د. منى سليمان

استقبل صاحب السمو الشيخ "محمد بن زايد آل نهيان" رئيس دولة الإمارات، يوم 29 يوليو 2024، رئيس جمهورية تشيلي "غابرييل بوريك فونت"، في زيارة هي الأولى من نوعها منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين عام 1978. وقد عقد الرئيسان مباحثات رسمية موسعة في قصر الوطن بأبوظبي، وأكدا حرصهما على توطيد العلاقات الثنائية في شتى المجالات، وفتح آفاق جديدة للتعاون بين الدولتين، ثم شهدا التوقيع على اتفاقية "الشراكة الاقتصادية الشاملة" بين الإمارات وتشيلي والذي وصفه صاحب السمو رئيس دولة الإمارات بأنه "نقطة تحول بمسار العلاقات الاقتصادية" بين الدولتين. كما شملت المباحثات التطورات الإقليمية، وكشفت عن توافق في وجهتي النظر بشأن معالجة الأزمات الإقليمية والدولية وفق قوانين الأمم المتحدة، وعبر تعزيز العمل الدولي متعدد الأطراف، وترسيخ الاستقرار والتعاون والتنمية المستدامة.توسيع التعاون تُعد زيارة "غابرييل بوريك فونت" لدولة الإمارات الأولى التي يقوم بها رئيس تشيلي لأبو ظبي منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين عام 1978، وفي هذا الصدد شهدت الزيارة تأكيداً على أهمية تعزيز التعاون بين الدولتين. وبوجه عام، يمكن تناول أبرز نتائج الزيارة على النحو التالي:1- تأكيد قيادة الدولتين على أهمية توسيع التعاون: رحب صاحب السمو الشيخ "محمد بن زايد آل نهيان" رئيس دولة الإمارات بضيفه رئيس تشيلي "غابرييل بوريك فونت"، ودعا لتعزيز التعاون بين أبوظبي وسانتياجو في مجالات (الاقتصاد، الاستثمار، الطاقة المتجددة، الاقتصاد الرقمي، العمل المناخي وحلول الاستدامة، البنية التحتية)، وفتح آفاق جديدة تخدم مصالحهما المتبادلة، لتحقيق الازدهار الاقتصادي واستثمار الفرص لتطوير التعاون خاصة في الطاقة المتجددة والاقتصاد الرقمي.بدوره، أعرب "فونت" عن سعادته بزيارة أبوظبي، وجدد حرص بلاده على توسيع آفاق التعاون معها والاستفادة من تجربتها التنموية الملهمة، واستثمار كل الفرص المتاحة لبناء شراكات مثمرة تحقق المصالح المتبادلة، ولا سيما في مجالات الاقتصاد والاستثمار، وأكد أن الزيارة تُمثل دفعة قوية للعمل المشترك لما فيه مصلحة البلدين وبما يحقق تطلعاتهما تجاه تحقيق مزيدٍ من التنمية والازدهار، كما أكد الرئيسان التوافق بشأن ضرورة الالتزام بميثاق الأمم المتحدة واحترام الاتفاقيات والقوانين الدولية لإقامة علاقات مع جميع دول العالم على أساس الاحترام المتبادل.2- توقيع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة: شهد الرئيسان التوقيع على اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين الإمارات وتشيلي، ووصف صاحب السمو رئيس دولة الإمارات الاتفاقية بأنها "نقطة تحول بمسار العلاقات الاقتصادية بين الدولتين، وتجسد الإرادة المشتركة لتحقيق تطور نوعي في علاقاتهما، كما أنها تُعد تجسيداً لنهج دولة الإمارات في بناء جسور التعاون والشراكات التنموية مع الاقتصادات الهامة بالعالم". وأشار صاحب السمو إلى أن "ما يدعم تضاعف حركة التجارة بين البلدين هو أن تشيلي طرف في الإعلان المشترك للتعاون بشأن ممر المحيطين الذي تم توقيعه على هامش مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (كوب 28) التي عُقدت بالإمارات عام 2023 بغية توسيع آفاق التجارة الإقليمية. وكشف صاحب السمو رئيس الدولة عن ارتفاع التبادل التجاري غير النفطي بين أبوظبي وسانتياغو خلال الثلث الأول من العام الحالي بنسبة (26%) مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.جدير بالذكر أن الاتفاقية تهدف لتخفيض الرسوم الجمركية بنسبة (99.5%) بين الدولتين، وتأسيس مسارات جديدة لتدفق الاستثمارات عبر توفير فرص للقطاع الخاص بالجانبين لبناء الشراكات المشتركة، ولا سيما بعد ارتفاع حجم التجارة غير النفطية بين الدولتين عام 2023 إلى (305.1 مليون دولار).3- طرح مجالات متنوعة للتعاون بين الدولتين: فقد كشفت الزيارة عن حرص الدولتين على تنويع مجالات التعاون بينهما؛ حيث تم التوقيع على عددٍ من مذكرات التفاهم بمجالات جديدة، وشملت مجالات (الأمن الغذائي، الاستثمار في الأغذية الزراعية، تكنولوجيا المعلومات، البحوث والأنشطة الفضائية للأغراض السلمية). كما تم إعلان نوايا للتعاون في مجال التعدين؛ حيث تعد تشيلي أكبر منتج للنحاس وثاني أكبر منتج لليثيوم بالعالم. يُذكر أنه في أبريل 2024، وقعت غرفة تجارة وصناعة أبوظبي واتحاد التنمية الصناعية في تشيلي على مذكرة تفاهم لربط السوقين معاً. وتتميز تشيلي بأنها اقتصاد ناشئ، ورابع أكبر اقتصاد في أمريكا الجنوبية، وتتمتع بثروة زراعية وسمكية ومعدنية هائلة، وهو ما يطرح فرصاً استثمارية هامة في هذا المجال أمام المستثمرين الإماراتيين.4- دعم التفاهمات بين الدولتين في مجال المناخ: أوضح صاحب السمو رئيس دولة الإمارات أهمية التعاون في مجال العمل المناخي بين الدولتين، خاصة وأن لهما مشاريع نوعية هامة وتجارب ناجحة بهذا المجال، كما أن لهما هدفاً موحداً هو الوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2050، كما ترتبط تشيلي بشراكة مع "تحالف القرم من أجل المناخ" الذي تقوده الإمارات وإندونيسيا، ويهدف لتعزيز الجهود العالمية لتنمية القرم التي تعد أحد أهم الحلول الحيوية الطبيعية لمواجهة التغيرات المناخية وحماية النظم البيئية الساحلية. وفي هذا الإطار، تحرص الدولتان على تنفيذ استراتيجيات تضمن استدامة المجالات البيئية والمناخية، والعمل على تنويع مصادر الطاقة المتجددة.5- تعزيز التواصل الثقافي والعلمي: أكد صاحب السمو رئيس الإمارات ورئيس تشيلي على ضرورة إيلاء المزيد من الاهتمام لتطوير التعاون الثقافي والعلمي بين البلدين، ويمكن القول إن زيارة صاحب السمو الشيخ "محمد بن راشد آل مكتوم" نائب رئيس الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي عام 2014 لسانتياجو مثلت باكورة التعاون الثقافي بين الدولتين، لأنها شهدت التوقيع على مذكرة تفاهم لتعزيز التبادل الثقافي بين الحكومتين فيما يخص تطوير وسائل الحوار بين مختلف الثقافات الدولية، والمساهمة في بناء جسور التواصل الثقافي بين الشعوب لتحقيق السلام والتعايش والاستقرار.كما تحرص السفارة الإماراتية بسانتياجو بصفة مستمرة على تنظيم الندوات العلمية والثقافية لإبراز الدور الريادي للإمارات في مختلف المجالات، ولا سيما في مجال التسامح وقبول الآخر، كما تعاونت السفارة مع البرلمان التشيلي لتنظيم عددٍ من الفعاليات الإنسانية والثقافية الهادفة لدعم الفنانين المحليين ومؤسسات الأطفال ذوي الهمم.وأشاد السفير التشيلي في أبوظبي "باتريسيو دياز بروتون" بتبني الدولتين عدداً من القيم المشتركة، ومنها الانفتاح على العالم وتمكين المرأة، مما يعد أرضية صلبة لتعزيز التعاون بتلك المجالات، وقد ثمّن منح رئيسة منظمة "المرأة الصامدة" غير الحكومية بتشيلي الراهبة "نيلي ليون كوريا"، جائزة "زايد للأخوة الإنسانية" في دورتها الخامسة لعام 2024. وعلى صعيد التعاون العلمي فقد شارك باحثون من تشيلي في برنامج التدريب البحثي بجامعة "محمد بن زايد" للذكاء الاصطناعي، كما تعتزم الدولتان تطوير تعاونهما بمجال أبحاث الفضاء.دلالات رئيسيةتستدعي زيارة رئيس تشيلي "غابرييل بوريك فونت" لأبو ظبي عدداً من الدلالات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:1- استكمال مسار التقارب السياسي بين الدولتين: أضفت زيارة "فونت" لأبوظبي زخماً مضاعفاً على التعاون الثنائي بين الإمارات وتشيلي والذي تجلى في الزيارات المتبادلة بين مسؤولي الدولتين. فعلى سبيل المثال، قام وفد إماراتي برئاسة وزير الدولة للتجارة الخارجية معالي الدكتور "ثاني بن أحمد الزيودي" بزيارة تشيلي في أبريل 2024 لتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية. وفي مايو 2024، تواصل هاتفياً سمو الشيخ "عبدالله بن زايد آل نهيان" وزير الخارجية الإماراتي مع نظيره التشيلي "ألبرتو فان كلافيرين" للتأكيد على رغبة الدولتين في تطوير التعاون المشترك بينهما. ثم استقبل معالي "صقر غباش" رئيس المجلس الوطني الاتحادي ، في شهر مايو 2024، السفير التشيلي بأبوظبي "باتريسيو دياز بروتون" لبحث توطيد الشراكات الاستراتيجية بين الطرفين، وتعزيز العلاقات البرلمانية بين الدولتين، وتبادل المعلومات والخبرات البرلمانية، والتنسيق لتوحيد الآراء والمواقف في مختلف المحافل البرلمانية الدولية مثل الاتحاد البرلماني الدولي وبرلمان أمريكا اللاتينية. وهكذا جاءت زيارة رئيس تشيلي للإمارات والتوقيع على اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة بين الإمارات وتشيلي، لتؤكد على حرص الدولتين على توسيع مجالات التعاون بينهما، ووضع خارطة طريق لتحقيق نقلة نوعية في التعاون بينهما بشتى المجالات.2- دعم سياسة انفتاح الإمارات على أمريكا اللاتينية: فقد أكد صاحب السمو الشيخ "محمد بن زايد" رئيس الإمارات خلال الزيارة أن الإمارات تمتلك رؤية شاملة لتعاونها مع دول أمريكا اللاتينية ترتكز على الجوانب التنموية، لأن التعاون والاستقرار هما الركيزة الأساسية لتحقيق مستقبل أكثر ازدهاراً واستدامة لجميع شعوب العالم، وهذا يُعد ركيزة للسياسة الخارجية للدولة التي لم يمنعها البعد الجغرافي من توطيد تعاونها مع دول أمريكا اللاتينية، فخلال أزمة كورونا أرسلت الإمارات مساعدات طبية لعدد من الدول لمكافحة الفيروس ومنها بعض دول أمريكا اللاتينية، حيث تمّ تخصيص نحو 9 أطنان مساعدات لتشيلي.كما وقّعت الإمارات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة مع كولومبيا في أبريل 2024. وفي ديسمبر 2023 وضمن فعاليات مؤتمر الأطراف المناخي ( COP28)، وقّعت الإمارات مع البرازيل وباراجواي وتشيلي والأرجنتين "إعلاناً مشتركاً للتعاون بشأن ممر المحيطين"، ويهدف لتعزيز التكامل الإقليمي والكفاءة اللوجستية وجذب الاستثمارات المناسبة عبر الممر. كما شارك عدد من دول أمريكا اللاتينية في "القمة العالمية للحكومات 2024" التي عقدت بالإمارات في فبراير 2024. هذا فضلاً عن أن الدولة تحظى بشراكة مع منطقة مجموعة "دول أمريكا اللاتينية والكاريبي" في الأنشطة التنموية والإنسانية، التي تساهم بتحفيز النمو المستدام والمفيد للطرفين في تجارة السلع والخدمات، ولذا تعد الإمارات الدولة المؤهلة لتصبح جسراً للتواصل الاقتصادي والثقافي بين الدول العربية وأمريكا اللاتينية، وهو ما سيعود بالنفع على الإقليمين لا سيما وأنهما يشكلان سوقاً كبيراً.3- استكمال تنفيذ وثيقة مبادئ الخمسين للإمارات: يعد توطيد العلاقات مع جمهورية تشيلي وتعزيز التعاون معها وتوسيع الشراكات الدولية عبر توقيع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة، تنفيذاً لأهداف وثيقة مبادئ الخمسين التي أطلقتها أبوظبي في 2021، وحددت أهدافها للعقود الخمسة المقبلة، والتي تشمل على الصعيد السياسي السعي مع الشركاء الإقليميين والأصدقاء العالميين لترسيخ السلام والاستقرار الإقليمي والعالمي كمحرك أساسي للسياسة الخارجية الإماراتية. كما تعزز الوثيقة من تحركات الدولة لتوقيع اتفاقيات شراكة شاملة مع الأسواق الاستراتيجية حول العالم، بغية رفع حجم التبادل التجاري غير النفطي المستقبلي للدولة.4- تنسيق المواقف بالمؤسسات الدولية: تشترك الإمارات وتشيلي في عدد من المنظمات الدولية في مقدمتها الأمم المتحدة ومؤسسة التنمية الدولية ومنظمة التجارة العالمية، وهو ما يتيح للدولتين فرصاً لتعزيز التواصل وتنسيق المواقف بينهما بمختلف المجالات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والأمنية بما يحقق مصالح الدولتين، لا سيما وأنهما تتشاركان نفس مبادئ السياسة الخارجية القائمة على احترام قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي، والاعتماد على الحوار والتفاوض لمعالجة الأزمات الراهنة. كما يمكن التنسيق بين الطرفين فيما يخص قضايا الشرق الأوسط، وفي مقدمتها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.ختاماً، يمكن القول إن نتائج زيارة رئيس تشيلي الأولى لدولة الإمارات تمثل خارطة طريق لتوطيد التعاون بين الدولتين بشتى المجالات، ولا سيما الاقتصادي منها، وتؤكد مساعي أبوظبي لتنويع استثماراتها الاقتصادية وسياساتها الخارجية بين مختلف الأقاليم الهامة من جنوب شرق آسيا حتى أمريكا اللاتينية، وهو ما يعزز الدور الإقليمي والدولي للإمارات، ويجعلها نموذجاً يُحتذى به في تطوير العلاقات الدولية، كما أن الدولة يمكنها أن تصبح جسراً للتواصل يربط بين الدول العربية ومختلف تلك الأقاليم، وهو ما سيعود بالنفع على كافة الأطراف، وسيساهم في معالجة القضايا الإقليمية والدولية الراهنة.

ما دلالات زيارة رئيس تشيلي للإمارات؟