نريمان عبد الفضيل

أعلن فريق الرئيس الأمريكي المنتخب "دونالد ترامب" أنه ينوي اتخاذ قرار بانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من منظمة الصحة العالمية في أول يوم له من تنصيبه في البيت الأبيض في 20 يناير 2025. وستخسر المنظمة في حال انسحاب واشنطن منها جزءاً كبيراً من تمويلها مما قد يعرض قدراتها على مكافحة الأزمات الطبية التي تواجه العالم للخطر. وقد سبق أن أخطر "ترامب" في أوائل يوليو 2020، خلال رئاسته الأولى، رسمياً الكونجرس بانسحاب بلاده من منظمة الصحة العالمية، بسبب رفض المنظمة تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، وبسبب اتهامات بتسترها على مدى انتشار وباء كوفيد-19 لصالح الصين، وكان من المفترض أن تكتمل عملية الانسحاب في يوليو 2021، إلا أن الأمر لم يكتمل بسبب خسارته في الانتخابات الرئاسية لعام 2020، وتوقيع الرئيس الأمريكي الحالي "جو بايدن" أمراً تنفيذياً في اليوم الأول من رئاسته في العشرين من يناير 2021 بإعادة واشنطن إلى المنظمة.عوامل محفزةثمة أسباب عديدة دفعت الرئيس الأمريكي المنتخب للإعلان عن نيته انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، ولعل من أهم الأسباب ما يلي:1- اتهام "ترامب" المنظمة بالعمل لصالح بكين: وجه الرئيس المنتخب "دونالد ترامب" خلال حملته الانتخابية انتقادات متكررة لمنظمة الصحة العالمية، استكمالاً لمواقفه السابقة التي تبناها خلال ولايته الأولى. ففي عام 2020، وخلال جائحة كوفيد-19، أعلن "ترامب" عن نيته انسحاب الولايات المتحدة من المنظمة، مع توجيه الأموال المخصصة لها إلى مجالات أخرى، متهماً المنظمة بالخضوع لتأثير الصين ونشر معلومات مضللة عن فيروس كورونا، مما اعتبره سبباً رئيسياً لانتشار الفيروس بسرعة على مستوى العالم.2- مواصلة "ترامب" تبني نهج "أمريكا أولاً": يتبنى الرئيس المنتخب "دونالد ترامب" سياسة "أمريكا أولاً"، التي تركز على تقليص التزامات الولايات المتحدة بالاتفاقيات متعددة الأطراف إذا تعارضت مع مصالحها وأولوياتها. وفي هذا السياق، عارض "ترامب" العديد من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالصحة العامة، مثل "اتفاقية الوباء" التي تهدف إلى تحسين الاستجابة العالمية للأوبئة. ويرى "ترامب" أن هذه المعاهدات تضر بالمصالح الوطنية الأمريكية، مما دفعه إلى تبني نهج يدعو إلى الانسحاب منها.3- الدفع نحو تفكيك أجندة "بايدن" الصحية: يمثل قرار الإدارة القادمة بانسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية تراجعاً عن السياسات التي تبناها الرئيس الحالي "جو بايدن"، والذي أعاد انضمام البلاد إلى المنظمة في أول يوم من توليه المنصب عام 2021. كما قد تتجه الإدارة الجديدة إلى إلغاء برامج أطلقتها إدارة "بايدن"، مثل برنامج "Cancer Moonshot" الذي يهدف إلى تسريع الأبحاث في مجال السرطان. بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن تقوم الإدارة بتخفيف القيود المفروضة على شركات الأدوية، مما قد يدفع إدارة الأغذية والعقاقير إلى تسهيل المعايير المطلوبة لمنح تراخيص الأدوية الجديدة.4- تعزيز دور القطاع الخاص في مجال الصحة: يعتزم الرئيس المنتخب "دونالد ترامب" العمل على إلغاء قانون الرعاية بأسعار معقولة، كما حاول في ولايته الأولى، بالإضافة إلى سعيه لإلغاء برنامج "Medicaid" الذي يوفر تغطية صحية للمواطنين ذوي الدخل المنخفض. كما يخطط لتقليص التمويل المخصص للتسجيل في الخطط التأمينية، مما قد يؤدي إلى زيادة كبيرة في تكاليف التأمين وارتفاع عدد الأفراد غير المؤمن عليهم. وستعزز هذه السياسات دور القطاع الخاص في تقديم الرعاية الصحية، لكنها ستجعل الحصول على الخدمات الصحية أكثر صعوبة للشرائح الفقيرة في العديد من الولايات، مما سيزيد من الأعباء على الأنظمة الصحية ويعمق التحديات القائمة.تداعيات متوقعةثمة عديد من التداعيات المحتملة جراء الانسحاب المتوقع للولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، ولعل من أهمها ما يلي:1- خسارة المنظمة جزءاً كبيراً من مصادر التمويل: سيؤدي انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية إلى خسارة المنظمة جزءاً كبيراً من ميزانيتها، حيث تُعد واشنطن أكبر مانح لها، بمساهمة بلغت نحو 16% من تمويل المنظمة خلال عامي 2022 و2023. وقد ساعدت هذه المساهمات في توفير 27% من ميزانية مكافحة شلل الأطفال، و19% للتصدي لأمراض مثل السل، وفيروس نقص المناعة البشرية، والملاريا، والحصبة. لذا سيترك انسحاب الولايات المتحدة فراغاً هائلاً في التمويل، لن تتمكن أي دولة أخرى من تعويضه بسهولة، مما سيؤثر بشكل كبير على جهود المنظمة في مكافحة الأمراض عالمياً.2- الإضرار بقدرة المنظمة على التعامل مع الأزمات المستقبلية: قد يؤثر انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية سلباً على قدرة المنظمة على التصدي للأزمات الصحية المستقبلية، مثل عودة ظهور شلل الأطفال والملاريا أو انتشار فيروسات جديدة مشابهة لفيروس كورونا. كما ستتأثر الشراكات العلمية العالمية التي تعتمد على التنسيق عبر المنظمة.وعلى الرغم من إعلان "ترامب" عزمه مواصلة تمويل الجهود الصحية عبر مؤسسات ومنظمات أخرى بدلاً من المنظمة، يرى خبراء الصحة أن التعاون المباشر مع منظمة الصحة العالمية ضروري لضمان التنفيذ الفعال لتلك الجهود. إذ يشدد الخبراء على أهمية دور المنظمة في إدارة العلاقات بين الدول والحفاظ على تدفق المعلومات الصحية، مما يجعلها عنصراً لا غنى عنه لمواجهة التحديات الصحية العالمية.3- زيادة نفوذ الصين داخل منظمة الصحة العالمية: قد يمنح انسحاب الولايات المتحدة المحتمل من منظمة الصحة العالمية، الصين فرصة لتوسيع نفوذها داخل المنظمة. إذ تسعى الصين بالفعل إلى تعزيز مكانتها الدولية من خلال تمويل مشاريع البنية التحتية الصحية، وتدريب المتخصصين في الرعاية الصحية. ومن المتوقع أن تزيد من دعمها للمنظمة لسد الفراغ الذي ستتركه الولايات المتحدة بعد انسحابها.وقد يلحق هذا التحول الضرر بمصالح الولايات المتحدة، إذ يعني تخليها عن دورها القيادي في قضايا الصحة العالمية لصالح الصين، التي قد تجعل هذه القضايا أولوية تخدم أجندتها الاستراتيجية. وقد يؤدي ذلك إلى تقويض النفوذ الأمريكي في تحديد السياسات الصحية الدولية، وإضعاف دورها في بناء الشراكات الصحية العالمية.4- فقدان تأثير واشنطن على العديد من المبادرات الصحية الدولية: سيؤدي خروج الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية وغيرها من المبادرات الصحية العالمية إلى فقدان تأثيرها على العديد من المبادرات الصحية الدولية، بما في ذلك توزيع الأدوية واللقاحات المستقبلية. كما ستفقد الولايات المتحدة حقها في التصويت داخل المنظمة، مما يقلل من قدرتها على تشكيل جدول أعمال الصحة العالمي. بالإضافة إلى ذلك، ستتحمل الولايات المتحدة تكاليف إضافية تُقدر بحوالي 11 مليار دولار سنوياً على برامج الصحة العالمية من خلال منظمات أخرى، مما يرفع العبء المالي على البلاد، ويحد من قدرتها على التأثير في السياسات الصحية الدولية.5- خفوت دور الولايات المتحدة في مجال الأبحاث الطبية: سيؤدي انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية إلى عواقب وخيمة على واشنطن في مجال الأبحاث الطبية، حيث تعتمد العديد من المؤسسات الأمريكية على التعاون مع المنظمة في المشاريع البحثية ومكافحة الأمراض. ومن أبرز هذه المشاريع تطوير لقاح الأنفلونزا الموسمية، حيث تعتمد شركات الأدوية الأمريكية على منظمة الصحة العالمية للحصول على العينات والبيانات الجديدة حول الفيروسات المنتشرة في مختلف البلدان لأغراض البحث والتطوير.كما تقود المنظمة مبادرة لتطوير اللقاحات وأدوات التشخيص ضد فيروس كورونا بالتعاون مع العديد من الدول. وإذا انسحبت الولايات المتحدة من هذه المبادرة، فإنها ستواجه صعوبة في الحصول على إمدادات اللقاحات النادرة، مما يؤثر سلباً على قدرة الأمريكيين على التصدي للأزمات الصحية العالمية.فرصة لبكين وختاماً، يمكن القول إن قرار الرئيس الأمريكي المنتخب "دونالد ترامب" بانسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية يُعد قراراً غير حكيم، إذ سيسمح للصين بتوسيع نفوذها داخل المنظمة، مما يتيح لها فرصة لملء الفراغ الذي ستتركه الولايات المتحدة في قيادة المبادرات الصحية العالمية. ولن يؤثر هذا الانسحاب فقط على قدرة الولايات المتحدة في التأثير على السياسات الصحية العالمية، بل سيمنح الصين الكلمة الأولى في التصويت على القرارات المرتبطة بالصحة العالمية. ومن ثم سيؤدي ذلك إلى تهميش دور الولايات المتحدة في هذا المجال الحيوي، ويضعف قدرتها على تشكيل أجندة الصحة العالمية، مما يعقد الجهود الدولية لمواجهة الأزمات الصحية المستقبلية.

ما دلالات اعتزام "ترامب" الانسحاب من منظمة الصحة العالمية؟