ساد العالم في الآونة الأخيرة حالة من الترقُّب وعدم اليقين حول شكل النظام المالي العالمي، في ظل التغيُّرات الهيكلية والمتسارعة منذ نشوب الحرب الروسية على أوكرانيا؛ ففور إطلاق روسيا العمليات العسكرية في الرابع والعشرين من فبراير الماضي، تعرَّضت لحربٍ ضارية ضد عملتها، شنتها كل من دول مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي، عبر توقيع جملة من العقوبات الواسعة النطاق، استهدفت بها القلة الحاكمة والعائلة المُقرَّبة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والبنوك الروسية وقطاع الطاقة في البلاد.

لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك، بل ساهم الحصار الذي تعرضت له روسيا، بجانب خشية حلفائها من أن ينالوا المصير الذي تلاقيه موسكو، في تسريع وتيرة التوجُّه نحو إلغاء الدولرة في النظام المالي العالمي، وهو التوجُّه الذي برز خلال العقد الماضي. ولعل التراجع التدريجي في قيمة الدولار الأمريكي يعد – حسب ما وصفه تقرير صادر عن محللي بنك أوف أمريكا بقيادة مايكل هارتنت – هو "المحصلة النهائية لتوظيف الدولار سلاحاً في عصر جديد من العقوبات"؛ ما بات يفرض على الدول حتمية البحث عن بدائل أخرى للتحرُّر من تأثير هيمنة الدولار عليها اقتصاديّاً.

حرب العملات

لعبت الحرب الروسية على أوكرانيا دوراً رئيسياً في احتدام التنافس بين العملات. ويُلاحظ في هذا الصدد تراجع هيمنة الدولار الأمريكي –ولو جزئيّاً – لصالح عملات أخرى، عقب العقوبات الغربية ضد روسيا. ويمكن استعراض المؤشرات الدالَّة على تفاقم الحرب المالية العالمية من خلال ما يأتي:

1– صمود عملة روسيا رغم العقوبات المُشدَّدة: وجَّهت الحرب المالية ضد روسيا تركيزها نحو إضعاف الروبل الروسي والنيل منه؛ وذلك بفرض جملة من العقوبات الاقتصادية، تمثلت في إدراج البنك المركزي الروسي في القائمة السوداء للنظام المالي العالمي الذي يهيمن عليه الدولار الأمريكي. أضف إلى ذلك، تجميد أصول البنك المركزي الروسي من العملات الأجنبية البالغة 630 مليار دولار بما يعادل 470 مليار جنيه إسترليني، فيما قامت البنوك الروسية البريطانية بتجميد أصول بنك سبيربنك؛ ليس ذلك فحسب، بل عمدت العقوبات إلى استبعاد أهم البنوك الروسية من نظام سويفت؛ من أجل تقييد المؤسسات المالية الروسية وإعاقتها عن إنجاز مدفوعاتها الدولية.

وقد أدَّى ذلك الأمر إلى تراجع قيمة الروبل الروسي إلى مستوى قياسي في الأيام الأولى التالية للحرب، بنحو 7% لتصل قيمته إلى 86.98 روبل للدولار الواحد، وأعقب ذلك انخفاض في قيمته بنسبة 40%؛ ما اضطر بورصة موسكو إلى تعليق التداول، لكن ذلك لم يستمر طويلاً مع إعلان روسيا عن اشتراطها على الدول "غير الصديقة" الدفع مقابل الغاز الروسي والمنتجات الروسية الأخرى بالروبل الروسي أو الذهب؛ فبعد ستة أسابيع من الحرب، بدا الوضع مختلفاً، مع استعادة الروبل معظم ما خسره، ولو ظاهريّاً؛ ما دفع بعض المسؤولين الروس إلى تأكيد فشل العقوبات ضد موسكو.

2– البحث عن باب خلفي للمدفوعات الروسية: تلعب الصين والهند على وجه الخصوص، ودول الشرق الأقصى عامةً، دوراً محوريّاً في حروب العملات العالمية؛ إذ اختارت تلك الدول الانسحاب من نظام العقوبات الأمريكي الموسع، فيما جاءت الهند على رأس الدول التي رحَّبت بفكرة توفير باب خلفي للمدفوعات لروسيا، في إطار سعيها إلى الحفاظ على استقلال سياستها الخارجية. وفي هذا السياق، صرَّح المسؤولون الهنود بأن الحكومة والبنك المركزي الهنديين يبحثان جدوى تسوية المعاملات بالروبية والروبل، بما في ذلك تجارة المقايضة التي تشمل النفط والسلع الأخرى.

3– سعي الصين إلى توفير نظام بديل لـ"سويفت": تسعى الصين إلى إنشاء بنية تحتية للمدفوعات كوسيلة بديلة للدفع في النظام المالي الدولي الذي يهيمن عليه الغرب عوضاً عن "سويفت"؛ لذا أطلقت الصين في يناير 2022 CIPS كعملة مشفرة سيادية، لتكون بديلاً عن نظام الدفع "سويفت". وبالرغم من كون الإطار الذي يعمل فيه ذلك النظام أصغر بكثير مما يعمل فيه نظام "سويفت"، الذي يتخذ من أوروبا مقرّاً له، فإن الميل الصيني نحو إلغاء الدولرة بجانب القوة التجارية لبكين، قد يؤديان إلى زيادة هيمنة الأنظمة المالية التي تقودها.

4– تضاؤل الهيمنة العالمية للدولار الأمريكي: تعتمد قوة العقوبات الخاصة بتجميد احتياطات روسيا من العملة الأجنبية على مدى هيمنة الدولار الأمريكي الذي يُعَد العملة الأكثر استخداماً في التجارة والمعاملات المالية. من ذلك المنطلق، تولَّد الحافز لدى عدد من الدول للتعاون معاً من أجل تجاوز الدولار؛ ما بات يُعرِّضه لخطر فقدان هيمنته؛ فمؤخراً، وقعت كل من روسيا والصين والهند وعدد قليل من الدول الأخرى اتفاقيات تجارية ثنائية على أساس اليوان والروبل والروبية، بعيداً عن الدولار الأمريكي.

وقد دفع هذا الأمر صندوق النقد الدولي إلى الاعتقاد بأن هيمنة الدولار يمكن أن تتضاءل خلال الفترة المقبلة؛ بسبب تجزئة النظام المالي العالمي. ووفق ورقة بحثية صادرة عن الصندوق، فإن الدولار الأمريكي بات يُشكِّل 59% من احتياطات العملات الأجنبية العالمية، بعدما كان يمثل 70% قبل عقدَيْن من الزمان، وهو ما وصفه الاقتصاديون بـ"التآكل الخفي للدولار".

5– تزايد قوة ومكانة اليوان الصيني عالميّاً: خلال العقد الماضي تسارعت عملية استيعاب اليوان – المعروف رسميّاً باسم الرنمينبي – في ظل النمو الهائل للاقتصاد الصيني؛ فمنذ يناير من عام 2009، استطاعت الدولة إبرام اتفاقيات مبادلة ثنائية مع 41 دولة؛ ما منح العملة الصينية زخماً في سوق العملات العالمية؛ حيث أصبحت الصين قوة اقتصادية عالمية في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، فيما أصبح اليوان الصيني أول عملة في الأسواق الناشئة يتم تضمينها في سلة حقوق السحب الخاصة بصندوق النقد الدولي. وتسعى الصين في الوقت الراهن إلى تنفيذ خطط طويلة الأجل كي تلعب عملتها دوراً أكبر بكثير في النظام المالي الدولي مستقبلاً.

6– تنامي حجم التعاملات بالعملات المشفرة: نمت القيمة السوقية للأصول المُشفَّرة عالمياً 3.5 مرة خلال عام 2021 لتصل إلى 2.6 تريليون دولار. ووفقاً لتقديرات البنك المركزي الروسي، فإن حجم المعاملات السنوية للروس باستخدام العملات المُشفَّرة، تُقدر بنحو 5 مليارات دولار. وحسب Binance أكبر سوق لتبادل العملات الرقمية في العالم، فإن حجم البتكوين المتداول بالروبل الروسي، قفز بنسبة 330% من 100 بتكوين في اليوم السابق لحرب أوكرانيا إلى 430 بتكوين في يوم الرابع والعشرين من فبراير. ويتوقع الخبراء أن يبلغ إجمالي أصول التشفير المملوكة للمواطنين الروس خلال العام الجاري نحو 200 مليار دولار.

عوامل محفزة

لم يكن الحديث عن إلغاء الدولرة وتراجع هيمنة الدولار وليد الحرب الروسية، ولا نتيجة للعقوبات الجديدة ضد روسيا فحسب؛ فعلى مدار العقد الماضي، تضافرت عدة عوامل ساعدت على تحفيز التحول من الدولار إلى عملات احتياطية أخرى. ويمكن استعراض هذه العوامل عبر ما يأتي:

1– تعاون روسيا والصين لدعم جهود إزالة الدولرة: ظهرت سياسة إلغاء الدولرة كأولوية بالنسبة إلى روسيا في عام 2014، ردّاً على العقوبات الغربية التي فُرضَت عليها عقب ضم شبه جزيرة القرم بجنوب أوكرانيا. وقد وجدت روسيا مبكراً في بكين شريكاً لدعم جهودها نحو إلغاء الدولرة، كجزء من تعاونهما الاقتصادي المُوسَّع. وفي ذلك الإطار، وقَّع رئيس مجلس الدولة الصيني "لي كه تشيانج" نحو 38 اتفاقية خلال زيارته إلى موسكو عام 2014؛ لتعميق التعاون بين البلدَيْن في مجال الطاقة وإبرام صفقة تبادل عملات مدتها ثلاث سنوات بقيمة 150 مليار يوان؛ أي ما يعادل 24.5 مليار دولار.

وفي عام 2017، تم تجديد تلك الصفقة لمدة ثلاث سنوات أخرى. وعلى مدار الفترة الممتدة من عام 2013 حتى عام 2020، استطاع البنك المركزي الروسي الاستعاضة عن نصف احتياطاته من الدولار باليوان واليورو. وفي عام 2021، كشفت روسيا عن خطط للتخلي التام عن جميع الأصول الدولارية من صندوق الثروة السيادي الخاص بها وزيادة الحيازات باليورو واليوان والذهب عوضاً عن ذلك.

2– الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة: بدأت الصين ترى قيمة التعاون مع روسيا لإلغاء الدولرة بعد اندلاع الحرب التجارية بينها وبين الولايات المتحدة في عام 2018، حين استخدمت الولايات المتحدة تدابير مالية عقابية ضد الصين، وفرضت تعريفات جمركية باهظة على البضائع الصينية، وهو الأمر الذي شجَّع كلّاً من روسيا والصين على الابتعاد عن استخدام الدولار في التجارة الثنائية في عام 2018.

ولم يتوقَّف الأمر عند ذلك؛ فسرعان ما صاغت بكين استراتيجية مهَّدت الطريق لتوقيع اتفاقية مع روسيا في 2019، بهدف الاستعاضة عن الدولار بالعملات الوطنية في التسويات الدولية بينهما. وقد ساعد التنسيق الصيني مع روسيا بكين على تقليل اعتمادها على الدولار في التجارة الدولية، حتى انخفضت احتياطيات الصين من الدولار الأمريكي من نحو 1.3 تريليون دولار في عام 2013 إلى 1.1 تريليون دولار في مطلع عام 2022.

3– تعزيز الاستقلال الذاتي للعملة الأوروبية المشتركة: في عام 1999، تم إطلاق اليورو عملةً أوروبيةً مشتركةً، لتصبح البديل الرئيسي للدولار في ذلك الوقت، غير أنه ابتداءً من عام 2012، أكد البنك المركزي الأوروبي أنه حان الوقت للاستعداد للعمل كمزود سيولة الملاذ الأخير للأسواق في الأصول المقومة باليورو في البلدان التي تستخدم العملة الأوروبية. وفي عام 2020، تم إنشاء صندوق الإنعاش الأوروبي بقيمة 850 مليار يورو؛ وذلك لدعم الاقتصاد الأوروبي. وقد أُتيح للمفوضية الأوروبية إمكانية الاقتراض من صندوق الإنعاش الأوروبي في الأسواق المالية. وفي تحرك جديد من أجل تعزيز الدور الدولي لليورو واستقلاليته، فإن المفوضية الأوروبية تبحث في الوقت الحالي تفعيل اليورو الرقمي بجانب الأوراق النقدية والمعدنية؛ للحاق بركب التكنولوجيا في سوق العملات.

4– نمو سيولة العملات الصغيرة في الأسواق المالية: أدَّى الانخفاض في تكاليف المعاملات، بالإضافة إلى ظهور منصات التداول الإلكترونية، إلى انخفاض المدخرات المرتبطة بالدولار الأمريكي، تزامناً مع تطوير عدد متزايد من البلدان أسواقاً واعدة لتداول العملات. وقد عززت الشبكة العالمية لخطوط مقايضة العملات بالبنك المركزي، من قدرة البنوك المركزية على الوصول إلى عملات أخرى غير تلك التي تحتفظ بها كاحتياطيات، وهو ما بات يشجِّع على التحول من الدولار إلى عملات الاقتصادات الأصغر التي كانت تاريخيّاً أقل في الحجم والسيولة، كالدولار الأسترالي، والـ"وون" الكوري.

5– اتجاه المُصدرين نحو التنويع في تسعير النفط: أثارت العقوبات ضد روسيا المخاوف لدى عدد من مُصدِّري النفط الذين يمتلكون كميات كبيرة من سندات الخزانة بالدولار الأمريكي، وهو ما بات يدفع بقوة نحو تنويع تلك الدول تعاملاتها، بحيث لا تقتصر على التعامل بالدولار الأمريكي. وقد بدأت المملكة العربية السعودية إدراك هذا الأمر خلال الفترة الماضية؛ حيث انخفضت سندات الخزانة المملوكة للمملكة العربية السعودية من 185 مليار دولار في فبراير 2020 إلى 119 مليار دولار في سندات الخزانة في يناير 2022. وكمؤشر على التحول السريع نحو خطط التنويع للمملكة، فإن السعودية تُجري في الوقت الراهن محادثات لتسعير بعض النفط الخام الذي تبيعه للصين باليوان الصيني، حسب صحيفة وول ستريت جورنال.

تكتلات متنافسة

خلاصة القول: يبقى من غير المُرجَّح استبدال الدولار كعملة احتياطية على المدى القريب، غير أن أي تحول ثابت بعيداً عن الدولار بمرور الوقت قد يؤدي إلى تجزئة الاقتصاد العالمي، كأن يتم تقسيم المدفوعات بالتساوي بين العملات، بما في ذلك الدولار واليورو واليوان، وقد يؤدي ذلك إلى تقسيم الاقتصاد العالمي في شكل تكتلات متنافسة، بيد أن التحول نحو اقتصاد عالمي يفتقر إلى هيمنة الدولار، يعني استحالة حدوث اختلالات كبيرة في التجارة والمدخرات، وإن بدا ذلك أمراً جيداً، لكن مع حدوث أي أوجه قصور هيكلية في الطلب المحلي، فإن أي سياسة تفرض القضاء على الاختلالات التجارية العالمية أو تقليلها بحدة، من شأنها أن تفرض تغييرات مؤسسية عميقة في الاقتصاد العالمي.

هل تتغيَّر بنية النظام النقدي العالمي عقب الحرب الأوكرانية؟