د. صدفة محمد محمود

توجّه الناخبون، في 28 يوليو 2024، إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رئيس جديد لفنزويلا للسنوات الست القادمة. ويأتي إجراء هذه الانتخابات في ظل سياق سياسي غلب عليه التوتر الشديد بين الحكومة والمعارضة، مع مخاوف مناهضي النظام الحاكم من أعمال ترهيب وتزوير. ومن المفترض أن تكون اللجنة الوطنية للانتخابات سلطة مستقلة، لكن رئيسها، إلفيس أموروسو، حليف وثيق للرئيس الحالي "نيكولاس مادورو"، وتقول المعارضة إن اللجنة تعمل لصالحه.وعقب فرز نحو 80% من أصوات الناخبين، أعلنت السلطة الانتخابية في فنزويلا أن مادورو حصل على 51% من الأصوات، متغلباً على خصمه إدموندو غونزاليس، الذي فاز بنسبة 44%. وبعد إعلان النتائج، وصفها مادورو بأنها "انتصار للسلام والاستقرار والمُثل الجمهورية وأفكار المساواة". في المقابل، أعلنت المعارضة عن فوز غونزاليس، وحصوله على 70% من الأصوات بعدما تصدر العديد من استطلاعات الرأي خلال الفترة السابقة. تم ترشيح غونزاليس، رجل الأعمال والدبلوماسي السابق، للرئاسة بعد أن منعت الحكومة زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو من شغل أي منصب حكومي لمدة 15 عاماً بعد فوزها في الانتخابات التمهيدية الرئاسية للمعارضة في أكتوبر 2023. وأيدت المحكمة العليا في فنزويلا قرار الحكومة في يناير 2024.انتخابات مفصليةينظر العديد من المحللين إلى الانتخابات الرئاسية في فنزويلا، باعتبارها تُشكل لحظة مفصلية في تاريخ البلاد ومسار علاقاتها الخارجية، وذلك للاعتبارات التالية:1- التمهيد لاستمرارية الحكم الاشتراكي لفنزويلا: مع فوز مادورو في الانتخابات التي جرت الأحد الماضي، فإن هذا يؤهله للحفاظ على وجوده على قمة هرم السلطة في فنزويلا وذلك لولاية ثالثة على التوالي مدتها ست سنوات وهو ما يمثل استمرارية "التشافيزية" في السلطة، التي بدأت في عام 1999 على يد الرئيس السابق هوغو شافيز. وتولى مادورو منصبه لأول مرة كرئيس للدولة الواقعة في أمريكا اللاتينية عقب وفاة شافيز في عام 2013. ومع وجود مادورو وشافيز في الحكم، سيطر الحزب الاشتراكي الفنزويلي الموحد على السلطة في فنزويلا طوال 25 عاماً.2- تفاقم الأزمة السياسية: عقب إعلان السلطات الانتخابية في فنزويلا فوز مادورو بالانتخابات، شككت ماتشادو في النتائج، قائلة إن غونزاليس فاز بنسبة 70% من الأصوات، وهي نتيجة تدعمها العديد من استطلاعات الرأي المستقلة والفرز السريع. وقالت في بيان مشترك مع غونزاليس: "فنزويلا لديها رئيس منتخب جديد وهو إدموندو غونزاليس. لقد فزنا والعالم كله يعرف ذلك". وفي ظل تمسك كل من مرشح الحكومة والمعارضة بإعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية، فمن غير المرجح أن يمهد هذا الوضع الطريق أمام إنهاء الأزمة التي تُعاني منها فنزويلا منذ عدة سنوات.3- ضغط المعارضة على السلطة للكشف عن عمليات فرز الأصوات: وفي حين أن المعارضة تطعن في نتائج الانتخابات، قال غونزاليس إنه لن يدعو أنصاره للنزول إلى الشوارع احتجاجاً أو ارتكاب أي عمل من أعمال العنف. ومع ذلك، من المحتمل أن تحدث مواجهة سياسية بين الطرفين مع طلب غونزاليس من السلطات الانتخابية تقديم جميع عمليات فرز الأصوات المطبوعة بواسطة آلات التصويت في 30000 مركز اقتراع في جميع أنحاء البلاد. ولم تقدم اللجنة الوطنية بعد الإحصاءات المطلوبة.4- تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية: من المرجّح أن يكون للجدل الدائر حول مدى شرعية فوز مادورو في الانتخابات الرئاسية آثار جوهرية على الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتفاقم في فنزويلا، خاصة إذا صاحبه اندلاع أعمال عنف واسع النطاق وفي حال ضاعفت واشنطن وبعض الدول الأخرى عقوباتها على البلاد. ومن المرتقب أن تُؤدي هذه الأوضاع إلى استمرار موجة النزوح الجماعي لـ7.7 ملايين فنزويلي الذين تركوا منازلهم بالفعل للحصول على فرص في الخارج، وسيكون لهذا عواقب على بلدان المنطقة التي تضررت من موجات الهجرة الفنزويلية. وتتمتع فنزويلا بأكبر احتياطيات نفطية مؤكدة في العالم، وكانت تتباهى ذات يوم بكونها الاقتصاد الأكثر تقدماً في أمريكا اللاتينية، لكنها عانت خلال السنوات الأخيرة من تدهور اقتصادي حاد. فوفقاً لتقديرات لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (ECLAC)، سجل الاقتصاد الفنزويلي انكماشاً تراكمياً بنسبة 75% من الناتج المحلي الإجمالي بين 2013-2021.وأدى انتشار الفساد وسوء الإدارة بجانب انخفاض أسعار النفط ونقص إنتاجه والتضخم المفرط الذي تجاوز 130 ألفاً في المائة إلى اضطرابات اجتماعية وهجرة جماعية. وأدت العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة سعياً لإجبار مادورو على التنحي عن السلطة بعد إعادة انتخابه عام 2018، والتي أدانتها الولايات المتحدة وعشرات الدول الأخرى باعتبارها غير شرعية، إلى تعميق الأزمة. وألقى مادورو باللوم على العقوبات الأجنبية ضد نظامه، قائلا إن فنزويلا ضحية "حرب اقتصادية". وفي الوقت نفسه، وعدت المعارضة باستعادة الديمقراطية في فنزويلا وإعادة بناء الاقتصاد إذا فازت. 5- تعرض فنزويلا للمزيد من العزلة الدولية: تُلقي اتهامات المعارضة للحكومة بتزوير الانتخابات بظلال من الشك على عودة فنزويلا إلى الساحة الدولية بعد أن تعهد مادورو العام الماضي بإجراء انتخابات حرة ونزيهة في محادثات بوساطة أمريكية، مقابل تخفيف العقوبات النفطية. وقد شهدت فنزويلا خلال العامين الماضيين انفتاحاً على المجتمع الدولي، وقامت حكومات بعض الدول الأوروبية واللاتينية باستئناف علاقاتها الدبلوماسية مع كاراكاس، كما أعربت العديد من الحكومات والشركات الدولية عن رغبتها في الاستثمار بقطاع النفط والغاز الفنزويليين.ومع تشكيك بعض قادة العالم في نتائج الانتخابات وإعلان بعضهم عدم الاعتراف بفوز مادورو، شجب بيان حكومي نشره وزير الخارجية الفنزويلي على الإنترنت، ما أسماه "التدخل" الأجنبي ضد الانتخابات، وأشار بأصابع الاتهام إلى عدد من الدول التي انتقدت النتائج، بما في ذلك الأرجنتين وباراجواي وكوستاريكا والإكوادور وجواتيمالا وبيرو.محددات مهمةفي ظل الشكوك المثارة حول نزاهة انتخابات الرئاسة، فإن هناك عدة عوامل يمكن أن تُشكل مصدراً للضغط على السلطات الفنزويلية للكشف عن كيفية سير العملية الانتخابية ومدى تمتعها بالشفافية والنزاهة، ومنها:1- حدود ضغط واشنطن على النظام الفنزويلي: من المرجح أن يكون موقف الولايات المتحدة عاملاً محورياً في الضغط على حكومة مادورو من أجل الإعلان بشفافية كاملة عن نتائج الانتخابات. وعقب إعلان فوز مادورو، قال وزير الخارجية الأمريكي&nbsp;"أنتوني بلينكن": "لدينا مخاوف جدية من أن النتائج المعلنة لا تعكس إرادة أو أصوات الشعب الفنزويلي.. المجتمع الدولي يراقب هذا عن كثب، وسيرد وفقاً لذلك". وأضاف: "من الأهمية بمكان أن&nbsp;يتم فرز كل صوت بشكل عادل وشفاف،&nbsp;وأن تتبادل السلطات الانتخابية المعلومات على الفور مع المعارضة والمراقبين المستقلين دون تأخير، وأن تنشر السلطات الانتخابية كافة البيانات". وتعد هذه التصريحات تكراراً لما قالته واشنطن، التي تربطها بكاراكاس منذ فترة طويلة علاقات متوترة، عندما وصفت فوز مادورو عام 2018 بأنه "احتيالي". ويمكن أن يتجاوز نطاق هذه الضغوط الأمريكية ما هو أبعد من الخطوات الدبلوماسية التصعيدية إلى تكثيف واشنطن وبعض الدول الأخرى عقوباتها المفروضة بالفعل على كاراكاس. وقد أعادت الولايات المتحدة فرض عقوباتها النفطية&nbsp;في أبريل 2024، متهمة مادورو بالتراجع عن الصفقات التي تم التوصل إليها مع المعارضة لضمان انتخابات حرة.2- التعاطي السلبي من بعض دول أمريكا اللاتينية مع الانتخابات: فقد وصف الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي النتيجة الرسمية بأنها مزورة، بينما رفضتها كوستاريكا، وقالت تشيلي إنها لن تقبل أي نتيجة لا يمكن التحقق منها. وقال رئيس أوروجواي "لويس لاكال بو" إن مادورو وحزبه&nbsp;"سيفوزون" بغض النظر عن النتائج الفعلية. أما بيرو فقد استدعت سفيرها لدى كاراكاس للتشاور. ورداً على هذه المواقف، أعلنت فنزويلا، 29 يوليو 2024، سحب دبلوماسييها من سبع دول في أميركا اللاتينية. واعتبرت كاراكاس، بحسب بيان لوزارة الخارجية الفنزويلية، أن موقف حكومات الأرجنتين وتشيلي وكوستاريكا وبنما والبيرو وجمهورية الدومينيكان والأوروجواي "يقوض السيادة الوطنية".3- مدى قوة دعم حلفاء مادورو: تظل الصين وروسيا وإيران أكبر حلفاء فنزويلا من خارج منطقة أمريكا اللاتينية، وقد أظهرت بكين بالفعل دعمها لمادورو، وهنأته على فوزه في الانتخابات، كما أعربت في بيان لوزارة خارجيتها عن استعدادها لمواصلة شراكاتهما الاستراتيجية بما يخدم مصالح شعوبهما. وهنأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نيكولاس مادورو على إعادة انتخابه رئيساً لفنزويلا، قائلاً إن موسكو تتمتع بشراكة استراتيجية مع الدولة الواقعة في أمريكا الجنوبية، وإن مادورو مرحب به دائماً في روسيا. قال بوتين في رسالة إلى مادورو: "أنا واثق من أن أنشطتكم على رأس الدولة ستستمر في المساهمة في تطويرها التدريجي في جميع الاتجاهات". كما هنأت طهران فنزويلا على انتخاباتها الرئاسية "الناجحة". ومن المرجح أن تحافظ الدول الثلاث على دعمها الاقتصادي والسياسي للرئيس مادورو، حليفهم الأوثق في نصف الكرة الغربي، وسوف يرفضون أي محاولة أمريكية للتدخل في الشؤون الداخلية لفنزويلا. وبالمثل، احتفل بعض حلفاء فنزويلا في أمريكا اللاتينية بانتصار مادورو. وهنأ رؤساء كوبا ونيكاراجوا وبوليفيا وهندوراس، الرئيس الفنزويلي على فوزه في الانتخابات. وقال الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل على موقع X: "أؤكد من جديد تضامن كوبا". وأضاف: "اليوم انتصرت كرامة وشجاعة الشعب الفنزويلي على الضغوط والتلاعب".4- موقف القوات المسلّحة ومؤسسات الدولة الفنزويلية: على مدار السنوات الماضية، شكّل الجيش الفنزويلي عاملاً ضامناً لبقاء نظام مادورو، ولم تكن هناك أي علامات علنية على أن قادة القوات المسلحة ينفصلون عن الحكومة، على الرغم من العديد من المحاولات التي بذلتها المعارضة لتشجيع الجيش على الانقلاب على مادورو. وعقب إعلان النتائج، دعت ماتشادو الجيش الفنزويلي إلى تأييد نتائج التصويت، قائلة إن الناخبين أوضحوا أنهم لا يريدون مادورو. يُضاف إلى ذلك، تسيطر حكومة مادورو على جميع المؤسسات العامة في فنزويلا بما في ذلك المحكمة العليا، والتي يمكن أن تكون الحكم النهائي في أي ادعاء من قبل المعارضة بتزوير الحكومة الانتخابات، وهو ما نفته الأخيرة.5- مدى تماسك المعارضة وتوحدها: عقب عدة سنوات من الانقسامات الداخلية ومقاطعة الانتخابات، اختارت المعارضة هذا العام التوحد والالتفاف حول مرشح واحد هو "إدموندو غونزاليس"، الذي ينظر إليه خصوم مادورو الآن باعتباره منارة للأمل. وعد غونزاليس بإصلاحات اقتصادية ومكافحة الفساد واستعادة المؤسسات الديمقراطية. ويمكن أن يُشكل نجاح المعارضة في الحفاظ على وحدتها وتماسكها الداخلي، محدداً لقدرتها على تحدي الحزب الاشتراكي الموحد الفنزويلي بزعامة مادورو بشكل فعّال، لكنها في الأغلب ستكون غير قادرة على فرض مرشحها على مادورو ومؤسسات الدولة التي تدعمه.من جملة ما سبق، يمكن القول إن فنزويلا سوف تشهد خلال الفترة القادمة حالة من التوتر الشديد بين الرئيس مادورو ومعارضيه، ويمكن في حال تنامت وتيرة هذه التوترات وطغى عليها أعمال عنف دموي، أن تعاني البلاد من مزيدٍ من التدهور الاقتصادي والاجتماعي الذي سيدفع مواطنيها للهجرة خارج البلاد. في الوقت نفسه، سوف تزداد الضغوط الدولية والإقليمية على مادورو للقبول بفوز مرشح المعارضة، ولن يتم الاعتراف به كرئيس شرعيّ لفنزويلا من قبل بعض دول العالم. علاوةً على أن الولايات المتحدة ستكثف من العقوبات النفطية التي تفرضها بالفعل على نظام مادورو وستزيد من نطاقها.

ما الذي تعنيه نتائج الانتخابات الرئاسية في فنزويلا؟