة ومزدهرة. وتبدو ساحل العاج مهددة بتصاعد العمليات الإرهابية في توجو وبنين المجاورتين. وتعكس التوترات بين مالي وساحل العاج عقب اعتقال 49 جندياً من ساحل العاج في مالي، في 10 يوليو الجاري، وصفتهم باماكو بالمرتزقة، حجم الفجوة بين ساحل العاج الحليفة لباريس، ومالي الحليف لموسكو في المنطقة.وفي المجمل.. ثمة اهتمام فرنسي متنامٍ بالتخلي عن سياسة أمنية مستقلة وإدخال عمليات مكافحة الإرهاب تحت مظلة أوروبية، وتعزيز التعاون العسكري والأمني مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة؛ حيث تدرك باريس أنه لن يكون بمقدورها وحدها مواجهة النفوذ الروسي المتنامي؛ ولذلك قررت فرنسا إنهاء مهام قوات البرخان لتحل محلها القوة الأوروبية الخاصة "تاكوبا"، التي تشارك فيها فرنسا بنحو نصف القوات. وتعزز التفاهمات الأمريكية والفرنسية والأوروبية من هذا التوجه الفرنسي، لا سيما التنسيق والتعاون الأمني في مواجهة السياسة الروسية في مختلف المسارح الدولية ومنطقة الساحل خاصةً.

أبعاد زيارة وزيري الخارجية والدفاع الفرنسيين إلى منطقة غرب أفريقيا