د. منى سليمان


        
<p>أصدر الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" يوم 11 يوليو 2022، مرسوماً يقضي بتسريع وتسهيل إجراءات منح الجنسية الروسية لجميع الأوكرانيين؛ وذلك بعد أربعة أشهر ونصف على بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا؛ وذلك بغية تعزيز النفوذ الروسي بإقليم الدونباس ومناطق شرق وجنوب البلاد. وقد حظي القرار بترحيب مواطني تلك المناطق ورفض أوكراني أمريكي، ووصفته كييف بأنه تعدٍّ على سيادتها، ودعت واشنطن إلى فرض المزيد من العقوبات على موسكو ومدها بصواريخ بعيدة المدى رداً على هذا القرار الروسي؛ ما ينذر بتصعيد سياسي وعسكري للأزمة.&nbsp;</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">أهداف رئيسية&nbsp;</span></strong></p>



<p>ينص المرسوم الروسي على أن "جميع مواطني أوكرانيا لهم الحق في تقديم طلب الحصول على جنسية الاتحاد الروسي بموجب تسهيل في الإجراءات". ويشمل هذا الإجراء جميع المواطنين الأوكرانيين، وأزال عدداً من المتطلبات السابقة للحصول على الجنسية الروسية، ومنها على سبيل المثال الشرط الذي كان يؤكد ضرورة العيش في روسيا لمدة خمس سنوات، أو الحصول على مصدر دخل والخضوع لاختبار اللغة الروسية، كما سيتم النظر في المستندات والوثائق في مدة 6 أشهر فقط، في المقابل أصدرت أوكرانيا قانوناً يمنع مواطنيها من الحصول على جنسية ثانية، بيد أنه فعلياً لم ينفذ.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>وفي هذا الإطار، يمكن القول إن روسيا تسعى إلى مجموعة من الأهداف الرئيسية من وراء مرسوم التجنيس، وهو ما يمكن تناوله على النحو الآتي:</strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– التكريس للنفوذ الروسي في أوكرانيا: </strong>مرسوم التجنيس الروسي الأخير ليس الأول من نوعه؛ فقد صدرت قرارات مماثلة في مايو 2022 بتسهيل إجراءات الحصول على جواز سفر روسي لسكان منطقتي زابوريجيا وخيرسون الخاضعتين للسيطرة الروسية، كما أُقر في فبراير 2022 قرار بتسريع إجراءات مماثلة لمواطني الدونباس من جمهوريتي دونيتسك ولوجانسك، اللتين اعترفت موسكو بانفصالهما واستقلالهما، وقد تم تجنيس نحو 800 ألف شخص من الدونباس من أصل 4 ملايين نسمة هم سكان الإقليم الأوكراني الموالي لروسيا.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وتعد "سياسة التجنيس" سياسة شهيرة تستخدمها روسيا لبسط نفوذها على الأقاليم الانفصالية بدول الاتحاد السوفييتي السابق؛ حيث أصدرت قرارات مماثلة إزاء منطقتي أوسيتيا الجنوبية (2008) وأبخازيا (2002) الانفصاليتين في جورجيا، ومنطقة ترانسدنيستريا الانفصالية الموالية لروسيا في مولدوفا، وهي أقاليم تطالب بالانفصال عن دولها والانضمام إلى روسيا وتحظى موسكو بنفوذ سياسي وحضور عسكري كبير فيها، وهو ما سيتكرر بمناطق شرق وجنوب أوكرانيا.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– استقطاب العسكريين الأوكرانيين: </strong>ربما يؤدي هذا القرار إلى استقطاب موسكو عدداً من المواطنين والعسكريين الأوكرانيين مقابل العفو عنهم ومنحهم الجنسية وحياة جديدة بروسيا بعدما تأكد لهم خسارتهم الحرب وتدمير دولتهم (أوكرانيا)؛ ما يؤدي إلى صعوبة الحياة فيها، لا سيما أن المرسوم ينص على أن "الخدمة العسكرية أو الخدمة في الأمن القومي أو وكالات إنفاذ القانون في دونيتسك ولوجانسك الشعبية لا يمكن اعتبارها سبباً لرفض الجنسية الروسية". وقد ظهرت مؤشرات هذا التوجه، في 21 يونيو الماضي، حينما لجأ عسكريان أوكرانيان إلى القيادة العسكرية الروسية بمدينة خيرسون وطلبا الحصول على الجنسية الروسية والالتحاق بصفوف الجيش الروسي. وقال العسكريان إنهما تلقيا استدعاءات التجنيد الإجباري في مكان عملهما، وتلقيا تهديداً بالسجن ثلاث سنوات بتهمة التهرب من الخدمة العسكرية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– تبرير التدخل العسكري الروسي:</strong><strong> </strong>تمنح العقيدة العسكرية الروسية الحق للجيش في التدخل العسكري لحماية المواطنين الروس بدول الجوار؛ ولذا فإن تجنيس مواطني أوكرانيا بالجنسية الروسية سيمنح موسكو حق التدخل العسكري حالياً ومستقبلاً لحماية هؤلاء المواطنين المجنسين ضد أي اضطهاد يتعرضون له من قبل الجيش أو الجماعات المسلحة الأوكرانية، وقد كانت حماية الأقليات الروسية هي المبرر للتدخل العسكري الروسي في جورجيا 2008، وأوكرانيا عام &nbsp;2014 &nbsp;لضم شبه جزيرة القرم، وفي 24 فبراير 2022 بإقليم الدونباس للدفاع عن "الأقليات الروسية المضطهدة من كييف" على حد تعبير موسكو، كما أن روسيا ستستخدم ذلك ورقة ضغط على كييف بعد إتمام اتفاق وقف إطلاق النار والتفاوض، فيمكنها في أي وقت التدخل العسكري لحماية&nbsp; مواطنيها في المديين القصير والمتوسط.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4– دعم إجراءات ضم المناطق المجنسة إلى روسيا:</strong> تسعى موسكو إلى ضم المناطق التي حصل سكانها على الجنسية الروسية إلى الاتحاد الروسي مستقبلاً؛ فقد أعلنت مقاطعة زابوريجيا في منتصف يوليو 2022 عن إجراء استفتاء شعبي في 11 سبتمبر المقبل حول الانضمام إلى روسيا. وأكد رئيس الإدارة العسكرية والمدنية فيها "فجيني باليتسكي" أن أكثر من 60% من سكانها يرون أنفسهم كياناً منفصلاً تابعاً لروسيا في المستقبل، وطالب موسكو بدعمهم؛ لأن سكان المقاطعة يريدون "بقاء روسيا في المنطقة ويخشون عودة الاضطهاد لهم من قبل الأوكرانيين مرة أخرى". وأشار "باليتسكي" إلى أن هذه المناطق تهدف إلى تطبيق سيناريو "شبه جزيرة القرم" التي انفصلت عن أوكرانيا في 2014 وانضمت إلى روسيا ثم حققت تنمية اقتصادية واجتماعية في بناء وتطوير البنية التحتية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>كما أعلن رئيس الإدارة العسكرية المدنية المشتركة لمقاطعة خيرسون "فلاديمير سالدو"، عن عزمه إجراء استفتاء مماثل للانضمام إلى روسيا؛ وذلك بعدما شهدت المقاطعة زيادة كبيرة في طلبات الحصول على الجنسية الروسية، وتم زيادة عدد مراكز دوائر الهجرة الروسية لتلبية طلبات السكان. وحال ضم تلك المناطق إلى روسيا فإن ذلك سيؤدي إلى تعزيز نفوذها دولياً بدرجة كبيرة؛ حيث ستتحكم في بحر آزوف والبحر الأسود والموارد النفطية به وحركة العبور الملاحي من خلاله، كما ستحصل على الموارد الطبيعية بتلك المناطق؛ حيث يحتوي إقليم الدونباس على واحد من أكبر مناجم الفحم في العالم.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>5– تعزيز سياسة القومية الروسية:</strong> اعتمد الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" منذ توليه الحكم عام 1999، على "القومية الروسية" باعتبارها محدداً لسياسته الداخلية والخارجية، وهو ما تضمن الترويج لـوضع صورة موضوعية للاتحاد الروسي عالمياً، والترويج لاستخدام اللغة والثقافة الروسية كأحد أولويات السياسة الخارجية الجديدة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وصاغ الرئيس الروسي تعريفاً جديداً "للقومية"، وفق رؤيته السياسية، يمكن أن نطلق عليه "القومية البوتينية" التي تعبر عن وجهة نظره ومفهومه للقومية الروسية الجديدة التي تعتمد على الانتماء الإثني والثقافي والمجال الجغرافي ومعاداة الغرب وقيمه وأفكاره، ويمكن تعريفها بأنها تشمل الدفاع عن المنتمين إلى السلافية ويتحدثون اللغة الروسية ويتبنون الثقافة والتقاليد الروسية ويوجدون داخل أراضي الاتحاد الروسي أو في مجاله الجغرافي بدول الجوار التي تنتشر فيها الأعراق الروسية بنسب مختلفة في دول الاتحاد السوفييتي السابق وآسيا الوسطى وشمال أوروبا والقوقاز. وقد أكد "بوتين" ذلك في خطاباته السياسية على نحو متكرر؛ حيث أوضح أن "إقليم الدونباس وشبه جزيرة القرم جزء من القومية والأراضي الروسية التي يجب الدفاع عنها".</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">تصعيد متبادل</span></strong></p>



<p><strong>من المنتظر أن يؤثر قرار التجنيس الروسي للمواطنين الأوكرانيين على مسار الأزمة الأوكرانية من ثلاث زوايا رئيسية:&nbsp; &nbsp;</strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– إطالة أمد الحرب بين موسكو وكييف:</strong> يعد المرسوم الروسي بتجنيس الأوكرانيين تصعيداً سياسياً روسياً للرد على العقوبات الغربية المستمرة ضد موسكو، وقد واجهته كييف بتصعيد عسكري؛ فقد دعا وزير الخارجية الأوكراني "دميتري كوليبا"، في 11 يوليو 2022، واشنطن و"الناتو" إ إلى تزويد كييف بأسلحة أثقل رداً على مرسوم "بوتين". وأصدرت وزارة الخارجية الأوكرانية بياناً يدعو شركاءها إلى فرض عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا، ووصفت القرار بأنه يعد "تعدياً على سيادة ووحدة أراضي أوكرانيا، ويتعارض مع قواعد ومبادئ القانون الدولي".</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وفي المقابل، ذكرت موسكو أن "ردها على أي عقوبات غربية جديد ضدها سيكون مؤلماً جدا"؛ حيث تسعى الحكومة الأوكرانية للضغط على واشنطن إلى تزويدها بصواريخ بعيدة المدى لقاذفات صواريخ "هيمارس"، التي سلمتها مؤخراً إلى كييف؛ إذ لا يملك الجيش الأوكراني حالياً سوى صواريخ يبلغ مداها 70 كم للقاذفة، وهذا لا يسمح لها بالرد على القصف الروسي المتكرر لمناطق جنوب شرق أوكرانيا، بيد أن واشنطن لا تزال مترددة في تزويد كييف بمثل تلك الصواريخ البعيدة المدى؛ لأنها تخشى استخدامها في مهاجمة أهداف داخل الحدود الروسية، وهو ما ينذر باحتمالين: إما فرض المزيد من العقوبات المتبادلة وتصعيد موسكو وكييف عسكرياً؛ الأمر الذي سيؤدي إلى إطالة أمد الصراع، أو رفض واشنطن والغرب فرضها ومد كييف بأسلحة ثقيلة لتجنب المزيد من التصعيد العسكري.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– احتمالية تقسيم أوكرانيا:</strong><strong> </strong>إذ تعمل موسكو على فصل مناطق جنوب وشرق أوكرانيا عن غرب البلاد عسكرياً بالسيطرة عليها، وسياسياً بمنح الجنسية لمواطنيها وإدارتها بعد ذلك، وهو ما سيؤدي إلى تقسيم فعلي غير معلن لأوكرانيا، يخضع خلاله إقليم الدونباس ومدن الجنوب المطلة على بحر آزوف وساحل البحر الأسود للسيطرة الروسية التامة وهو ما يمثل أكثر من 30% من مساحة أوكرانيا. أما العاصمة كييف بغرب أوكرانيا والمدن المحيطة بها فتخضع للحكومة المركزية المتحالفة مع واشنطن والغرب. وعند التفاوض النهائي بعد وقف إطلاق النار يمكن منح تلك المناطق حكماً ذاتياً في إطار فيدرالية موسعة أو يتم ضمها نهائياً إلى روسيا.&nbsp;</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– إثارة صراع القوميات في الفضاء السوفييتي السابق:</strong><strong> </strong>ثمة مخاوف من إثارة صراع القوميات إثر الصدام الحالي بين القوميتين الروسية والأوكرانية؛ حيث يسعى الرئيس "بوتين" إلى تأكيد إلغاء الأخيرة وأنها جزء من روسيا لغة وثقافة وجنسية؛ لذا&nbsp; برزت وتصاعدت القومية الأوكرانية والمدافعون عنها ولجأت كييف إلى تمجيدها وتمجيد أبطالها القوميين كرد فعل على تعزيز القومية الروسية، وهو ما ينذر بإثارة صراع القوميات بجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، التي تضم حالياً عشرات القوميات المختلفة لكل منها جنسيتها ولغتها وثقافتها المنبثقة من الثقافة الروسية بفعل الخضوع للحكومة المركزية بموسكو لنحو 70 عاماً، وهذا ربما يؤدي إلى انتشار النزعات الانفصالية والحروب الأهلية بمنطقتي القوقاز وآسيا الوسطى وشرق أوروبا، كما أن انعكاساتها بدأت تظهر على الصعيد الأوروبي؛ حيث شهدت عدة دول كألمانيا والمجر ودول البلطيق، تصاعداً مماثلاً في النزعات القومية واليمينية المتطرفة؛ الأمر الذي يهدد السلم الاجتماعي الأوروبي.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>خلاصة القول أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لن تتوقف تداعياتها على الآثار العسكرية المترتبة عليها، بل إن الآثار السياسية والاجتماعية لها لم تظهر بعد في ظل إصرار موسكو على إعادة هندسة المجتمع الأوكراني، وخاصة في المناطق الخاضعة لسيطرتها، ولا يمكن إغفال أن هذه السياسات ستكون لها ارتدادات متعددة على السلم والأمن الاجتماعي أوروبياً ودولياً؛ لأنها ستخلق بيئة محفزة على المزيد من الصراعات في المستقبل حتى بعد انتهاء الحرب الأوكرانية الراهنة.</strong></p>

      

لماذا أصدرت روسيا مرسوماً لتجنيس الأوكرانيين؟