لم تعد القوة النووية مجرد أداة ردع تقليدية، بل أصبحت وسيلة لإعادة تشكيل النظام العالمي واستعراض النفوذ في بيئة دولية مضطربة وصراعية بصورة كبيرة؛ إذ تُظهر الاستراتيجيات العسكرية الحالية أن القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، تنخرط في سباق تسلح معقد يمتد تأثيره إلى الفضاء الخارجي والساحة السيبرانية مما يفتح الباب أمام صراعات غير مسبوقة. في ظل غياب اتفاقيات فعّالة للحد من التسلح، وتصاعد التوترات الإقليمية والدولية، يصبح التهديد النووي أكثر إلحاحاً، حيث تتزايد المخاطر المرتبطة بالتصعيد النووي والحوادث غير المتوقعة. وبحسب تقارير 2023، بلغ الإنفاق العالمي على برامج الأسلحة النووية حوالي 83 مليار دولار، مما يعكس زيادة التركيز على تطوير هذه البرامج.

إرث الردع التقليدي

يعد سباق التسلح النووي ملمحاً عتيقاً لنظام الثنائية القطبية منذ منتصف القرن العشرين حينما احتدمت المنافسة بين القطبين الرئيسيين وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق لتطوير وامتلاك أكبر ترسانة ممكنة من الأسلحة النووية، سواء لتحقيق الردع أو التفوق العسكري الاستراتيجي. وخلال الحرب الباردة اعتمد القطبان الدوليان على مبدأ الردع النووي أو "التدمير المتبادل المحقق" (MAD) مما جعل استخدام الأسلحة النووية خياراً مميتاً لكلا الجانبين، لكنه لم يمنع التنافس المستمر على تطوير التكنولوجيا النووية. ومع انتهاء الحرب الباردة، تحول سباق التسلح النووي من مواجهة ثنائية إلى ظاهرة متعددة الأطراف تشمل قوى إقليمية، مثل الهند وباكستان والصين، بالإضافة إلى برامج نووية متطورة لدول مثل كوريا الشمالية وإيران.

ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة في تسعينيات القرن الماضي، تبنت الأدبيات والدراسات مُسَلَّمَة أن الأسلحة النووية قد أصبحت غير قابلة للاستخدام، وأنها سلاح للردع وتحقيق التوازن دون قابلية للتوظيف في الصراعات المسلحة، حيث يُنظر إليها كأداة للردع وحماية السيادة الوطنية. ومع ذلك، فإن تقليص الترسانات النووية يمكن أن يؤدي إلى سباق تسلح تقليدي غير نووي لسد الفجوة، مما يزيد من عدم الاستقرار. ولعل الهيمنة الأمريكية والأحادية القطبية في مطلع تسعينيات القرن الماضي أسهمت -إلى حد كبير- في تراجع سباق التسلح النووي، وتفعيل نظام الحد من الانتشار النووي، وفرض ضوابط على تطوير البرامج النووية العسكرية.

وقد ركزت الدراسات على قضايا متعددة مثل التكلفة الضخمة لتطوير الترسانات النووية وتأثيرها على الاقتصادات الوطنية، والتهديدات غير التقليدية مثل التأثيرات البيئية للتخزين غير الآمن للأسلحة النووية والنفايات النووية ومخاطر انتشار الإشعاع النووي، كما شهدت دراسات منع الانتشار النووي والحد من انتشار الأسلحة النووية صعوداً كبيراً، حيث كان التركيز على تحليل النظام الدولي للحد من انتشار الأسلحة النووية والتحديات التي يتعرض لها. وبمعنى آخر، كان التركيز على الظاهرة النووية كوحدة كلية وليست كظاهرة عسكرية فقط.

عودة التصعيد النووي

في الآونة الأخيرة، شهد العالم تزايداً ملحوظاً في مؤشرات التصعيد النووي وسباق التسلح، حيث تصاعدت التوترات بين القوى النووية الكبرى، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، إضافةً إلى بروز دور لاعبين جدد في الساحة النووية، وتنامي التطلعات لامتلاك أسلحة نووية وتوظيفها في الصراعات الدولية.

1- توسع الترسانة النووية الصينية: أظهرت التقارير الأخيرة أن الصين توسع ترسانتها النووية بشكل متسارع، مع إضافة حوالي 100 رأس نووي جديد في عام واحد، ليصل الإجمالي إلى أكثر من 600 رأس بحلول منتصف 2024. ومن المتوقع أن يصل العدد إلى أكثر من 1000 رأس بحلول عام 2030. وقد قامت الصين ببناء 320 منصة إطلاق جديدة لصواريخها الباليستية العابرة للقارات، مثل صواريخ "DF-41" القادرة على حمل رؤوس نووية متعددة واستهداف أهداف في الولايات المتحدة. ووفقاً لبيانات 2024، يُقدَّر ما أنفقته الصين بما يقارب 11 مليار دولار على تطوير وتحديث أسلحتها النووية، مما يعكس تحولاً كبيراً في استراتيجيتها الدفاعية.

2- تغيير العقيدة النووية الروسية: أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن تغييرات في العقيدة النووية الروسية، مما خفض العتبة التي يمكن عندها استخدام الأسلحة النووية. ويُظهر هذا التحول اعتماد روسيا على سلاح الردع النووي كورقة ضغط في مواجهة الغرب. وتواصل روسيا تطوير أنظمة صواريخ فرط صوتية مثل "أفانجارد" و"كينجال"، مما يزيد من صعوبة التصدي لها، مع تأكيد قدرتها على تنفيذ ضربات استراتيجية سريعة ودقيقة. وفي هذا السياق، تُشير التقارير إلى أن روسيا تمتلك أكبر عدد من الرؤوس النووية عالمياً، حيث بلغت نحو 5977 رأساً نووياً في 2024، مما يعزز موقفها كقوة نووية رئيسية.

3- تحديث شامل للترسانة النووية الأمريكية: خصصت الولايات المتحدة حوالي 1.7 تريليون دولار لتحديث ترسانتها النووية، بما في ذلك تطوير غواصات نووية مثل "كولومبيا كلاس" وصواريخ "مينيوتمان 3" الجديدة. وبلغت نفقات الولايات المتحدة على برامجها النووية حوالي 43 مليار دولار في عام 2023، وهي النسبة الأعلى عالمياً، مما يعكس التزامها بالحفاظ على تفوقها النووي، حيث تمتلك الولايات المتحدة حوالي 3708 رؤوس نووية موزعة على مواقع استراتيجية وبرامج تسليح متنوعة.

4- تزايد العسكرة النووية للفضاء: تعمل الدول الكبرى على توسيع استراتيجياتها النووية لتشمل الفضاء الخارجي. يتمثل ذلك في تطوير تقنيات متقدمة للصواريخ المضادة للأقمار الصناعية وقدرات فضائية مدمجة مع أنظمة الردع النووي. وقد طورت الصين نظام "ASAT" لتعطيل الأقمار الصناعية الأمريكية، بينما تعمل روسيا على تطوير صواريخ "نودول" المضادة للأقمار الصناعية. ويُعتقد أن الولايات المتحدة تستثمر بشكل كبير في أنظمة فضائية هجومية مثل "X-37B" لتأمين تفوقها في الحروب الفضائية.

روسيا -من جانبها- ستواصل العمل على تطوير أسلحة مبتكرة تشمل أنظمة نووية مخصصة للاستخدام في الفضاء، مما يمنحها ميزة استراتيجية إضافية ويُبرز قدرتها على المناورة في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها. ويعد القمر الصناعي الروسي "كوزموس 2553" الذي يدور في مدار يُعرف بـ"مدار المقبرة"، وهو منطقة نادراً ما تُستخدم بسبب تعرضها لإشعاعات عالية، نموذجاً على سباق تسلح نووي جديد، حيث أشارت تقارير أمريكية إلى أن القمر يحمل رأساً حربياً وهمياً، مما يُثير الشكوك حول إمكانية استخدامه كمنصة لاختبار أسلحة نووية قادرة على تدمير الأقمار الصناعية في الفضاء.

وعلى مستوى آخر، أطلقت الدول الكبرى عدداً متزايداً من الأقمار الصناعية ذات الاستخدامات العسكرية. تشمل الأمثلة "KH-11" الأمريكي للمراقبة، و"Gaofen" الصيني، و"Tundra" الروسي للتحذير المبكر من الهجمات النووية. هذه الأقمار تدعم تحسين دقة التوجيه للصواريخ الباليستية أو تعطيل نظم الاتصالات لدى الخصوم، مما يجعلها أدوات حاسمة في الصراعات النووية المستقبلية. ولم تتخلف الصين عن هذا السباق، حيث خصصت بكين نحو 3 مليارات دولار لتطوير برامجها الفضائية ذات الصلة بالأسلحة.

5- التركيز المتزايد على الحرب السيبرانية: تعمل الدول الكبرى على تطوير أنظمة سيبرانية متقدمة يمكنها شن هجمات على الأنظمة النووية والفضائية للخصوم، ويتم في هذا السياق توظيف الذكاء الاصطناعي في استهداف الأسلحة النووية للخصوم، حيث يمكن للهجمات السيبرانية تعطيل نظم القيادة والتحكم النووية، ويُعتقد أن الولايات المتحدة تستثمر حوالي 10 مليارات دولار سنوياً في البرامج السيبرانية النووية.

تآكل الضوابط الدولية

مع انتهاء العمل باتفاقية "نيو ستارت" في عام 2026 وعدم وجود بوادر لتجديدها، يبدو أن العالم يدخل مرحلة جديدة خالية من أي قيود على نشر الأسلحة النووية. وقد أدى انسحاب الولايات المتحدة من معاهدات مثل معاهدة القوات النووية متوسطة المدى إلى تصاعد سباق التسلح مع روسيا، حيث طورت الأخيرة صواريخ مثل "9M729".

وعلى مستوى آخر، ترفض الصين حتى الآن الانضمام إلى معاهدات الحد من التسلح، معتبرةً أن قدراتها النووية لا تزال أقل بكثير من الولايات المتحدة وروسيا. ويعكس هذا الموقف طموحاتها لتوسيع نفوذها دون قيود، حيث تعتبر الصين نفسها قوة نووية صاعدة بما يجعلها تستثمر في تعزيز القوة النووية، وهو ما يجعلها تتجنب الالتزام بقيود نظام منع الانتشار النووي. وتلعب التوترات بين الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان دوراً محورياً في تسريع سباق التسلح، وهو ما يستدل عليه بإطلاق الصين مناورات عسكرية تشمل استخدام صواريخ "DF-21D" في استعراض للقوة.

وعلى مستوى آخر، رفعت روسيا تهديداتها باستخدام الأسلحة النووية كجزء من استراتيجيتها في أوكرانيا. وهو ما يتصل بنقل أسلحة نووية تكتيكية إلى بيلاروسيا. بينما تحذر الولايات المتحدة وإسرائيل من احتمالية امتلاك إيران سلاحاً نووياً، إذ تعمل إيران على تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%، مما يقربها من مستوى إنتاج الأسلحة النووية.

وعلى المستوى الداخلي، تشهد الولايات المتحدة نقاشات حادة حول ما إذا كان ينبغي أن تكون للرئيس سلطة مطلقة في استخدام الأسلحة النووية، مع مخاوف من قرارات متهورة خلال أزمات دولية في ظل ارتفاع أعمار الرؤساء في الولايات المتحدة، والمخاوف من تراجع القدرات الإدراكية وتأثيرها على القرارات النووية.

أما الصين فتواجه تحديات أخرى في بنية العلاقات المدنية العسكرية في ظل سلسلة الإقالات لقيادات رئيسية داخل الجيش الصيني والتحقيقات في اتهامات بالفساد، وهو ما يؤثر على العقيدة العسكرية وتوظيف الأسلحة النووية. ففي أكتوبر 2024، أعلنت الصين إقالة وزير الدفاع لي شانغ فو من منصبه، بعد اختفائه عن الأنظار لمدة شهرين في ظل تهم فساد تتعلق بشراء معدات عسكرية خلال فترة توليه إدارة قسم المشتريات في الجيش الصيني من عام 2017 إلى 2022. كما أشارت التقارير إلى أن ثمانية مسؤولين كباراً آخرين من الوحدة نفسها كانوا قيد التحقيق.

تأتي هذه الإقالات في إطار حملة مستمرة لمكافحة الفساد داخل الجيش الصيني، حيث شهدت الفترة الأخيرة تغييرات في مناصب عليا، بما في ذلك إقالة تسعة مسؤولين عسكريين من البرلمان الصيني، بينهم أربعة جنرالات من الوحدة المسؤولة عن الصواريخ الاستراتيجية. يُذكر أن لي شانغ فو هو ثاني وزير دفاع صيني يُقال من منصبه في فترة قصيرة، مما يعكس جهود القيادة الصينية لتعزيز الانضباط ومكافحة الفساد داخل المؤسسة العسكرية.

لماذا السلاح النووي؟

تقليدياً كان الردع النووي هو المحرك الأساسي لسباق التسلح خاصة خلال الحرب الباردة، إذ كان المبدأ الحاكم هو أن وجود ترسانات نووية ضخمة يمنع الدول من شن الحروب بسبب التكاليف الكارثية لأي تصعيد نووي، في إطار معادلة "التدمير المتبادل المحقق" (Mutually Assured Destruction - MAD)، حيث تضمن أن تكون العواقب غير مقبولة لأي طرف يقرر استخدام السلاح النووي. ومع ذلك، تواجه النظرية انتقادات عديدة، أبرزها أنها تعتمد على فرضية عقلانية الدول، التي قد لا تكون دائماً واقعية. وفي المقابل توجد العديد من التفسيرات البديلة يتمثل أبرزها في التالي:

1- التعامل مع فوضوية النظام الدولي: ترى نظرية الواقعية الدفاعية أن سباق التسلح النووي هو نتيجة حتمية لحالة الفوضى في النظام الدولي، إذ تتفاعل الدول في بيئة تفتقر إلى سلطة مركزية، مما يدفعها إلى تعزيز قدراتها الدفاعية لضمان البقاء. لكن هذه الديناميكية تؤدي غالباً إلى تصعيد سباق التسلح بدلاً من تقليل التوترات، حيث يُنظر إلى أي تفوق نووي على أنه تهديد مباشر.

2- الوقوع في أسر "معضلة السجين": تفترض معضلة السجين (Prisoner's dilemma) أن الدول تجد نفسها عالقة في سباق تسلح نووي بسبب خشيتها من أن يؤدي التعاون أو نزع السلاح إلى تفوق الخصم. في هذا النموذج، تتصرف الدول بشكل يعزز عدم الاستقرار على الرغم من إدراكها أن الحل التعاوني قد يكون أكثر فائدة للجميع. وبمعنى آخر فإن الدول تفضل امتلاك السلاح النووي كونه يحقق لها قدراً من التوازن الحاسم في مواجهة الخصوم بالمقارنة بحالة الغموض وعدم اليقين المرتبطة بتوازن القوى المبني على التسلح التقليدي.

3- تأثير "المفارقات الإدراكية": ويقصد بها التصورات الخاطئة عن نوايا الأطراف الأخرى التي يمكن أن تؤدي إلى تصعيد غير مقصود. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تُفسر تحركات دفاعية لدولة ما كإجراءات هجومية من قبل الخصوم، مما يؤدي إلى زيادة التوترات. على سبيل المثال، إن تفسير بعض التقدم في برنامج نووي سلمي لدى دولة خصم قد يدفع نحو تطوير برنامج نووي عسكري للتحسب للاحتمالات غير اليقينية، وبالتالي الوقوع في أسر سباق تسلح نووي.

4- ضغوط "معضلة الأمن": إن إدراك الدول لمستويات مرتفعة ودائمة من التهديد الخارجي لبقائها وتماسكها يدفعها للاستثمار في تطوير أسلحة غير تقليدية لردع العدوان المحتمل والتصدي لاحتمالات التعرض للاجتياح من قوى دولية تفوقها في المكانة والموارد والحجم. فعلى سبيل المثال، دفع الانخراط الأمريكي في حماية كوريا الجنوبية ودعمها عسكرياً والتواجد العسكري الأمريكي الدائم في الجوار المباشر لكوريا الشمالية إلى سعي الأخيرة لتطوير أسلحة نووية متقدمة دون الاعتماد على الصين وروسيا في إطار عقيدة الاعتماد على الذات (Juche Doctrine) والاستقلال عن الحلفاء في بناء المظلة النووية.

5- سياسات "المناورة النووية": يعتبر السلاح النووي ورقة ضغط تفاوضية يتم توظيفها من جانب بعض القوى الدولية للحصول على مكاسب وتنازلات من القوى الإقليمية والدولية نتيجة للمخاوف من توظيف السلاح النووي في المواجهة، فقد تم استخدام ورقة التخلي عن البرامج النووية أو على الأقل السماح بتفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية على المواقع النووية في العديد من الحالات لرفع عقوبات دولية أو الحصول على مساعدات أو تهدئة الضغوط الدولية. وفي مناطق مثل الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية، يؤدي التوتر الجيوسياسي إلى تغذية سباق التسلح النووي، حيث تسعى إلى تحقيق التوازن مع خصومها الإقليميين، مما يؤدي إلى دورة مستمرة من التنافس.

الانجراف نحو الهاوية

ينطوي سباق التسلح النووي على العديد من التهديدات التي تزيد من اضطراب التفاعلات الدولية، حيث يؤدي إلى تعميق حالة عدم الاستقرار الأمني وتفاقم التوترات بين الدول، مما قد يقود العالم نحو سيناريوهات خطيرة. هذا الانجراف نحو الهاوية يتجلى في عدة جوانب:

1- اتباع سياسة "الغموض الاستراتيجي": تلجأ الدول إلى عقائد غامضة لتعزيز الردع والحفاظ على تفوقها العسكري. ومع ذلك، يؤدي هذا الغموض إلى سوء الفهم بين الدول ويزيد من خطر التصعيد غير المقصود. حيث تعتمد كوريا الشمالية سياسة تقوم على الغموض بشأن احتمالية استخدامها للسلاح النووي في الصراعات المؤثرة على وجودها بهدف إبقاء العالم في حالة قلق دائم بشأن نواياها وقدراتها النووية.

2- احتمالات التصعيد غير المقصود: مع زيادة عدد الدول المسلحة نووياً وتعقيد الأنظمة العسكرية، يصبح احتمال التصعيد غير المقصود أكثر واقعية، وذلك نتيجة للأخطاء التقنية، وسوء التقدير السياسي، أو الإنذارات الكاذبة التي يمكن أن تؤدي إلى قرارات كارثية. وتعد حادثة الإنذار الخاطئ عام 1983 عندما اعتقدت الأنظمة السوفيتية أن هجوماً نووياً أمريكياً قيد التنفيذ وبدء استعدادها لرد نووي شامل، نموذجاً لإمكانية الانجراف لحافة الهاوية بسبب أخطاء في نظم الإنذار المبكر.

3- توسع سباق التسلح الإقليمي: على الرغم من الافتراضات بأن التسلح النووي يرسم معادلات أكثر ثباتاً للردع المتبادل بما يترتب عليه نظرياً تجنب المواجهات العسكرية المباشرة، إلا أنه واقعياً يترتب عليه تصاعد سباق التسلح التقليدي والنووي، بل واحتمالات حدوث اشتباكات مسلحة بين القوى المتصارعة، إذ لم يمنع امتلاك كل من باكستان والهند للأسلحة النوية من حدوث اشتباكات مسلحة بين الطرفين في إقليم كشمير، كما لم تتوقفا عن تطوير ترسانات الأسلحة التقليدية والنووية والتسابق على امتلاك منظومات التسلح الأكثر تطوراً.

4- تعثر نظم الحد من الانتشار النووي: رغم الجهود الدولية المبذولة لنزع السلاح النووي، مثل معاهدة عدم الانتشار النووي (NPT)؛ إلا أن المصالح الوطنية المتضاربة وانعدام الثقة بين الدول تعيق تحقيق تقدم ملموس. وغالباً ما تفضل الدول النووية الحفاظ على أسلحتها لضمان تفوقها الاستراتيجي، مما يعطل مسار نزع السلاح. وقد أدى الانسحاب الأمريكي من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى (INF) في عام 2019 إلى تصاعد الشكوك في إمكانية التوصل لاتفاقات جديدة لضبط التسلح النووي بين القوى الكبرى مما عزز المخاوف من تطوير دول أخرى قدرات نووية عسكرية على الرغم من العقوبات والضغوط الدولية مما يقوض الثقة المتبادلة، ويدفع المزيد من الدول للانسحاب من المعاهدات وعدم الالتزام ببنودها.

5- تصاعد تهديدات الإرهاب النووي: قد يؤدي الانتشار الواسع للمفاعلات النووية في دول هشة، إلى تزايد احتمالات وصول الأسلحة النووية أو المواد المشعة إلى الجماعات الإرهابية نتيجة ضعف تأمين بعض المنشآت النووية. مثل هذه السيناريوهات قد تؤدي إلى استخدام الأسلحة النووية على نطاق غير تقليدي، مما يهدد الأمن الدولي بشكل غير مسبوق. وقد رصدت مصادر دولية خلال العقدين الماضيين محاولات بعض التنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة للوصول إلى مواد مشعة، وتطوير قنبلة بدائية لنشر الإشعاع في مراكز المدن ومناطق التجمعات الكبرى.

6- استنزاف الموارد الاقتصادية والبيئية: يشكل سباق التسلح النووي عبئاً كبيراً على الدول، سواء من الناحية الاقتصادية أو البيئية. فالإنفاق الهائل على تحديث الترسانات النووية وبرامج البحث والتطوير يأتي على حساب أولويات تنموية أخرى، كما أن التخزين غير الآمن للنفايات النووية يترك آثاراً بيئية كارثية على غرار حادثة فوكوشيما النووية في اليابان التي تكشف مخاطر تخزين وإدارة المواد النووية.

7- تفشي ثقافة الملاجئ النووية: ينتج عن الصراعات النووية تأثيرات نفسية واجتماعية عميقة على الشعوب، حيث تنشأ حالة من الخوف والاضطراب الدائمين بسبب احتمال اندلاع حرب نووية. فخلال الحرب الباردة أدى سباق التسلح النووي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي إلى انتشار "ثقافة الملاجئ النووية" والخوف من نهاية العالم. وفي الفترة الراهنة فإن تهديدات كوريا الشمالية وتلويحها الدائم بالسلاح النووي يزيد من مستويات الخوف والقلق لدى السكان في كوريا الجنوبية واليابان ودعم اتخاذ تدابير عسكرية مشددة.

ختاماً، يُظهر احتدام سباق التسلح النووي أن العالم يقف أمام مفترق طرق محفوف بالمخاطر. فعلى الرغم من أن الأسلحة النووية تعتبر أدوات ردع نظرياً، إلا أنها أصبحت في الواقع محفزاً صراعياً بصورة متزايدة بسبب التوسع في تطوير الترسانات النووية والتغير في العقائد العسكرية للدول النووية. كما أن التطبيقات العسكرية الجديدة في الفضاء والفضاء السيبراني تكشف عن سيناريوهات أكثر فوضوية وغير قابلة للتنبؤ، خاصةً في ظل تآكل نظام الحد من الانتشار النووي، وتوسع استراتيجيات الغموض والمناورة النووية التي تزيد من احتمالات التصعيد غير المقصود.

إن مواجهة هذا المشهد المقلق تتطلب مقاربات غير تقليدية تتجاوز السياسات القائمة على سباق التسلح التقليدي. فبدلاً من تعزيز الترسانات النووية، ينبغي العمل على خلق بيئة دولية تدعم الحد من التسلح وتعزيز الشفافية وبناء الثقة المتبادلة. كما يجب على القوى الكبرى إدراك أن تحقيق الأمن القومي لن يكون مستداماً من خلال التفوق العسكري وحده، بل من خلال الالتزام بسياسات تحول دون الانجراف نحو حافة الهاوية النووية.

لماذا تصاعد سباق التسلح النووي في العالم؟