د. محمود زكريا

تشهد تشاد الواقعة في إطار منطقة الساحل الأفريقي، تحولات أمنية رديكالية على مستوى مكافحة الإرهاب خلال الآونة الأخيرة. ويرتبط ذلك في الأساس بتهديد الرئيس التشادي "محمد إدريس ديبي" بالانسحاب من قوة المهام المشتركة المتعددة الجنسيات (MNJTF) لمحاربة جماعة "بوكو حرام" التابعة لمفوضية حوض بحيرة تشاد (LCBC) في 3 نوفمبر 2024. ويأتي ذلك الإعلان عقب هجوم إرهابي تعرضت له قاعدة عسكرية تشادية في منطقة "باركارام" الواقعة على بحيرة تشاد في 27 أكتوبر 202، وهو الهجوم الذي أسفر عن مقتل ما لا يقل عن (40) جندياً تشادياً، وهو ما دفع الرئيس التشادي إلى الإعلان عن تدشين عملية عسكرية لمجابهة هذه التهديدات الإرهابية، أطلق عليها عملية "حسكانيت". وقد ألقت هذه التطورات والمستجدات بظلالها حول الدلالات الكاشفة لتهديد انسحاب تشاد من هذه القوة، والمسارات المستقبلية المحتملة من جراء ذلك. دلالات بارزةثمة جملة من الدلالات الرئيسية المصاحبة لتلويح الرئيس التشادي "محمد إدريس ديبي" بالإنسحاب من قوة المهام المشتركة متعددة الجنسيات لمكافحة جماعة "بوكو حرام"، والتي تتمثل فيما يلي: 1– تصاعد وتيرة وخطورة الأنشطة الإرهابية: ولعل آخر مظاهر ذلك، الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له قاعدة تابعة للجيش التشادي من قِبل مسلحين من جماعة "بوكو حرام". وتقع هذه القاعدة في منطقة "باركارام"، وهي جزيرة في إدارة "كايا" بمقاطعة بحيرة تشاد. وقد أسفر الهجوم عن مقتل نحو (40) جندياً تشادياً. ويعد هذا الهجوم واحداً من أعنف الهجمات الإرهابية التي استهدفت تشاد خلال عام 2024، ولا سيما بعدما ألحق الجيش التشادي، بالتعاون مع جيوش دول نيجيريا والنيجر والكاميرون وبنين، خسائر كبيرة بفرع جماعة "بوكو حرام" الموالي لتنظيم "داعش" المعروف باسم "تنظيم داعش – ولاية غرب أفريقيا".2– اقتناع تشاد بعدم فاعلية قوة المهام المشتركة المتعددة الجنسيات: يرتبط ذلك بإعلان رئيس تشاد بشكل مباشر فشل هذه القوة في مكافحة الإرهاب في تشاد، في 3 نوفمبر 2024؛ حيث أكد في هذا الصدد غياب الجهود المشتركة لهذه القوة ضد العدو، بالرغم من تشكيلها بهدف تجميع الجهود والاستخبارات. والجدير بالذكر أن جذور هذه القوة تعود إلى عام 1994؛ حيث تأسَّست من قِبل نيجيريا للقضاء على الأعمال اللصوصية العابرة للحدود في إطار حوض بحيرة تشاد وتسهيل حرية الحركة عبر الحدود الشمالية الشرقية لنيجيريا. وعلى الرغم من أن هذه القوة في البداية كانت تتكون من قوات تابعة للجيش النيجيري فحسب، فإنها كانت تعمل بشكل قائم على تواصل وتنسيق مع الوكالات الأمنية التابعة للدول الأعضاء في إطار مفوضية حوض بحيرة تشاد (LCBC)، وكانت مقراتها تتمركز في مدينة "باجا" (Baga) التابعة لولاية بورنو (Borno) النيجيرية، وقد شهدت هذه القوة دفعة بحلول عام 1998؛ حيث أصبحت قوة متعددة الجنسيات؛ وذلك عبر ضم قوات من تشاد، وتم تفويض القوة في هذه المرحلة لمواجهة التحديات الأمنية المشتركة العابرة للحدود في إطار حوض بحيرة تشاد. وقد أدى تأسيس هذه القوة إلى تغيير دفة الأحداث والموقف الأمني غير المستقر في هذه المنطقة؛ وذلك حتى عام 2009، قبل أن تظهر جماعة بوكو حرام على سطح الأحداث، التي أدت إلى تدهور الوضع الأمني مجدداً.وقد تم تعزيز نطاق التفويض الممنوح لها مرة أخرى في أبريل 2012 ليشمل مكافحة التمرد والأعمال التخريبية. ونتيجةً لتدهور الموقف الأمني الإقليمي في منطقة بحيرة تشاد والسيطرة الإقليمية لبوكو حرام على شمال غرب نيجيريا وزيادة الأثر الانتشاري للعنف في دول الجوار الإقليمي لنيجيريا منذ مطلع عام 2014، تم تبني قرار من قِبل وزراء الدفاع ورؤساء الأركان لدول مفوضية حوض بحيرة تشاد في (ياوندي)؛ وذلك في مارس 2014 بشأن تأسيس قوة متعددة الجنسيات لتحقيق السلم والأمن في الإقليم.وتشكلت بالفعل هذه القوة بناءً على قرار صادر من القمة الاستثنائية لرؤساء الدول والحكومات لمفوضية حوض بحيرة تشاد (LCBC) المُنعقدة في "نيامي" بالنيجر؛ وذلك في 7 أكتوبر 2014. وقد تم نشر القوة بالفعل في يناير 2015. وتضم هذه القوة الدول الأعضاء في مفوضية بحيرة تشاد، وهي (نيجيريا، والنيجر، وتشاد، والكاميرون)؛ وذلك بجانب بنين دولةً غير عضو في المفوضية.3– تفضيل تشاد تدشين عمليات عسكرية وطنية مستقلة لمكافحة الإرهاب: لعل آخرها تلك العملية العسكرية التي أعلن عن القيام بها الرئيس التشادي "محمد إدريس ديبي" في أكتوبر 2024، والتي أطلق عليها عملية "حسكانيت"، وهي مأخوذة من "الحسك"، وهي كلمة عربية تُطلَق على نبتة شائكة شديدة المقاومة، وتوجد غالباً في المناطق الصحراوية، ومعروفة على نطاق واسع في تشاد والسودان ومنطقة الصحراء الكبرى، وتُشبِه نبات الصبار في شكلها وقدرتها على البقاء في ظروف جافة. ويقود هذه العملية العسكرية الرئيس التشادي بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولأنه قد كان جنرالاً سابقاً في الجيش قبل أن يتولى الحكم خلفاً لوالده "إدريس ديبي" الذي قُتل قبل أربع سنوات خلال معارك مع متمردين في أبريل 2021.وفي سياق الإعلان عن هذه العملية، أكد الرئيس التشادي إعادة تنظيم قوات الدفاع للتكيف مع تكتيكات الحرب غير المتكافئة التي تستخدمها الجماعات الإرهابية، وتعزيز التدابير لتأمين الحدود وحماية المواطنين. والجدير بالذكر أنه سبق أن شن الجيش التشادي عملية عسكرية ضد مواقع جماعة "بوكو حرام" داخل الغابات والجزر الواقعة في وسط بحيرة تشاد في يوليو 2024، وأسفرت عن مقتل ما لا يقل عن (70) مقاتلاً من مقاتلي الحركة، كما خاض الجيش التشادي عمليات عسكرية عدة في بقية دول الساحل، ومن بينها تلك التي كانت ضد معاقل "تنظيم القاعدة" في شمال مالي في عام 2013.4– لجوء النظام الحاكم إلى استراتجية الإدارة بالأزمات: تقوم هذه الاستراتيجية على فكرة "الهروب إلى الأمام" عبر تحريك اهتمامات الرأي العام بعيداً عن أزمات النظام السياسي في الداخل وتحريكها نحو الخارج، ولا سيما في ضوء أن تشاد مقبلة على انتخابات تشريعية في آخر ديسمبر 2024، وهي الانتخابات التي تقاطعها أحزاب المعارضة السياسية، والتي أشارت إلى أن الظروف غير مواتية لتنظيم انتخابات حرة وشفافة، بل إن أبرز وجوه هذه المعارضة – وهو المرشح للانتخابات الرئاسية الأخيرة "سوكسيه ماسرا" – قد أوضح أن ما يجري التحضير له هو مجرد انتخابات زائفة. والجدير بالذكر أن هذه الانتخابات تحظى بأهمية كبيرة؛ نظراً إلى كونها أول انتخابات تشريعية منذ عام 2011، كما أنها تأتي في سياق أمني صعب يرتبط بتصاعد الهجمات الإرهابية على الحدود مع نيجيريا والنيجر، والصراع الداخلي الدائر في السودان منذ 15 أبريل 2023.المسارات المحتملة ثمة مجموعة من المسارات الممكنة والمصاحبة لعملية الانسحاب المحتملة لتشاد من "قوة المهام المشتركة المتعددة الجنسيات" لمكافحة جماعة "بوكوحرام"، وهي المسارات التي تتمثل فيما يلي: 1– الابتعاد عن التنسيق والتعاون الأمني مع فرنسا: يدعم ذلك تنامي حالة السخط والاستياء حيال عدم فاعلية الأدوار الأمنية لفرنسا، سواء على مستوى النخب السياسية ممثلة في الأنظمة العسكرية الانتقالية، أو الشعوب في إطار منطقة الساحل بصفة عامة خلال السنوات الأخيرة، وهو ما ظهر جلياً في حركات الانسحاب العسكري لفرنسا من دول هذه المنطقة تدريجياً؛ حيث كانت البداية إنهاء عملية "برخان" في مالي في أغسطس 2022، وبعد ذلك إنهاء عملية "سابر" في بوركينا فاسو في فبراير 2023، وأخيراً إنهاء القاعدة العسكرية القائمة في النيجر المكونة من قرابة (1500) عنصر في ديسمبر 2023.2– التقارب الأمني المحتمل مع الولايات المتحدة الأمريكية: يدعم ذلك إعلان الجيش الأمريكي إعادة نشر قواته في تشاد بناءً على طلب من الأخيرة؛ إذ صرح بذلك الجنرال الأمريكي "كينيث إيكمان" من القيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا "أفريكوم" في مقابلة صحفية في 20 سبتمبر 2024، وأضاف أنه لم يتم الاستقرار على تحديد موعد لإعادة الانتشار، مع تأكيد نشر عدد محدود من القوات الخاصة انطلاقاً من مراعاة العداء المتزايد في المنطقة تجاه وجود القواعد العسكرية الأجنبية. والجدير بالذكر أن هذه الخطوة تأتي بعد قيام وزارة الدفاع الأمريكية بسحب قواتها من تشاد منذ نحو (6) أشهر بناءً على طلب من السلطات الحاكمة فيها في أواخر أبريل 2024.3– تنامي فرص توثيق الصلات الأمنية مع روسيا: يعزز من ذلك تنامي التفاعلات المشتركة بين الجانبين خلال الآونة الأخيرة، ولعل أبرز مظاهر ذلك إعلان وزارة الدفاع الروسية عن قيام قواتها بتنفيذ عملية عسكرية مشتركة مع الجيش التشادي في مايو 2024، وهي العملية التي أسفرت عن تحرير نحو (21) عسكرياً تشادياً كانوا رهائن منذ أكثر من (9) أشهر لدى جماعات متطرفة في جمهورية أفريقيا الوسطى. وكذلك قيام وزير الخارجية الروسي "<a href="https://www.ajnet.me/encyclopedia/2014/10/13/%D8%B3%D9%8A%D8%B1%D8%BA%D9%8A-%D9%84%D8%A7%D9%81%D8%B1%D9%88%D9%81" rel="noopener noreferrer" target="_blank" style="color: black;">سيرجي لافروف</a>" بزيارة إلى تشاد في يونيو 2024، التي تعد هي الأولى من نوعها منذ نحو (60) عاماً تقريباً، وقد شكَّل التعاون الأمني أحد أهم محاور المباحثات الثنائية خلالها؛ حيث تم الاتفاق على تطوير التعاون في مجال الأمن انطلاقاً من استمرار التهديدات الأمنية في منطقة الساحل الأفريقي.وتعهد الجانب الروسي بتزويد الجيش التشادي بالأسلحة والمعدات العسكرية لتعزيز قدراته الدفاعية وقدرته على مكافحة الإرهاب في البلاد. وقد سبق ذلك زيارة قام بها الرئيس التشادي "محمد إدريس ديبي" إلى روسيا في يناير 2024، أعرب من خلالها المسؤول التشادي عن تطلعه إلى تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين. وعلى الرغم من توقيع الدولتين اتفاقية تعاون مشترك في عام 2013، فإن العلاقات ظلت محدودة بين الطرفين، ولا سيما بعد مقتل الرئيس التشادي السابق "إدريس ديبي" في عام 2021؛ حيث اتهمت تشاد الجانب الروسي باستخدام مجموعة "فاجنر" لإثارة تحركات من شأنها زعزعة الاستقرار على حدود تشاد.4– التوجه نحو الانخراط في الترتيبات الأمنية الإقليمية الصاعدة: يرتبط ذلك بحالة التصدع التي تواجه الترتيبات الإقليمية المتعددة الأطراف التقليدية في منطقة السحل الأفريقي، وعلى رأسها مجموعة الساحل الخمس (G5)، التي لم يبقَ في عضويتها غير كل من دولتي (تشاد وموريتانيا)؛ وذلك بعد انسحاب كل من مالي وبوركينا فاسو في عام 2022 والنيجر في عام 2023، واتجاه هذه الدول الأخيرة إلى تشكيل "تحالف الساحل" في سبتمبر 2023، وتوجهها نحو إنشاء قوة إقليمية لمكافحة الإرهاب في مارس 2024.&nbsp;وتسعى تشاد إلى بناء صلات أمنية مع "تحالف الساحل"؛ حيث شاركت تشاد في مايو 2024 في إطار المناورات العسكرية في إقليم "تاهوا" الواقع جنوب غرب النيجر بالقرب من الحدود مع مالي وبوركينا فاسو، وهي المنطقة التي تنشط فيها جماعات مسلحة موالية لتنظيمي "القاعدة" و"داعش". وأجريت هذه المناورات تحت اسم "تارحنا كالي"، وهي كلمة من لغة "التماشق" التي يتحدث بها الطوارق في منطقة الصحراء الكبرى، وتعني "حب الوطن"، وقد هدفت إلى تعزيز القدرات العملياتية، وصمود القوات المسلحة لدول تحالف الساحل في مواجهة أي تهديدات أمنية محتملة؛ وذلك من خلال إجراء مناورات تكتيكية ومبادرات لتعزيز العلاقات مع السكان المحليين.وختاماً، يمكن القول إن الانسحاب المحتمل لدولة تشاد من "قوة المهام المشتركة المتعددة الجنسيات" خلال الآونة المقبلة قد يطرح معه إشكاليات رئيسية بشأن مدى فاعلية الأدوار التي تضطلع بها هذه القوة في مجابهة التهديدات الأمنية بصفة عامة، ومكافحة الإرهاب بصفة خاصة، في إطار منطقة حوض بحيرة تشاد من جانب، كما أنه قد يفرض مزيداً من الضغوط العملياتية على الجيش التشادي في مواجهة التهديدات المتنامية للجماعات الإرهابية من جانب آخر . وتطرح الرؤية المستقبلية تحرك تشاد نحو خلق ارتباطات أمنية ذات مضامين جديدة لمكافحة الإرهاب خلال الفترة المقبلة، ويأتي على رأسها تعزيز الصلات مع دول "تحالف الساحل" وروسيا، مع توجه مشوب بالحذر مع الولايات المتحدة الأمريكية.

أبعاد تهديد تشاد بالانسحاب من قوة المهام المشتركة المتعددة الجنسيات