تعد التغيرات المناخية أحد العوامل المساهمة في تفاقم الصراعات المسلحة حول العالم، وإن كان لا يوجد علاقة سببية مباشرة بين التغير المناخي والصراعات المسلحة، غير أن الأدلة التجريبية مؤخراً أظهرت مزيداً من الترابط بين الظاهرتين، وهو ما يتجلى بصورة كبيرة في حالات الدول التي تعاني من فساد، أو ضعف مؤسسي وحوكمة، أو تنافس عرقي، أو محدودية موارد؛ حيث تعتبر التغيرات المناخية في هذا السياق "مُضاعِفاً للتحديات" الموجودة بالفعل.

وبحسب دراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2019، فإن التغيرات المناخية قد تسببت في نشوب عدد من الصراعات المسلحة عالمياً بنسبة تتراوح بين 3% و20% خلال العقد الماضي. وتوقعت الدراسة أن تصل هذه النسبة إلى 26% مع ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى 4 درجات مئوية، فيما أوضح برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن 40% من الصراعات على مدار الـ60 عاماً الماضية كانت على صلة بالموارد الطبيعية.

عوامل محركة

قبل أشهر من انعقاد مؤتمر الأطراف التابع لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ، وتزايد وتيرة الصراعات حول العالم، تظهر الحاجة الملحة إلى تأهيل الدول للتكيف مع التغيرات المناخية المتوقعة؛ حتى لا تتحول إلى بؤر جديدة للصراع، إلا أن تحقيق هذا الهدف يتطلب النظر في عدة عوامل تشكل المحرك الرئيسي للعديد من الصراعات المرتبطة بتغير المناخ حول العالم، وهو ما يمكن استعراضه فيما يأتي:

1- تأجيج ندرة الموارد للصراعات: هناك تفاوت بين الدول في احتمالية تعرضها لأحداث الطقس المتطرفة بفعل موقعها الجغرافي؛ فالمدن الساحلية مثلاً تتعرض لتهديدات من جراء ارتفاع مستوى سطح البحر مقارنة بالمدن القارية، كما أن هناك دولاً تتعرض لمناخ جاف بطبيعة الحال، بما يؤهلها أكثر من غيرها لمواجهة خطر الجفاف، فيما تتعرض الدول التي لا تمتلك مياهاً عذبة كافية للزراعة والشرب لاحتمال نشوب صراعات على الموارد؛ حيث تزيد الندرة في الموارد حدة المنافسة على المتاح منها، خاصة إن كان أغلب السكان يعتمدون في دخلهم على الموارد الطبيعية في الزراعة وتربية المواشي وغيرها.

2- ضعف المؤسسات والحوكمة: إن التغيرات المناخية التي تضرب دولاً ذات مؤسسات ضعيفة تسرِّع بشدة احتمالية نشوب الصراعات على الموارد بين أهلها؛ وذلك لأن ضعف الحوكمة يرتبط مباشرة بعوامل خطر متعددة كالفقر وعدم المساواة وسوء التخطيط العمراني والتدهور الاقتصادي؛ ففي الصومال على سبيل المثال، تفرض حركة "الشباب" الإرهابية ضرائب باهظة على السكان من محصولهم الزراعي وتربية المواشي وغيرهما، غير أن الجفاف الذي ضرب الدولة قبل عدة أشهر، أعاق قدرة المواطنين على دفع هذه الضرائب، ومن ثم أضحوا في مواجهة خطرين: إما التعرض للقتل وإما الانضمام إلى الحركة والقتال في صفوفها، وهو ما ساهم في جعل الصومال بؤرة مشتعلة بالصراعات وحاضنة للتطرف.

3- سوء تنفيذ سياسات التكيف (Maladaptation): يشير مفهوم "سوء التكيف" إلى وضع خطط تهدف إلى التخفيف من آثار التغيرات المناخية دون أخذها في الاعتبار بعض أضرار هذه الخطط على المدى الطويل؛ إذ ربما تأتي بنتائج عكسية، وتزيد من حدة الأضرار المناخية؛ فمثلاً، قد تقوم إحدى الشركات بزرع أشجار لامتصاص الانبعاثات الكربونية لكنها تختار موقعاً سيئاً؛ حيث تزرعها في مكان عرضة لحرائق الغابات. ولعل في فيتنام مثالاً على ذلك؛ حيث تسببت مساعي الحكومة لبناء سد كهرومائي للتحكم في الفيضانات في منع إمكانية وصول بعض السكان إلى الأرض الزراعية والمياه.

في هذا السياق، يعتبر التكيف عملية مستمرة وليست هدفاً بحد ذاته، كما أنه لا يوجد حل سريع لتحقيقه؛ فالأفضل أن تبدأ استراتيجية التكيف بالتركيز على أهداف قصيرة المدى، ثم يتم تعديلها مع مرور الوقت حسب الحاجة وبشكل تدريجي لتعزيز مرونة الدولة ضد أحداث الطقس المتطرفة.

4- اضطراب الوضع الاقتصادي: ثمة علاقة متشابكة بين تردي الأوضاع المادية وارتكاب أعمال متطرفة، وهذه العلاقة تحددها عدة عوامل تختلف من دولة إلى أخرى، إلا أن جهود الحد من آثار التغيرات المناخية تصبح أصعب في المناطق التي تشهد عدم استقرار اقتصادي؛ وذلك لأن هناك ارتباطاً – وإن كان غير مباشر – بين الضغط الاقتصادي وأعمال العنف، وهو ما أثبتته عدة أبحاث نوعية عن فاعلية برامج الحد من العنف في مناطق الصراع؛ حيث أظهرت دراسة أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في عام 2019، أن برامج التدخل التي تعالج كلاً من الضغوط الاقتصادية وأعمال العنف معاً تُظهر نجاحاً أكبر من البرامج التي تركز على محاربة العنف فحسب. في الوقت نفسه، يركز المسؤولون في الدول التي تواجه ضغوطاً اقتصادية على التخفيف من المشكلات الطارئة على المدى القصير دون إيلاء القدر نفسه من الاهتمام لسياسات التكيف مع أحداث الطقس المتطرفة على المدى البعيد.

5- غياب التوزيع العادل للتمويل المناخي: تعد عدالة توزيع التمويل المناخي وتمثيل كافة الأقليات في طاولة المفاوضات لبرامج التنمية من أكثر العوامل المؤثرة في تحريك الصراعات على الموارد التي تفاقمها التغيرات المناخية؛ إذ غالباً ما ينبع العنف أثناء تنفيذ اتفاقيات السلام من جانب الأطراف المستبعدة أكثر من الأطراف المشمولة على طاولة المفاوضات. في هذا السياق، يلعب الدمج دوراً مهماً في منع العنف، لكن ليس بحد ذاته؛ فالأطراف القائمون على تنفيذ الخطة وممثلوها هم المسؤولون الأكبر عن فاعلية الدمج. ويمكن تجنب مثل هذه السيناريوهات من خلال تنفيذ جلسات استشارية تأخذ في الاعتبار المطالب الشعبية لتمويل المناخ، لا سيما النساء المعيلات اللاتي يعتمدن على الموارد الطبيعية في كسب العيش لأسرهم، بالإضافة إلى تشكيل لجان تفويضية تراقب سير العملية.

حالات كاشفة

في ضوء ما سبق، فإن ثمة بلداناً تكابد العديد من الصراعات بفعل التغير المناخي، يمكن تناول بعض منها فيما يأتي:

1- تحديات السودان في التكيف والاستدامة: يعتمد 70% من سكان السودان في دخلهم على الموارد الطبيعية، كالزراعة ورعاية الماشية وصيد الأسماك وغيرها، وهو ما يجعل الدولة السودانية على رأس الدول الأكثر عرضةً للتداعيات السلبية للتغيرات المناخية؛ إذ على مدار السنوات الأخيرة الماضية، شهدت السودان جملة من ظواهر الطقس المتطرفة، كالفيضان الذي اجتاح البلاد عام 2020 ودمر عشرات الآلاف من المنازل، والاضطرابات السياسية المستمرة حتى اللحظة، بالإضافة إلى العقوبات التي استمرت حتى عام 2019، وجائحة كورونا التي فاقمت التدهور الصحي والاقتصادي في البلاد.

وهو الأمر الذي تسبب في أن تكون أغلب الصراعات في السودان هي صراعات على الموارد الطبيعية. وقد حددت الخطة الوطنية للتكيف في عام 2016، عدة ولايات اعتبرتها الأكثر عرضةً للصراعات بفعل التغيرات المناخية منها غرب دارفور، وجنوب كردفان، وغرب كردفان، والنيل الأزرق؛ حيث شهدت تلك الولايات صراعات بين المزارعين والرعاة، وصراعات على الموارد المائية، ونزوحاً إلى العاصمة.

فيما أشارت دراسة أجرتها منظمة "كريستيان إيد" (Christian Aid) في عام 2022، إلى أن السودان معرض لانخفاض كبير في الناتج المحلي الإجمالي قد يصل إلى 22% بحلول عام 2050، حتى في حال الحفاظ على ارتفاع درجة حرارة الأرض عند 1.5 درجة مئوية، وهو ما يضعف بدوره قدرة السودان على التكيف مع التغيرات المناخية ويزيد من حدة الصراعات القائمة بالفعل، سواء كانت صراعات على السلطة، أو صراعات حدودية كالتي بين ولاية جنوب كردفان والنيل الأزرق، أو صراعات شديدة المحلية على مستوى المزارعين والرعاة.

2- تحفيز التغيرات المناخية التطرف في الصومال: تعد حالة الصومال مثالاً أكثر وضوحاً على العلاقة بين التغيرات المناخية والصراعات؛ نظراً إلى موقع الصومال في منطقة ما بين المدارين؛ ما يجعلها عرضة لعدة أحداث طقس متطرفة كالرياح الموسمية، وتيارات المحيط، والتيارات النفاثة، والأعاصير المدارية وغيرها. ومن المتوقع أن ترتفع درجة حرارة البلاد إلى 1.9 درجة مئوية بحلول عام 2030، وأن ينخفض إجمالي موارد المياه المتاحة إلى النصف بحلول عام 2080، بحسب منظمة الهجرة الدولية.

هذا ويواجه الصومال حالياً واحدة من أسوأ المجاعات في تاريخه؛ وذلك بفعل الجفاف الذي ضرب الدولة منذ عدة أشهر، والذي أسفر عن نفوق الماشية بفعل ارتفاع درجات الحرارة، ونشوب صراعات قبلية متعددة، أغلبها بفعل التنافس على الموارد الطبيعية التي تمثل مصدر دخل أساسياً للصوماليين؛ ما يعرض الصوماليين، الذين يعتمدون في رزقهم على الموارد الطبيعية بكثافة، للاستغلال والتجنيد من قبل حركة "الشباب المجاهدين" النشطة في الدولة منذ عقود؛ حيث تجبر المزارعين والرعاة على دفع ضرائب من محصول الأراضي المتهالكة بفعل الكوارث المناخية، أو القتال في صفوفها، ليجد الصوماليون أنفسهم مجبرين إما على النزوح من الدولة وإما على الاستسلام والانضمام إلى الحركة، خاصة أن حركة الشباب تمنع وصول المساعدات الإغاثية إلى المناطق التي تفرض سيطرتها عليها.

3- المنافسة القوية على موارد بحر الصين الجنوبي: لا شك أن بحر الصين الجنوبي يواجه بالفعل صراعات حادة على موارده الغنية بالأسماك واحتياطات النفط والغاز بين الكثير من الدول التي تطل عليه، وأهمها الصين والفلبين؛ فهو يمثل 10% من الإنتاج العالمي لصيد الأسماك ويعتبر من أهم الممرات الملاحية على مستوى العالم.

وفي سياق متصل، تتعرض الأسماك في بحر الصين الجنوبي لعمليات صيد جائر بفعل الصراع الدائر على هذا المورد المائي الثمين. وفي ضوء ذلك يتوقع العديد من الخبراء أن يلقي التغير المناخي بظلاله على التنوع البيولوجي والأسماك والشعاب المرجانية هناك؛ الأمر الذي قد يفاقم الصراعات الدائرة حول موارده ويزيد من حدتها.

وفي هذا السياق، أشارت دراسة في نوفمبر 2021، أجرتها جامعة بريتيش كولومبيا (British Columbia) ومؤسسة "إيه دي إم كابيتال" (Capital ADM) إلى أن التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة، من شأنه أن يتسبب في تحولات في توزيع فصائل السمك، كما أنه قد يؤدي إلى انخفاض درجة الأكسجين في المياه، وأنه في أفضل الأحوال، حتى مع تراجع الانبعاثات الكربونية والحد من عمليات الصيد الجائر، قد ينخفض حجم محصول الصيد في بحر الصين الجنوبي بنسبة 22%، فيما تشير التقديرات كذلك إلى عدة تأثيرات محتملة على الدول المطلة على بحر الصين الجنوبي بفعل التغير المناخي؛ أهمها ارتفاع مستوى سطح البحر، وارتفاع درجات الحرارة بالشكل الذي يؤثر سلباً على المحصول الزراعي.

4- التأثيرات المتزايدة للتغير المناخي على صراعات الشرق الأوسط: حددت دراسة أجراها "معهد الموارد العالمية" في عام 2019، 17 دولة على مستوى العالم على اعتبارها الأشد عرضةً لندرة المياه. وجدير بالذكر أن تلك الدول من بينها 12 دولة في منطقة الشرق الأوسط وحدها. ومن المتوقع أن تزداد حدة الصراعات الناجمة بفعل التغيرات المناخية في منطقة الشرق الأوسط؛ حيث أشار البنك الدولي إلى أن ندرة المياه في الشرق الأوسط من المرجح أن تتسبب في فقدان دول المنطقة من 6 إلى 14% من ناتجها المحلي الإجمالي بحلول عام 2050.

ولعل أبرز مظاهر صراعات الموارد بين دول المنطقة تتجلى في الصراع الدائر بين تركيا والعراق وسوريا حول مياه نهري دجلة والفرات العابرين للحدود، اللذين انخفض تدفق المياه بهما بنسبة 40% على مدار العقود الماضية، نتيجة التغير المناخي، بجانب بعض خطط التطوير الأحادية؛ فبينما يتهم العراق تركيا باحتجاز تدفق المياه القادم إليه نتيجة بناء سد إليسو، تُوجِّه سوريا إلى تركيا الاتهامات نفسها بتقليل حصتها من نهر الفرات ومفاقمة أزمة ندرة المياه لديها، وهو الأمر الذي أسفر عن "تسليح المياه" من قبل الجماعات الإرهابية، خاصة خلال الحرب السورية، وتراجع قدرات مؤسسات الدولة ودمار بنيتها التحتية.

ونظراً إلى اعتماد قطاع كبير من السكان الريفيين على مياه دجلة والفرات، اللذين شهدا موجة جفاف حادة خلال الأشهر القليلة الماضية، فإن تقديرات منظمة الهجرة الدولية تشير إلى تسبب إعاقة الوصول إلى المياه النظيفة في العراق في نزوح أكثر من 20 ألف مواطن، فيما تشير بعض التقديرات الأممية إلى أن 100 ميل مربع من الأراضي الزراعية يتم فقدانه في العراق كل عام نتيجة التغيرات المناخية؛ ما يجعل من المتوقع أن يفقد العراق نحو 20% من إنتاجه الغذائي بحلول عام 2035.

5- تفاقم الصراعات المائية بين إيران وأفغانستان: في مايو الماضي من العام الجاري، لقي اثنان من حرس الحدود الإيرانية مصرعهما في اشتباكات مع حركة طالبان، من جراء صراعات حول تدفق مياه نهر هلمند، الذي تتشارك مياهَه الدولتان ويمتد على طول ألف كيلومتر تقريباً.

بيد أن الخلافات بين الدولتين حول هذا الأمر ليست جديدة؛ فرغم توقيعهما معاهدة عام 1973 بشأن تقاسم الموارد المائية، ركزت بشكل كبير على توزيع المياه بينهما، إلا أنه لم يتم التصديق على الاتفاقية ولم يتم تنفيذها، بل ظلت الخلافات حول السدود دون حل حتى الوقت الراهن، بيد أن السبب من وراء اندلاع الاشتباكات في التوقيت الحالي، يرجع إلى التغيرات المناخية وأحداث الطقس المتطرفة التي شهدتها إيران على مدار العامين السابقين، بالإضافة إلى ندرة الموارد المائية في أفغانستان، التي دفعتها إلى بناء السدود على نهر هلمند؛ حيث عانى أكثر من 90% من سكان إيران من الجفاف في عام 2022، بحسب منظمة الأرصاد الجوية الإيرانية.

ختاماً، على الرغم من الآثار الجمة للتغيرات المناخية على الصراعات، فإن القضية لم تحظ بالاهتمام الكافي في النسخ السابقة من مؤتمر الأطراف؛ لذا لربما يشكل مؤتمر الأطراف القادم في نوفمبر المقبل المزمع عقده في دولة الإمارات، فرصة كبيرة قد تسهم في توجيه المفاوضات حول دور التغيرات المناخية في تحريك الصراعات وتأطيرها قضيةً أمنيةً وليست بيئية فحسب، والمبادرة بطرح حلول عملية للتكيف مع التغيرات المناخية في مناطق الصراعات.

كيف تحرك أحداث الطقس المتطرفة الصراعات حول العالم؟