توصلت "حماس" وإسرائيل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، نتيجة وساطة مصرية–قطرية–أمريكية، بدعم إقليمي ودولي، وهو ما أكده الرئيس الأمريكي "جو بايدن" في بيانٍ له. ومن المرتقَب توقيع الاتفاق رسمياً عقب تصديق الحكومة الإسرائيلية عليه، على أن يدخل حيز التنفيذ يوم 19 يناير 2025.

ملامح الاتفاق

يمكن استعراض أبرز ملامح اتفاق وقف إطلاق النار، وفق ما خرج من تسريبات، وما تم تداوله من وثائق، وما كشفت عنه مصادر، خلال الساعات الأخيرة، على النحو التالي:

1– إفراج تدريجي عن الرهائن والمعتقلين خلال المرحلة الأولى: يحدد الاتفاق مرحلة أولية لوقف إطلاق النار تستمر ستة أسابيع، ويتضمن انسحاباً تدريجياً للقوات الإسرائيلية، وإطلاق سراح الأسرى الذين تحتجزهم حماس مقابل إطلاق سراح السجناء الفلسطينيين الذين تحتجزهم إسرائيل. وبحسب ما كُشف، فإن العدد الإجمالي للفلسطينيين المفرج عنهم سيعتمد على عدد الرهائن المفرج عنهم، وقد يتراوح بين 990 و1650 معتقلاً فلسطينياً، من بينهم رجال ونساء وأطفال.

ومن المفترض أن تُفرج حماس عن المحتجزين الإناث والشباب تحت 19 عاماً أولاً، ثم الرجال فوق 50 عاماً. أما إسرائيل فستفرج عن 30 معتقلاً فلسطينياً مقابل كل مُحتجز مدني، و50 مقابل كل جندية إسرائيلية تُفرج عنها حماس، كما ستفرج إسرائيل عن جميع النساء والأطفال الفلسطينيين دون سن 19 عاماً المحتجزين منذ 7 أكتوبر 2023 بحلول نهاية المرحلة الأولى.

وقد كشفت القناة 12 الإسرائيلية عن الجدول الزمني للإفراج عن الرهائن الإسرائيليين، وقالت إن اليوم الأول سيشهد الإفراج عن 3 رهائن، ثم 4 في اليوم السابع، ثم 3 في اليوم الرابع عشر، ثم 3 في اليوم الحادي والعشرين، ثم 3 آخرين في اليوم الثامن والعشرين، بالإضافة إلى 3 رهائن في اليوم الخامس والثلاثين، وأخيراً الإفراج عن الـ14 المتبقين الذين تشملهم المرحلة الأولى من الاتفاق التي تستمر لـ42 يوماً خلال الأسبوع الأخير.

2– دخول 600 شاحنة مساعدات يومياً إلى القطاع: يشمل الاتفاق السماح بدخول 600 شاحنة محملة بالمساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة كل يوم من أيام وقف إطلاق النار، 50 منها تحمل الوقود، مع تخصيص 300 شاحنة لشمال القطاع.

3– تخفيض الوجود الإسرائيلي بمحور فيلادلفيا: وفق التقارير، ستخفض إسرائيل تدريجياً قواتها في محور فيلادلفيا (صلاح الدين) على الحدود مع مصر خلال المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، على أن تستكمله في موعد أقصاه اليوم الخمسون للاتفاق، بينما تنسحب القوات الإسرائيلية بشكل كامل من ممر نتساريم خلال المرحلة الأولى.

وكشف مصدر أنه في اليوم السابع من المرحلة الأولى لوقف إطلاق النار تنسحب القوات الإسرائيلية كلياً من شارع الرشيد شرقاً إلى شارع صلاح الدين، ويتم تفكيك المواقع والمنشآت العسكرية في منطقة شارع الرشيد، وتتاح للسكان الحركة بحرية بجميع مناطق القطاع، ويعود النازحون إلى مناطق سكنهم، ثم في اليوم الثاني والعشرين، ينسحب الجيش الإسرائيلي من وسط قطاع غزة، خاصةً محوري نتساريم ودوار الكويت شرق طريق صلاح الدين إلى منطقة بمحاذاة الحدود.

4– انطلاق مفاوضات المرحلة الثانية بعد أسبوعين: ستبدأ المفاوضات بشأن المرحلة الثانية من الاتفاق في اليوم الـ16 من المرحلة الأولى. ومن المتوقع أن تشمل تلك المرحلة إطلاق سراح جميع الأسرى المتبقين، ومنهم الجنود الإسرائيليون الذكور، بالإضافة إلى وقف إطلاق النار الدائم، والانسحاب الكامل للجنود الإسرائيليين. وستبدأ المرحلة الثانية، التي ستستمر أيضا لـ42 يوماً في اليوم الـ43 من الاتفاق، وستتضمن الإفراج عن باقي الرهائن.

وكشف مسؤول مطلع لرويترز أن المرحلة الثانية من المتوقع أن تشمل إطلاق سراح جميع الرهائن المتبقين ومنهم الجنود الإسرائيليون الذكور، ووقف إطلاق النار الدائم، والانسحاب الكامل للجيش الإسرائيلي، ثم من المتوقع أن تشمل المرحلة الثالثة إعادة جميع الجثث المتبقية، وبدء إعادة إعمار غزة بإشراف مصر وقطر والأمم المتحدة.

سياقات ضاغطة

ظهرت بوضوح سياقات ضاغطة عززت الدفع نحو إبرام اتفاق وقف إطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل، وهي السياقات التي يمكن تناولها فيما يلي:

1– الخضوع للضغوط الأمريكية المزدوجة: مارست الولايات المتحدة، خلال الآونة الأخيرة، ضغوطاً مكثفة مزدوجة من خلال الإدارتين الديمقراطية المنتهية ولايتها، والجمهورية المنتخبة؛ فمن جهة، أطلق الرئيس الأمريكي المنتخب "دونالد ترامب" تحذيراً شديد اللهجة، 2 ديسمبر 2024، حينما أكد أنه إذا لم يتم إطلاق سراح الرهائن قبل تنصيبه في 20 يناير 2025، فستكون هناك "مشكلة خطيرة" في الشرق الأوسط. وضاعف "ترامب" تحذيراته حينما قال رداً على سؤال حول مفاوضات غزة في مؤتمر صحفي يوم 7 ديسمبر 2024: "إذا لم يتم إطلاق الرهائن بحلول موعد تنصيبي، فإن أبواب الجحيم ستُفتح على مصراعيها".

وعلى الجانب الآخر، تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن، أكثر من مرة، بالعمل على إنهاء حرب غزة، والتوصُّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار قبل نهاية ولايته، وحرص في الأيام الأخيرة على تسريع إبرام ذلك الاتفاق؛ لوضعه ضمن سجل "إنجازات" فترته الرئاسية.

كما شهدت الأيام الأخيرة تنسيقاً استثنائياً بين فريقي الإدارتين؛ حيث حضر في الدوحة كل من مبعوث "ترامب" إلى الشرق الأوسط ستيفن ويتكوف، بجانب كبير مستشاري "بايدن" لشؤون الشرق الأوسط بريت ماكجورك، وعملا معاً على وضع اللمسات النهائية للاتفاق، وفق ما كشفت عنه تقارير.

2– قناعة جميع الأطراف بصعوبة حسم حرب غزة: ثمة قناعة محلية لدى طرفي الصراع، وإقليمية ودولية، بصعوبة حسم الحرب في غزة لصالح أيٍّ من الطرفين؛ فمن جهة، نجحت تل أبيب في تنفيذ اغتيال كبار قادة الفصائل الفلسطينية وحلفائها في المنطقة، إلا أن الفصائل الفلسطينية لا تزال تُنهك الجيش الإسرائيلي، وتقوم بعمليات ينتج عنها مقتل وإصابة العديد من عناصره، فضلاً عن الكُلفة الضخمة لاستمرار الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي.

ومن ثم، رغم تسبب كلا الطرفين في خسائر للطرف الآخر، فإن كلَيهما لم يتمكنا من تحقيق أهدافهما الاستراتيجية؛ حيث أيقنت حماس صعوبة الحصول على مطالبها التي رفعتها في بداية الحرب، وأدركت أن قدراتها العسكرية وهيكلها القيادي تم تقويضهما إلى حد كبير، فيما أيقنت الحكومة الإسرائيلية أن هدفها الذي رفعته بالقضاء نهائياً على "حماس" لا يبدو واقعياً، وصعب المنال، حتى لو لم تعلن ذلك صراحةً.

3– تصاعُد ضغوط أهالي الرهائن على "نتنياهو": يواجه رئيس الوزراء الإسرائيلي ضغوطاً متزايدة منذ بدء الحرب. ومع توالي الإعلان عن مقتل رهائن إسرائيليين خلال الغارات الإسرائيلية المكثفة على قطاع غزة، تزايدت تلك الضغوط من قِبل عائلات المُحتجزين، بالإضافة إلى فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق رهانه الاستراتيجي بالكشف عن مواقع احتجاز الرهائن وتحريرهم بالضغوط العسكرية.

كما أدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي أن استراتيجية "التسويف" والوعود السياسية تتراجع فاعليتها يوماً بعد يوماً، بالإضافة إلى أنه يواجه أزمة سياسية داخلية ربما تكون أعمق من أن يراهن على استمرار الحرب كتكتيك دفاعي لتجاوزها والاستمرار في الحكم، فضلاً عن أن "نتنياهو" يراهن على عودة الرهائن كآلية لرفع أسهمه السياسية مرة أخرى؛ فمن المتوقع أن يُروِّج لنفسه سياسياً على اعتبار أنه نجح في تحرير الرهائن، مع نجاحه في تقويض قدرات حركة "حماس"، وتفكيك بنيتها العسكرية، على نحو ما سيروِّج.

4– مُسارعة حماس إلى قبول الصفقة قبل تنصيب "ترامب": على الجانب الآخر، كان ثمة قلق لدى حركة "حماس" من استمرار الحرب بعد تنصيب الرئيس الأمريكي المنتخب "دونالد ترامب"؛ فبخلاف التهديدات الحادة التي أطلقها "ترامب" حال عدم وقف الحرب قبل بدء فترته الرئاسية، فإن الحركة تُدرك أيضاً موقف "ترامب" المنحاز بشدة إلى إسرائيل، وعلاقته الوطيدة برئيس الوزراء الإسرائيلي، فضلاً عن توقعات تكثيف الدعم العسكري والسياسي الأمريكي لصالح إسرائيل خلال عهدة "ترامب"؛ لذلك خشيت الحركة أن يدعم الرئيس الأمريكي المنتخب تصعيداً إسرائيلياً حاداً ضدها.

5– رغبة إسرائيل في التفرُّغ للملف الإيراني: يتصاعد القلق داخل إسرائيل من تطورات الملف الإيراني، وترغب في تكثيف جهودها للحد من التهديدات المحتملة التي تطرحها تلك التطورات، وفق المنظور الأمني الإسرائيلي، خاصةً مع ترقُّب نهاية الاتفاق النووي الإيراني في أكتوبر 2025م؛ الأمر الذي ترغب إسرائيل في التركيز عليه، والتنسيق مع حلفائها الغربيين لاتخاذ استراتيجيات استباقية تجاه ذلك الملف، بالإضافة إلى اكتشاف إسرائيل أنها لم تقوِّض القدرات العسكرية الإيرانية بالقدر الذي تخيلته. ومن ثم فإن هناك قناعة إسرائيلية بأن حجم الضرر الذي تلقاه حزب الله وحماس، لا يجعلانهما على درجة كبيرة من الخطورة، مقارنةً بتطورات التسلُّح الصاروخي والبرنامج النووي في إيران، كما يرتبط بذلك أيضاً التفكير الإسرائيلي في سُبل تقويض قدرات الحوثيين في اليمن والبحر الأحمر.

6– عدم الرغبة في إحباط أطراف الوساطة بين الجانبين: مع تكرار انهيار مفاوضات وقف إطلاق النار، بدا هناك بعض الفتور والتململ لدى أطراف الوساطة التي أظهرت الاستياء من خوض مفاوضات طويلة "بلا جدوى"، ومن دون نية واضحة للتوصل إلى اتفاق، وهو ما ظهر على سبيل المثال، في إعلان الوسيط القطري تجميد دوره في المباحثات، قبل العودة مرة أخرى. ويمكن القول إن طرفَي النزاع، إذ يدركان أن هناك العديد من الظروف الدولية والإقليمية الدافعة نحو التوصل إلى اتفاق، فإنهما خشيا أن يؤدي انهيار المفاوضات هذه المرة إلى إحباط وانهيار مماثل لأدوار الوساطة التي يحتاجان إليها، خاصةً أن المفاوضات تلك المرة كان واضحاً أنها أقرب إلى النجاح من أي وقتٍ مضى.

7– حاجة "حماس" إلى ترتيب أوضاعها التنظيمية والعسكرية: كثَّفت إسرائيل ضغوطها على "حماس" التي واجهت تحديات عسكرية وتنظيمية ضخمة، لعل على رأسها مقتل رئيس المكتب السياسي للحركة، ومُخطط عملية "طوفان الأقصى" يحيى السنوار، بعد اغتيال سلفه في رئاسة المكتب السياسي للحركة "إسماعيل هنية"، بالإضافة إلى الضغوط العسكرية الإسرائيلية المستمرة، وهو ما يعني أن الحركة تحتاج إلى مزيد من الوقت لإعادة ترتيب أوضاعها الداخلية، واستقطاب المزيد من المقاتلين، وتعزيز قدراتها العسكرية، وبحث التعاطي مع أزمة القيادة داخل الحركة.

8– تفاقُم الأزمة الإنسانية في قطاع غزة: ثمة تحذيرات دولية متزايدة من تفاقم الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، خاصةً مع الاستهداف الإسرائيلي للمستشفيات والطواقم الطبية، مع تحذيرات من انتشار الأوبئة؛ لذلك كان التفاوض حول إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، ركناً أساسياً في مفاوضات وقف إطلاق النار، باعتباره احتياجاً محلياً، ومطلباً دولياً.

استحقاقات مؤجلة

ختاماً، رغم التفاؤل الإقليمي والدولي بنجاح مفاوضات وقف إطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل، فإن هناك العديد من التحديات التي تواجه مستقبل هذا الاتفاق، لعل أولها المناورة الإسرائيلية التي تجلَّت ملامحها في تأجيل تصديق مجلس الوزراء الإسرائيلي على الاتفاق، وادعاءات "نتنياهو" بشأن تراجع "حماس" عن التفاهمات، وهو ما نفته الحركة من جهتها، فيما أكدت تقارير أن الوسطاء تلقَّوا موافقة "حماس" على شروط الاتفاق قبل الإعلان عنه. بما يلفت إلى أن الاتفاق في مختلف مراحله سيشهد تجاذبات للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب، خاصةً في ظل رفض اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية لذلك الاتفاق، وتعامل "نتنياهو" معه كخيار اضطراري تحت وطأة الضغوط، وفق ما تؤكده التقارير.

بالإضافة إلى ذلك، كان من اللافت أن اتفاق وقف إطلاق النار أعطى الأولوية للقضايا الملحة المرتبطة بوقف إطلاق النار وتبادل المحتجزين والمعتقلين، فيما لم يتضمن تفاهمات واضحة حول القضايا الخلافية، التي تأجل معظمها إلى المرحلتين الثانية والثالثة اللتين سيجري التفاوض بشأنهما لاحقاً، بما يعني أن هناك العديد من التحديات التي تواجه المرحلتين المقبلتين من الاتفاق. وسيعتمد مستقبل الاتفاق برمته على المحادثات بشأن الاستحقاقات المؤجلة، وعلى رأسها مستقبل إدارة قطاع غزة، وملف إعادة الإعمار، والانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع، وصولاً إلى مفاوضات حل الدولتين التي يطمح الوسطاء والقوى الإقليمية والدولية إلى أن يكون الاتفاق خطوة رئيسية نحوها من أجل تسوية القضية الفلسطينية، فيما لا يبدو أن "نتنياهو" سيسمح بهذا التفاؤل أن يصل إلى مداه، ومن الممكن أن يستغل هذه الاستحقاقات الخلافية المؤجلة للدفع نحو انهيار الاتفاق عقب تبادل المحتجزين أو على الأقل معظمهم لتهدئة ذويهم.

العوامل المفسِّرة لنجاح جهود الوساطة في إقرار هُدنة غزة