إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

مع هزيمة تنظيم داعش في الباغوز بسوريا في مارس 2019، وفقدان التنظيم القدرة على القيام بتنفيذ عمليات إرهابية في الداخل الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، بجانب التراجع الشديد في أعداد المقاتلين الأجانب في صفوف التنظيم؛ بدأ داعش يلجأ إلى إنشاء وحدة استراتيجية بهدف استهداف الدول الغربية، تأتي تحت اسم استراتيجية "الظهور والتلاشي"، وتعتمد على العملية المفاجئة التي تقوم على محدودية النطاق واتساع التأثير، والبدائية في التكتيكات والأسلحة المستخدمة، وتحولها إلى عمليات انتقامية أو استنزافية، بعد أن كانت عمليات ذات أهداف توسعية، وأصبحت تعتمد بقدر أكبر على "الذئاب المنفردة" أو بتعبير أدق على "الذئاب الغاضبة". ويُترجَم لجوء تنظيم داعش إلى هذا التكتيك إلى تراجع قدراته وإمكاناته، ورغبته في إثبات الوجود، مع التحايل على الحصار الأمني، عبر الاعتماد على ما يوفره هذا التكتيك من صعوبة في تعقب العمليات الإرهابية أو التنبؤ بحدوثها.



الظهور والتلاشي:



بدأ تنظيم داعش يؤسس وحدة استراتيجية لاستهداف الدول الغربية، تنطلق من تكتيك جديد يأتي تحت اسم "الظهور والتلاشي"، والمقصود بها القيام بعمليات مفاجئة ضد الدول الغربية، تعتمد على الدهس والطعن والتفجير باستخدام العبوات الناسفة، وإطلاق النار وغيرها من الوسائل ذات التكلفة البشرية والمادية المحدودة للتنظيم. ويتسم تكتيك "الظهور والتلاشي" بما يلي:



1- تحديد المكان ذي التأثير الواسع: يتسم تكتيك "الظهور والتلاشي" بتحديد مكان الاستهداف؛ فغالبًا ما يتم تنفيذ العمليات الإرهابية المفاجئة والسريعة في مكان جغرافي هش، ومدينة غير العاصمة، ويُستخدم فيها أي سلاح متاح، إلا أن نطاق تأثيرها واسع النطاق، نظرًا إلى ما تُسفر عنه هذه العمليات.



2- استخدام أسلحة بسيطة ومتوافرة: تعتمد استراتيجية "الظهور والتلاشي" على وسائل بدائية، مثل العبوات الناسفة البدائية الصُنع، وعمليات القتل الفردي، والاختطاف، التي يمكن من خلالها إحداث تأثير أكبر وبتكلفة أقل، كما حدث في العملية الإرهابية التي وقعت في باريس يوم 25 سبتمبر 2020، والتي نفَّذها لاجئ من أصل باكستاني أسفرت عن إصابة 4 أشخاص بجروح متفاوتة في هجوم بسكين، وأعقبتها العملية الإرهابية التي وقعت في "نيس" جنوب فرنسا يوم 30 أكتوبر 2020، التي أسفرت عن ذبح امرأة كانت داخل كاتدرائية نوتردام، وطعن عامل في الكنيسة، وإصابة امرأة أخرى إصابة بالغة، توفيت إثرها في أحد الأمكنة القريبة من الكنيسة.



3- الاعتماد على "الذئاب الغاضبة": تقوم وحدة استهداف الدول الغربية التي أنشأها داعش، على الأفراد الغاضبين من مواطنين مسلمين غربيين، الذين يُطلق عليهم "الذئاب الغاضبة" من المتعاطفين مع التنظيم الذين يتلقون في الغالب التوجيه والتشجيع عبر الإنترنت، ويقومون بتنفيذ عمليات يتبناها داعش فيما بعد، دون أن يقدم التنظيم تكلفة مادية أو بشرية. فقد دعا الناطق السابق باسم تنظيم داعش أبو محمد العدناني؛ المتعاطفين مع التنظيم إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، ولو سكين المطبخ، حتى دون العودة إلى قيادة داعش، وهي الفلسفة التي قامت عليها وحدة استهداف الدول الغربية داخل تنظيم داعش.



ويُلاحظ هنا أن تنظيم داعش بدأ خلال عام 2020، وخصوصًا عقب سقوط "دولة الخلافة" المزعومة ومقتل قائد التنظيم أبو بكر البغدادي، في أكتوبر 2019؛ في استقطاب عناصر جنائية أو من خلفية جنائية من المقيمين في الدول الغربية، وبوجه خاص داخل السجون وأماكن الاحتجاز، بدون التركيز على الأبعاد الفقهية والفكرية، بل بالتركيز على استغلال حالات الغضب لدى الأفراد في عملية الاستقطاب، وتنفيذ عمليات إرهابية، وهو ما ظهر على نحو واسع النطاق عبر متابعة وتحليل العمليات الإرهابية التي نفذتها عناصر إرهابية في أوروبا خلال عام 2020.



فعلى سبيل المثال، وطبقًا للتحقيقات القضائية في تونس حول الإرهابي إبراهيم العيساوي منفذ عملية "نيس" بفرنسا في أكتوبر 2020؛ أعلن نائب وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس محسن الدالي، أن المشتبه به "ليس مصنفًا إرهابيًّا لدى السلطات التونسية، وغادر البلاد بطريقة غير قانونية في 14 سبتمبر 2020، ولديه سوابق قضائية في أعمال عنف ومخدرات"؛ حيث كان لفترة قريبة مدمنًا للمخدرات، وهو ما يشير إلى أن تنظيم داعش بدأ يعتمد على العناصر الجنائية كقوام لوحدة استهداف الدول الغربية.



دوافع الإنشاء:



تعددت التفسيرات بشأن إنشاء تنظيم داعش وحدة لاستهداف الدول الغربية؛ وذلك على النحو التالي:



1- تراجع قدرة داعش من حيث السيطرة على الأرض: مع سقوط "دولة الخلافة" المزعومة في الباغوز بسوريا في مارس 2019، لم يعد لتنظيم داعش سيطرة على الأرض في معظم مناطق نفوذه؛ ما دفع عناصره إما إلى الفرار أو الذوبان داخل المجتمع، وهو ما ترتب عليه تشرذم التنظيم، وخاصةً أفراده في الغرب؛ حيث لم يعد داعش قادرًا على وضع تكتيكات واسعة النطاق، أو التخطيط لعمليات منظمة في الدول الغربية. وقد دفع ذلك تنظيم داعش إلى وضع تكتيك جديد يُمكِّنه من تنفيذ عمليات إرهابية ضد الدول الغربية، بجانب السعي إلى استقطاب عناصر جديدة للتنظيم.



2- ضعف الموارد المالية لداعش: مع فقدان تنظيم داعش السيطرة على الأرض، تراجعت قدرته على توفير موارد مالية، خاصةً عقب فقدان التنظيم مراكز نفوذه، وشريحة واسعة من عناصره، وهو ما دفعه إلى البحث عن عمليات إرهابية تتم بأقل تكلفة وأقل عدد من الأفراد، في ظل عدم قدرة داعش على تمويل عمليات إرهابية واسعة النطاق من ناحية، وفقدانه العناصر التي انضمَّت لأسباب مالية في المقام الأول من ناحية أخرى، بالإضافة إلى العناصر التي أُلقي القبض عليها أو قُتلت أو هربت إلى الخارج، وهو ما جعل تكتيك "الظهور والتلاشي" جوهر وحدة داعش الجديدة الخاصة بالعمليات الإرهابية في الدول الغربية.



3- الانتقام من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة: نجحت الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، في تنفيذ العديد من العمليات النوعية ضد تنظيم داعش، أسفرت عن اغتيال وقتل العديد من قيادات الصفين الأول والثاني بالتنظيم، حتى زعيم التنظيم السابق أبو بكر البغدادي؛ ما دفع داعش إلى القيام بهجمات يصعب التنبؤ بها أو تتبعها، بحيث تتم بصورة خاطفة، وتحظى بتغطية إعلامية تؤكد استمرارية التنظيم؛ لضمان عدم زعزعة الثقة لدى أتباعه، وجاء ذلك عبر إنشاء وحدة نوعية لاستهداف الدول الغربية.



4- سعي داعش إلى التمدد واستعادة النفوذ: يبذل تنظيم داعش محاولات عديدة لإثبات استمراريته وبقائه، منذ قيامه بالانسحاب من مناطق لصالح التمدد في مناطق أخرى، واعتماد نمط "اللا مركزية في الانتشار والتمدد"، مع توسيع شريحة المؤيدين والمتعاطفين من خلال التركيز على الدول الغربية، وبوجه خاص الأقليات المسلمة واللاجئين، عبر إنشاء وحدة خاصة باستهداف الدول الغربية.



ضمان البقاء:



في المجمل، يحاول تنظيم داعش، عبر إنشاء وحدة نوعية لاستهداف الدول الغربية، ضمان استمراريته مع محدودية الإمكانات الحالية للتنظيم، وفقدان معظم قياداته ومناطق نفوذه، وهو ما ترتب عليه تراجع مصادر التمويل، وتراجع شعبية داعش الذي كان يعتمد بنسبة كبيرة على الترويج لما يقوم به من عمليات إرهابية منظمة وواسعة النطاق، وما بدا للعالم من سقوط مشروعه لإقامة "دولة إسلامية" مزعومة في العراق وسوريا؛ الأمر الذي ترتب عليه لجوء تنظيم داعش إلى إنشاء هذه الوحدة التي تعتمد على إمكانات ضئيلة وأسلحة بدائية، وتتم عملياتها بطريقة مفاجئة، في محاولة لإثبات وجود داعش.

لماذا أسس "داعش" وحدة استراتيجية لاستهداف الدول الغربية؟