عرض: إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

باتت الأزمات المصطنعة أحد الظواهر الحاضرة بقوة في النظام الدولي الحالي، حيث تخلق بعض الدول هذه الأزمات بشكل عمدي بهدف تحقيق مكاسب على حساب دول أخرى. وفي هذا الإطار، صدر عن موقع "فورين بوليسي" تقريران حملا عنوانَي"الصين قد تحاكي النموذج الروسي في تايوان"، و"التسبب في أعمال الأزمة"، في 18 و19 فبراير 2022. واستعرض التقريران السمات العامة للأزمة المصطنعة التي تخلقها في الغالب دول ضعيفة، كما قدَّما نماذج لأزمات مصطنعة فعلية ومحتملة، وفنَّدا أسباب العجز الأمريكي عن حماية تايوان من أي تحركات صينية مُعادِية محتملة، وطرحا بعض المقترحات للقيادة الأمريكية لتحسين قدرتها على التعامل مع الأزمات المصطنعة.

السمات العامَّة للأزمات المُصطنَعة

استعرض التقريران مجموعة من السمات العامَّة تميِّز الأزمات المصطنعة من قِبَل دول ضعيفة. ويتضح ذلك من خلال ما يأتي:

1– ترابط لافت بين الأزمات المُصطنَعة من قِبَل دول ضعيفة: أوضح التقريران أن الأزمات في كوريا الشمالية وأوكرانيا وبيلاروسيا وتايوان، قد تبدو للوهلة الأولى منفصلة استراتيجيّاً وجغرافيّاً. ومع ذلك رأى التقريران أن هناك خيطاً مشتركاً يمر عبر هذه التطوُّرات المستمرة، وأنه في جميع الحالات السابقة تصنع الجهات الفاعلة الضعيفة نسبيّاً أزمات لجذب انتباه نظرائها الأكثر قوةً في الغرب. وحسب التقريرين، فإن من غير المُحتمَل أن يكون هذا مجرد حادث عابر.

2– ضغط الضعفاء على الأقوياء بالأزمات المُصطنَعة: أشار التقريران إلى أن تصنيع الأزمات يُعَد استراتيجية مُجرَّبة وحقيقية للفاعلين الضعفاء نسبياً الذين يسعون إلى عقد مفاوضات واكتساب تنازلات من قبل الجهات الفاعلة الأكثر قوةً المعارِضة لتحقيق مطالبهم. ووفقاً للتقريرين، ينظر العديد من هؤلاء الفاعلين إلى توليد الأزمات على أنه مقدمة ضرورية للمفاوضات مع نظرائهم الأكثر قوةً.

3– استجابة دولية إجبارية وسريعة للأزمات المصطنعة: طبقاً للتقريرين، قبل أن تنشأ أزمة ما، غالباً ما يتجاهل صانعو السياسة في الدول القوية –وخاصةً الدول الغربية– مخاوف الدول الأقل قوةً، ويرفضونها ويقاومون تلبية مطالبها، بل يرفضون الاجتماع معها، لكن بمُجرَّد اندلاع الأزمات المُصطنَعة غالباً ما تعمل الدول الأقوى على تعديل أو عكس مواقفها سريعاً، ويكون الحوار بديلاً عن الاستخفاف بمطالب الدول الأقل قوةً. وأضاف التقريران أن الفاعلين الأشد قوةً يثبتون في بعض الأحيان استعدادهم للتفاوض أو منح امتيازات كانت تعتبر في السابق غير واردة.

نماذج لأزمات مصطنعة

قدَّم التقريران نماذج لأزمات مصطنعة فعلية، وأزمات أخرى من المحتمل اصطناعها وتفجيرها في الفترة المقبلة. ويتضح ذلك من خلال ما يأتي:

1– خلق الرئيس البيلاروسي أزمة الهجرة الحدودية: شدد التقريران على أن أزمة الهجرة الحدودية في بيلاروسيا، خلقها الرئيس البيلاروسي "ألكسندر لوكاشينكو". وأوضح التقريران أنه إذا كان هدف "لوكاشينكو" من وراء ذلك –كما تكهَّن البعض– هو إلغاء عقوبات الاتحاد الأوروبي، أو الاعتراف الرسمي بفوزه في الانتخابات الرئاسية لعام 2020 المليئة بالتزوير؛ فإن مناورته فشلت فشلاً ذريعاً. أما إذا كان هدف "لوكاشينكو" –حسب التقريرين– هو زرع الانقسامات الداخلية بين الزعماء الأوروبيين، وإجبارهم على التعامل معه كرئيس للدولة البيلاروسية، فقد نجح في تحقيق هذا الهدف جزئيّاً.

وطبقاً للتقريرين، فإنه رغم أن بيلاروسيا لا تزال معزولة، ورغم أن القادة الأوروبيين يعارضون بشدة النظام في مينسك؛ يظل قادة الاتحاد الأوروبي مُعرَّضين لمثل هذه الأزمات المصطنعة على نطاق واسع. وتطرق التقريران إلى تصريحات "إيلفا يوهانسون" مفوضة الاتحاد الأوروبي للشؤون الداخلية، التي أكدت خلالها أن "ما يريده لوكاشينكو ليس أزمة هجرة في الواقع، بل أزمة جيوسياسية".

2– تعمُّد الجانب الروسي اصطناع أزمة أوكرانيا: نوَّه التقريران بأن تصرُّفات روسيا ضد أوكرانيا تُبرهِن على منطق مماثل لأزمة مصطنعة. ولفت التقريران إلى أن القادة الروس حذروا لسنوات من أن أوكرانيا تُعَد مجالاً حيويّاً لروسيا، وأن تحالفها المُحتمَل مع الغرب سيتخطَّى الخطوط الحمراء الروسية. وأكد التقريران أن الولايات المتحدة رحَّبت علناً منذ عام 2008 بانضمام أوكرانيا إلى الناتو. وشدد التقريران على أن المشاركة الغربية في السياسة والأمن في أوكرانيا تصاعدت منذ عام 2014.

ووفقاً للتقريرين، فإنه نظراً إلى تفاقم الوضع، خلقت روسيا أزمة تُبرز المخاطر التي قد تُواجهها الولايات المتحدة وأعضاء الناتو الآخرون حال معاملة أوكرانيا كحليف رسمي. ورغم أن التقريرين أكَّدا أن مناورة "بوتين" قد تفشل، فإنهما شددا على أن الولايات المتحدة وحلفاءها اضطُرُّوا إلى التعامل مع المصالح الروسية بجدية أكبر من أي وقت مضى، كما تجري حاليّاً –حسب التقريرين– مناقشات تفصيلية حول مجموعة المخاوف العسكرية والدبلوماسية الروسية المتعلقة بأوكرانيا، والوضع الاستراتيجي الأوسع في الخارج القريب لروسيا.

3– إبقاء زعيم كوريا الشمالية على أزمة الصواريخ: طبقاً للتقريرين، يسير الزعيم الكوري الشمالي "كيم جونج أون" على نهج والده وجده، القائم على تصعيد التوترات وخلق أزمة تقليدية ونووية عبر التجارب الصاروخية التي يجريها بكثافة منذ توليه السلطة. ونوه التقريران بأن الزعيم الكوري الشمالي لن يقبل بحل هذه الأزمة إلا بعد الحصول على امتيازات دولية.

4– احتمالية محاكاة بكين أزمةَ أوكرانيا في تايوان: لفت التقريران إلى أن الرئيس الصيني قد يفكِّر في الكيفية التي يمكن من خلالها محاكاة استراتيجية نظيره الروسي في أوكرانيا. وأكد التقريران أنه في حين أن هناك الكثير من الجدل في واشنطن حول غزو صيني محتمل لتايوان، فقد تسعى بكين –بدلاً من ذلك– إلى خلق أزمة سياسية عسكرية، من خلال التهديد باستخدام القوة. وشدد التقريران على أن هدف بكين هو إجبار تايوان على تلبية مطالبها السياسية، وهي قبول السيطرة الصينية على الجزيرة، مع منع الولايات المتحدة من الوقوف في طريقها.

أسباب العجز الأمريكي

نوه التقريران بأنه إذا شنَّت الصين حملة مكثفة من الإكراه على غرار استراتيجية الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" الحاليَّة في أوكرانيا، فربما تكون واشنطن غير مستعدة لمواجهة ذلك؛ لعدة أسباب، منها ما يأتي:

1– عدم وجود تحالف كالناتو للدفاع عن تايوان: وفقاً للتقريرين، فإنه في حين أن الناتو ليس ملتزماً عسكريّاً تجاه أوكرانيا، لا يزال يتعيَّن على روسيا حساب رد فعل الحلف على عدوانها. وفي المقابل لا توجد –حسب التقريرين– دولة بمفردها ملتزمة بالمثل بالدفاع عن سيادة تايوان واستقلالها السياسي، ناهيك عن أي تحالف متعدد الأطراف.

2– صعوبات التنسيق لغياب الاعتراف بتايوان: طبقاً للتقريرين، تعد الولايات المتحدة هي أقرب حليف لتايوان، لكنها –مثل الغالبية العظمى من الدول– لا تعترف بها كدولة، ومن ثم لديها مشاركة سياسية محدودة للغاية مع قادتها، وهذا من شأنه أن يجعل من الصعب للغاية تنسيق السياسات في أي أزمة.

3– القيود على المشاركة العسكرية الأمريكية: أفاد التقريران بأنه في ضوء عدم وجود أي التزام رسمي على الولايات المتحدة بالدفاع عن تايوان، فإن المشاركة العسكرية مقيدة بشدة؛ حيث لا يتدرَّب الجيشان معاً، ولا يتخذان خطوات أخرى ضرورية للتحضير لعملية مشتركة. وفي المقابل، قامت وزارة الدفاع الأمريكية وحلف شمال الأطلسي –وفقاً للتقريرين– بتدريب الجيش الأوكراني.

سياسات مقترحة للتعامل

قدَّم التقريران بعض المقترحات ارتأيا أنها ستُحسِّن قدرة الإدارة الأمريكية على التعامل مع الأزمات المصطنعة. وتتضح هذه المقترحات من خلال ما يأتي:

1– زيادة التقدير النسبي لخيارات الدول الضعيفة: نوه التقريران بأنه إذا كان السبب المشترك بين سلوك "بوتين" و"لوكاشينكو" و"كيم" و"شي بينج" –الذين يصنعون الأزمات– هو غطرسة الدول الغربية "القوية"، وعلى رأسها الولايات المتحدة؛ فإنه وجب تصحيح المسار من قبل تلك الدول القوية نفسها، من خلال زيادة الاعتراف والتقدير للخيارات المتاحة للدول الضعيفة نسبيّاً، والتدخُّل السياسي المبكر. ولفت التقريران إلى أنه يمكن لمثل هذه المشاركة الدبلوماسية النشطة أن تنتج أزمات مستقبلية أقل، ومخاطر أقل بكثير من التوترات الدولية الحاليَّة.

2– تبنِّي خطوات استباقية لحماية تايوان من بكين: أكد التقريران أنه بالتركيز على أزمة تايوان، فإن هناك خطوات دبلوماسية وعسكرية يمكن أن تتخذها الولايات المتحدة في الوقت الحالي لإحباط سقوط تايبيه دون الإخلال بالتزامها بأنها لن تعترف من جانب واحد بتايوان كدولة مستقلة، وهي:

أ– تدريب قوة صغيرة لمساعدة تايوان عند الحاجة: شدد التقريران على أنه يمكن لواشنطن تدريب قوة عسكرية أمريكية صغيرة تكون على استعداد للهبوط في تايوان عند أول علامة على وجود مشكلة؛ للمساعدة في حماية قيادتها، والدمج مع وحدات الخط الأمامي، وتأمين الاتصالات بين تايوان والعالم الخارجي.

ب– دمج قوات أمريكية صغيرة مع القوات التايوانية: اعتقد التقريران أن وجود القوات العسكرية الأمريكية في وقت مبكر من الأزمة، سيكون بمنزلة أمان نفسي للشعب في تايوان وقادته، ويمكن أن يثني بكين عن تصعيد الأزمة. وأشار التقريران إلى أنه يمكن للولايات المتحدة أن تبدأ بدمج أعداد صغيرة من القوات الأمريكية التي تتحدث الصينية مع الوحدات التايوانية الرئيسية لفترات زمنية طويلة.

ج– زيادة موظفي الأمن في السفارة غير الرسمية: وفقاً للتقريرين، يمكن لواشنطن زيادة عدد موظفي الأمن البحري المتمركزين في سفارتها غير الرسمية.

د– التجهيز المسبق للوجستيات والذخائر بالجزيرة: حسب التقريرين، يمكن للولايات المتحدة كذلك أن تبدأ بهدوء في تجهيز اللوجستيات والذخائر في الجزيرة بشكل مسبق؛ لاستخدامها من قبل القوات الأمريكية والتايوانية.

ه– عقد المناقشات مع الحلفاء بشأن دعم تايوان: طبقاً للتقريرين، يجب على الولايات المتحدة الشروع في عقد مناقشات استراتيجية مع القيادة السياسية والعسكرية لليابان والهند وأستراليا والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وكذلك مع بريطانيا وفرنسا بشأن الاستجابة لأزمة تايوان.

و– تنويع استراتيجيات الاستجابة ضد الصين: نوه التقريران بضرورة إلمام الحلفاء بالردود العسكرية المحتملة، وليس ذلك فقط، بل بالاستراتيجيات الدبلوماسية والاقتصادية والإلكترونية الأخرى أيضًا؛ لعزل بكين ومعاقبتها وفرض صعوبات مالية عليها إذا اختارت طريق العدوان.

وختاماً، أكد التقريران أنه على الرغم من أن المناقشات في واشنطن تدور حول رد عسكري أمريكي شبه تلقائي على الغزو الصيني المحتمل لتايوان، فإنهما شددا على أن التاريخ والأزمة الأوكرانية الحاليَّة يُظهِران أن رؤساء الولايات المتحدة يُفضِّلون دائماً ممارسة وسائل الردع غير الحركية أولاً. وأوضح التقريران أن الدول العالية الالتزام –مهما كانت أقل قوةً– ستفعل ما تحتاج إلى القيام به حتى يُسمع صوتها، ولكي تؤخذ مطالبها على محمل الجد. وأشار التقريران إلى أن هذا يتضمن، في الغالب، توليد أزمات يُحتمل أن تكون متصاعدة وخطيرة.

المصادر:

– Kelly M. Greenhill and Joshua Shifrinson, Causing Crisis Works, Foreign Policy, February 19, 2022.

– Dan Blumenthal, Beijing Could Run Russia’s Playbook on Taiwan, Foreign Policy, February 18, 2022.

كيف يمكن لواشنطن تحسين قدرتها على مواجهة الأزمات المصطنعة؟