على مدار السنوات القليلة الماضية، وبالتحديد منذ تفشي جائحة كوفيد–19، غلبت سمة التقلب وعدم الاستقرار على سلاسل التوريد العالمية؛ وذلك بفعل عمليات الإغلاق وتعطل العمل في المطارات وشحنات التوريد من أجل منع تفشي الوباء. وما إن بدأ العالم في التكيف مع الجائحة، حتى برزت تحديات أخرى جديدة، كان آخرها التوترات الجيوسياسية التي جلبتها الحرب الروسية الأوكرانية، وما تبع ذلك من توقيع عقوبات الاقتصادية على روسيا، تسببت في تعطل واختناق سلاسل التوريد من جديد، علاوة على عمليات الإغلاق الصينية الأخيرة في شنجهاي، التي شملت إغلاق ميناء شنجهاي والمطارات ذات الأهمية الكبرى لسلاسل التوريد، ومن ثم تعطل عملية سير البضائع؛ هذا إضافة إلى احتدام التنافس الصيني الأمريكي. مثَّل ذلك وأكثر دافعاً قوياً ومحفزاً نحو تعزيز التوجه العالمي تجاه توطين الصناعات، وتوطين سلاسل التوريد؛ وذلك عبر تصنيع البضائع وشحنها محلياً، بما يمكن دول العالم من التحرر من أي قيود في أوقات التوترات الاقتصادية أو الجيوسياسية.

مؤشرات متزايدة

بالرغم من تصاعد الاتجاه نحو توطين الصناعات حتى قبل انتشار جائحة كوفيد-19، فإن ذلك الأمر شهد مؤخراً زخماً أكبر بكثير من ذي قبل. وفيما يأتي بعض المؤشرات على تصاعد الاهتمام بتوطين الصناعات في عدد من الدول على سبيل المثال لا الحصر:

1– اهتمام الولايات المتحدة بتوطين صناعة أشباه الموصلات: في إطار التهديدات المتزامنة المتعلقة بتعطل سلاسل التوريد الخاصة بأشباه الموصلات، وانطلاقاً من زيادة الاهتمام بتلك الصناعة عالمياً، والرغبة في التحرر من التبعية لآسيا في ذلك المجال؛ فإن الولايات المتحدة انضمت إلى استثمار ضخم يقدر بـ20 مليار دولار، قد أعلنت عنه شركة أنتل العملاقة، لإنتاج الرقائق الإلكترونية في الولايات المتحدة. جاء ذلك الاهتمام لما تسبب فيه نقص ذلك المنتج من تضخم متزايد في الولايات المتحدة، وهو الاتفاق الذي اعتبره الرئيس الأمريكي "جو بايدن"، في تصريح له يوم 21 يناير 2022، استثماراً تاريخياً وخطوة جادة نحو توطين صناعة أشباه الموصلات.

2– توجه السعودية نحو توطين صناعات رئيسية: شهدت السنوات الأخيرة توجهاً متزايداً من قبل السعودية نحو توطين عدد من الصناعات الرئيسية، على غرار صناعة أشباه الموصلات. وفي ذلك الإطار، جرى تنظيم المنتدى الأول السعودي لأشباه الموصلات، الذي عقد في الرياض في الفترة بين 30–31 مارس الماضي، من قبل كل من جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، ومدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، وهيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار، في سبيل مناقشة سبل تنمية وتوطين صناعة أشباه الموصلات في السعودية.

وفي سياق منفصل، تعمل السعودية على توطين الصناعات العسكرية، ومن أجل ذلك تتبنى استراتيجية لتوطين الصناعات والأبحاث في قطاع الصناعات العسكرية، التي تستهدف من خلالها تمكين وبناء نظام محفز على تنمية الكوادر البشرية وتطويرها وتمكينها عبر ثلاثة برامج، بغرض تنمية وصقل المعارف والقدرات اللازمة في المجالات والتخصصات المرتبطة بالصناعات العسكرية والدفاع والأمن.

3– مساعي مصر نحو توطين الصناعات الاستراتيجية: ساهمت جائحة كوفيد–19 في تنامي اهتمام مصر مؤخراً بتوطين صناعة اللقاحات في القارة الأفريقية؛ فبحسب مستشار الجمهورية للشؤون الصحية والوقائية "محمد عوض تاج الدين"، فإن مصر تصنِّع بعض اللقاحات بالتعاون مع شركة صينية داخل حدودها، علاوة على إنشاء الدولة عدداً ضخماً من مصانع الأدوية، فضلاً عن مدينة الطب المصرية التي تنتج العديد من الأدوية، في سبيل إنتاج أدوية التكنولوجيا الحيوية القوية التي يمكن أن تغطي مصر وأفريقيا.

وفي سياق آخر، وجه الرئيس المصري "عبد الفتاح السيسي"، في 19 أبريل 2022، نحو مواصلة العمل على نهج توطين الصناعات الاستراتيجية وتشجيع القطاعات الصناعية الوطنية، وتسريع الانتهاء من استكمال "منظومة المعلومات المسبقة للإفراج الجمركي"، وهو ما يأتي في إطار استراتيجية الدولة المصرية لتوطين الصناعات الاستراتيجية.

5– ضخ دولة الإمارات 2.7 مليار دولار في القطاع الصناعي: في شهر يونيو الماضي، أطلقت العاصمة الإماراتية أبوظبي، استراتيجيتها الصناعية الجديدة التي تستهدف استثمار نحو 10 مليارات درهم، في ستة برامج تحويلية، ترمي من خلالها إلى مضاعفة حجم قطاع التصنيع في أبوظبي، بما يقدر بنحو 172 مليار درهم بحلول عام 2031. ومن المفترض أن تركز مبادرات الاستراتيجية على سبعة قطاعات تصنيع، هي: المواد ، والآلات، والطاقة الكهربائية، والمعدات الكهربائية، والنقل، والأغذية الزراعية، والأدوية؛ وذلك بغرض تدعيم الصناعات المحلية في تلك القطاعات.

بالتوازي، تسعى كبرى الشركات والمراكز الهامة إلى أداء أدوار موازية لتحركات الحكومة في مجال توطين الصناعات. يظهر ذلك من خلال إعلان شركة بترول أبوظبي الوطنية–أدنوك، عن خطط بقيمة 70 مليار درهم تنوي ضخها في منتجات يمكن تصنيعها محلياً، دون الاضطرار إلى استيرادها من الخارج. وفي سياق آخر، وقع مركز "محمد بن راشد للفضاء" مذكرة تفاهم مشتركة مع شركة "ستراتا" الرائدة في مجال صناعة أجزاء هياكل الطائرات من المواد المركبة، بغية تطوير قدرات التصنيع المحلية للقمر الاصطناعي المدني MBZ–Sat، الذي يعد الأكثر تقدماً في مجال صور الأقمار الاصطناعية العالية الدقة في المنطقة.

6– اهتمام أفريقي بتوطين السلع الغذائية في القارة: في حفل أقيم يوم 29 يونيو الماضي، دعت المفوضة السامية لدولة ناميبيا لدى غانا "سلمى أشيبالا موسويي" إلى تعزيز الشراكة في قطاع الزراعة بين كل من ناميبيا وغانا، علاوة على قطاع الثروة الحيوانية الذي لا يزال به إمكانات غير مستغلة في غانا. وقد أشارت في ذلك الإطار إلى الحاجة الماسة والملحة لزيادة التجارة البينية داخل القارة الأفريقية، التي لا تزال تعاني من آثار كوفيد–19 وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على إمدادات الغذاء، وأكدت في ذلك السياق، حتمية التوقف عن الاعتماد على السلع والمنتجات من خارج القارة، والسعي نحو مزيد من توطين السلع الغذائية في القارة.

محفزات رئيسية

تضافرت جملة من العوامل التي لعبت دور المحفز على تصاعد اهتمام العديد من دول العالم بتوطين الصناعات خلال السنوات القليلة الماضية، نستعرض أبرزها فيما يأتي:

1– تزايد الاهتمام الدولي بالتغير المناخي والاعتبارات البيئية: قبل تفشي جائحة كورونا، كان هناك اهتمام دولي متزايد بتوطين الإنتاج داخل حدود الدول لأسباب واعتبارات بيئية، انطلاقاً من كون النقل الدولي مسؤولاً عن 33% من الانبعاثات المرتبطة بالتجارة العالمية. ومع تفاقم المخاوف من تغير المناخ وتبعاته، بات توطين الصناعات على رأس أجندات دول العالم، وبالأحرى الدول المتقدمة الملتزمة بأهداف المناخ، والواعية بخطورة التغير المناخي.

2– تصاعد الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة: في عام 2019، ساعد تأجج الحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وتصاعد التنافس الصيني الأمريكي، على نمو الرغبة لدى الطرفين في توطين صناعة أشباه الموصلات؛ كي يتحرر كلاهما من الاعتماد على الآخر في تلك الصناعة الهامة التي تدخل في العديد من الصناعات الأخرى، كالأجهزة الإلكترونية من حواسيب، وهواتف نقالة وسيارات وغيرها.

3– اختناق سلاسل التوريد من جراء جائحة كوفيد–19: أفضى تعطل سلاسل الإمداد في النصف الأول من عام 2020، وما ترتب عليه من إجبار الشركات على إبطاء إنتاجها في كل أنحاء العالم، إلى تعرض العديد من الدول لخسائر فادحة في ظل عدم مقدرتها على تلبية احتياجات الطلب المحلي؛ ما دفع العديد من البلدان إلى اتخاذ خطوات جدية من أجل تشجيع التصنيع المحلي للسلع الحيوية، كالإمدادات الطبية ومعدات الحماية الشخصية وأجهزة التنفس الصناعي.

4– اتساع التفاوتات بين الدول في توزيع اللقاحات: وفق مستشار رئيس الجمهورية المصري للشؤون الصحية والوقائية محمد عوض تاج الدين، في السادس من يونيو الماضي، فإن نحو 17% فقط قد تلقوا تطعيمات فيروس كورونا من سكان القارة الأفريقية، فيما يعاني بقية الأفارقة من عدم القدرة على الوصول إلى اللقاحات، في حين أمدت دول أخرى سكانها بجرعات معززة من اللقاح؛ الأمر الذي مثل دافعاً نحو توطين صناعات اللقاحات والأدوية في عدة دول لتأمين إمدادات كافية من اللقاحات لمواطنيها.

5– تفاقم التوترات الناجمة عن الحرب الأوكرانية: تضغط التوترات الجيوسياسية الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية نحو مزيد من التوجه صوب توطين الصناعات، وتقليل الاعتماد على سلاسل الإمداد العالمية، خاصة في ظل الآثار السلبية للعقوبات الاقتصادية ضد روسيا على الأمن الغذائي، وصناعة أشباه الموصلات وإمدادات النفط وغيرها؛ ما ولَّد الرغبة الحثيثة نحو تشجيع الاعتماد محلياً على توطين الصناعات الحيوية؛ كي لا تبقى الدول تحت رحمة أي تهديد جيوسياسي جديد.

6– التعاطي مع تأثيرات التراجع الاقتصادي: بالرغم من التكلفة التي قد تحملها خطط توطين الصناعات في العديد من الدول، فإن هذه الخطط مدفوعة، في جانب منها، بالتراجع الاقتصادي الذي باتت الكثير من الدول تعاني منه، وبتزايد معدلات التضخم والبطالة، ناهيك عن الضغط الذي تتعرض له العملات الوطنية في ظل ارتفاع فاتورة استيراد المنتجات من الخارج. وعليه، يبدو التوسع في الصناعات الوطنية أحد الحلول المستدامة لمعالجة الأزمات الاقتصادية التي تواجهها الكثير من الدول عبر خلق فرص جديدة للتوسع وتنشيط الاقتصاد. وكذلك خلق فرص عمل جديدة لآلاف، بل مئات الآلاف من الشباب المتعطل عن العمل، إضافة إلى زيادة الإيرادات الضريبية ومن ثم زيادة النقد في خزينة الدولة. وفي سياق متصل، من المتوقع أن يؤدي توطين الصناعات ومن ثم توطين شبكات التوريد إلى انخفاض في تكلفة الشحن وشبكة التوريد المحلية بدلاً من العالمية؛ هذا علاوة على توفير الوقت والمجهود.

7– تعزيز القدرة على التكيف مع الأزمات: من شأن العمل على توطين الصناعات أن يمنح الدول القدرة على التكيف مع الأزمات، وأن يزيد المرونة في ظل الأوقات التي يسودها عدم اليقين العالمي، وأن يتغلب على نهج "وضع البيض في سلة واحدة"، الذي تصطدم به دول العالم في كل مرة تتعرض فيها لأزمة اقتصادية عالمية أو توترات جيوسياسية، بما يفقدها القدرة على السيطرة وتحقيق التوازن في ظل تعطل سلاسل الإمداد العالمية.

تحديات محتملة

ثمة تحديات محتملة قد تواجه عمليات توطين الصناعات في دول العالم، بما يقيد قدرتها على الصمود والنجاح. ويمكن تناول أهمها فيما يأتي:

1– الإضرار بمصالح الشركات المتعددة الجنسيات: رغم ما يحمله توطين الصناعات من فرص، فإن التحركات نحو التوطين على الجانب الآخر، من شأنها أن تعمل على تعطيل التوازن الذي باتت تتمتع به الشركات المتعددة الجنسيات في السنوات الأخيرة الماضية، وربما لن يصبح لبقائها معنى، في ظل اعتماد الدول على الإنتاج والشحن المحلي؛ الأمر الذي من الممكن أن يعرض تلك الشركات لخسائر ضخمة؛ ولذا قد تعمل بعض هذه الشركات على مقاومة توجهات توطين الصناعات في بعض الدول. أضف إلى ذلك أن الكثير من هذه الشركات تمتلك تكنولوجيات متقدمة ضرورية في عمليات التصنيع، وتضع العديد من القيود على نقلها إلى الشركات المحلية.

2– التأثير السلبي على الأسواق الناشئة: إذا أصبح التوطين توجهاً عالمياً تتبناه جميع دول العالم، بما يعزز قدرات الدول على الاكتفاء الذاتي، فلن يكون ذلك في صالح اقتصادات الأسواق الناشئة التي تعتمد في صعودها وبقائها على تصدير منتجاتها الصناعية؛ إذ من المرجح أن تتعرض لضغوط التوطين بما يضر بمصالحها وقدرتها على الاستمرار.

3– صعوبة تحقيق الاكتفاء الذاتي التام: يظل من الصعب على أي دولة أو منطقة أن تحقق الاكتفاء الذاتي في جميع السلع والمواد التي تستهلكها، خاصةً أن النجاح في توطين الصناعات له مقومات عديدة لا تمتلكها جميع البلدان، كتوافر ظروف مناخية معينة، أو درجة القرب من المواد الخام، أو القرب من الأسواق، وتوافر رأس المال؛ فقد تنجح دول في توطين صناعة معينة لتوافر مقوماتها، فيما تفشل في توطين صناعة أخرى لعدم وجود الحد الأدنى من المقومات التي تسمح لها بالتوطين.

4– التكلفة الاقتصادية المرتفعة المطلوبة للتصنيع: فالسياق الدولي الراهن ينطوي على ضغوط اقتصادية هائلة على غالبية الدول، وهو أمر قد يعوق خطط واستراتيجيات بعض الدول لتوطين الصناعات، لا سيما أن هذا التوطين يتطلب موارد مالية هائلة لتطوير البنية الصناعية في الدولة. ولا يمكن إغفال أن الأزمات التي تواجهها بعض الدول الصناعية الرئيسية، على غرار ألمانيا، في الوقت الراهن ونتيجة للحرب الأوكرانية، تدلل على الصعوبات التي قد تعترض خطط توطين الصناعات.

فرص واعدة

إجمالاً.. لا يعني تصاعد التوجه نحو توطين الصناعات نهاية سلاسل التوريد العالمية أو الإقليمية، بل كل ما في الأمر أن ثمة أسباباً تكنولوجية وبيئية وجيوسياسية تشير إلى حتمية خوض تلك التجربة والسعي نحو توطين بعض الصناعات الهامة على المدى المتوسط؛ فتوطين الصناعات من شأنه أن يمنح الحكومات وشعوبها والشركات العاملة على أراضيها مرونة نسبية في أوقات التوترات الجيوسياسية، وهو ما بات يمثل ضرورة ملحة في ظل الأزمات الدولية الراهنة من احتدام التنافس الصيني الأمريكي، والأزمة الأوكرانية وعمليات الإغلاق الصينية التي تحدث بين الفينة والأخرى. بيد أن التوجه نحو توطين الصناعات قد يؤدي إلى إعادة تشكيل الروابط التجارية وسلاسل التوريد القائمة لا إلى إلغائها تماماً، وهو ما سيفرض على الحكومات في الوقت ذاته حتمية التعمق في تطوير النظم البيئية، وتيسير المقومات اللازمة لإنجاح عمليات توطين الصناعات على أراضيها.

لماذا تزايد اهتمام الدول بتوطين الصناعات؟