عقد "إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية"، حلقة نقاشية تحت عنوان "كيف تتعامل دول الشرق الأوسط مع أزمات الأمن الغذائي؟"، وقد استضاف خلالها د. كريستيان هندرسون المحاضر في العلاقات الدولية المتخصص بالاقتصاد السياسي لدول الشرق الأوسط بجامعة ليدن في هولندا، وقد ركزت الحلقة بشكل أساسي على ملامح الأمن الغذائي في بعض دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا علاوةً على توضيح وضع دول الخليج العربي، مع تقديم بعض التوصيات من جل تعزيز الأمن الغذائي بشكل عام في المنطقة.

تطورات لافتة

سلَّطت الحلقة النقاشية الضوء على تطوُّر الاهتمام بالأمن الغذائي، خاصةً ما يتعلَّق بمجال الزراعة في دول المنطقة خلال العقود الماضية؛ وذلك على النحو الآتي:

1– القيمة الزراعية الكبرى لدول الشرق الأوسط: ذكر المشاركون أنه يجب إلقاء نظرة على تاريخ منطقة الشرق الأوسط لنتفهَّم بعض أسباب حالة الاعتماد على الواردات الغذائية. وبالنظر إلى الفترة الاستعمارية في الدول العربية سنرى أن القيمة الزراعية لدول المنطقة كانت من الأهداف الأساسية للقوى الأوروبية، وأحيانًا يكون هذا السبب هامشياً في ظل وجود صفات أخرى استراتيجية للمنطقة، مثل احتياطي الهيدروكربون، وقناة السويس، وأهمية المنطقة أمنياً، لكن في حقيقة الأمر كانت الزراعة هدفاً رئيسياً وراء تدخل الدول الاستعمارية في المنطقة.

2– تحوُّل دول المنطقة إلى زراعة المحاصيل التجارية: لفت المشاركون إلى أن بعض دول المنطقة، خلال الحقبة الاستعمارية، شهدت تحولاً من المحاصيل الموجودة بالفعل إلى محاصيل تجارية، ولم يبدأ ذلك بالضرورة بعد الاستعمار الإنجليزي، بل أدى الاستعمار إلى تحول جوهري في المنطقة، خاصةً في الدول التي تتمتع بقطاع زراعي كبير؛ حيث أُجبِر المزارعون على تحويل محاصيلهم إلى محاصيل تجارية، وواجهوا اضطرابات عديدة في السوق، وأصبحوا مديونين؛ لأن إنتاج المحاصيل التجارية يتطلب غالباً مديونيات. وفي الواقع واجهت جميع دول شمال أفريقيا تقريباً المشكلة نفسها. وبالنظر إلى العديد من اقتصاديات دول المنطقة في تلك الفترة، سنجد أن هذا التحول في الزراعة من المحاصيل الموجودة إلى المحاصيل التجارية، هو ما مهَّد الطريق لزيادة اعتماد الدول على الواردات.

3– تراجع القطاع الزراعي فيما بعد الاستعمار: وفق المشاركين، فإن ما حدث خلال فترة الاستقلال أو ما بعد الاستعمار تقريباً، أن جميع الاقتصادات في شمال أفريقيا كانت أقل اهتماماً بالقطاع الزراعي، وخفَّضت استثماراتها فيه مقابل توجيه اهتمامها إلى القطاع الصناعي؛ حيث كانت العديد من حكومات الدول تسعى إلى الابتعاد عن السيطرة الاستعمارية وتحسين سلاسل القيمة من خلال التصنيع. ونتيجةً لعدم الاستثمار الكافي في القطاع الزراعي، لم تتطور الزراعة، وتزامن ذلك مع عملية أخرى في الساحة الدولية، هي قرار الولايات المتحدة، ثم أوروبا لاحقاً، بدعم المزارعين، وأدى ذلك إلى فائض كبير في القطاع الزراعي هناك. ومن ثم، بدأت الولايات المتحدة – ولعدة أسباب اقتصادية وسياسية – ترسل هذا الفائض إلى بعض دول المنطقة.

4– صعوبة منافسة أسعار المحاصيل الدولية: أوضح المشاركون أن النظر في صافي واردات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يُنبِئ بأنه ارتفع بسرعة بدايةً من عام 1960، فزاد الاعتماد على تلك الواردات حتى صار من الصعب على المزارعين منافسة أسعار القمح الأمريكي والأوروبي الزهيد للغاية. وبحسب المشاركين، أدَّى الاعتماد على الواردات الخارجية من المحاصيل، بالإضافة إلى تكلفة التصنيع، إلى أزمة ديون في العديد من الاقتصادات العربية في أواخر الثمانينيات حتى أواخر التسعينيات؛ وذلك في عدة دول، أهمها الجزائر والأردن والمغرب وتونس. وما حدث خلال تلك الفترة هو أن المؤسسات المالية الدولية قدَّمت قروضاً مقابل برامج إصلاح هيكلي لتلك الاقتصادات، وكان من أهم شروط هذه القروض توقف الحكومة عن دعم المزارعين الصغار، وتخصيص كميات كبيرة من الموارد للصادرات الزراعية.

5– التركيز على زراعة المحاصيل المناسبة للتصدير: تعتبر هذه السياسة سمة معروفة لصندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات المالية الدولية خلال العقود الماضية، وكان منطق واضعيها أن على الحكومات الالتزام بما يحقق لها ميزة نسبية (من وجهة نظرهم). ولأن إنتاج القمح لم يكن مناسباً للمعايير التي تضعها تلك المؤسسات؛ توجهت هذه الدول إلى زراعة محاصيل تصدير عالية القيمة، مثل الخضراوات والفاكهة، وتوجيه العملة الصعبة لاستيراد القمح.

وأضاف المشاركون أنه ربما علينا الآن النظر في مدى نجاح هذه السياسة التي يرى أنها نجحت من حيث توفير أرباح للقطاع الزراعي في هذه الدول، لكن من غير الواضح إذا كانت تلك السياسة ناجحة في تحقيق الأمن الغذائي. ويُشار إلى أن الأزمة الحالية في أسعار السلع الغذائية كشفت بعض المشاكل في هذا النوع من السياسات. كذلك فمن المُثير للاهتمام أن البنك الدولي نصح تونس مؤخراً بالبدء في زراعة القمح والحبوب مرةً أخرى؛ وذلك بعد فترة طويلة ظل ينصحها فيها بعكس ذلك.

حالة الشرق الأوسط

ناقشت الحلقة النقاشية حالة الأمن الغذائي في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو ما يمكن توضيحه على النحو الآتي:

1– تأثر الأمن الغذائي باضطراب الوضع الاقتصادي: أشار المشاركون إلى أن إمكانية الوصول إلى الغذاء في المنطقة، هي سبب وعرَض لزيادة الاستقطاب الاقتصادي فيها، وأن بعض الاقتصادات في المنطقة ستُصاب بأكبر الأثر خلال صدمة الأسعار الغذائية الحالية، وهذه الاقتصادات لم تشهد أزمات اقتصادية طاحنة خلال السنوات الماضية.

2– تباين ارتدادات التراجع الاقتصادي على دول المنطقة: لفت المشاركون إلى أنه لا يوجد هناك نقاش كافٍ حول مدى انكماش تلك الاقتصادات، على عكس النقاشات حول الأزمة الاقتصادية في اليونان التي أدت إلى انخفاض إجمالي الناتج المحلي للدولة بنسبة 25%، لكن عندما ننظر إلى انخفاض إجمالي الناتج المحلي في هذه الدول سنجد أنه انخفض إلى النصف؛ مثل سوريا التي كان الانخفاض فيها كبيراً.

وأضاف أن هذه الدول التي ستتأثر بأسعار الغذاء الحالية دول مُعرَّضة للصراع لأسباب عديدة، ولديها علاقات سيئة بالمانحين الدوليين وبالمؤسسات المالية الدولية، وأنها ستواجه أكبر الأثر فيما يخص التضخم الحالي للأسعار؛ فدولتا سوريا واليمن، على سبيل المثال، لا تتمتعان بقدرة كبيرة على الوصول إلى مساعدة من الجهات الخارجية، وهناك دول أخرى في درجة متوسطة من حيث التأثر بالأزمة الحالية، كتونس والأردن والمغرب، وهي الدول التي تأثرت أيضاً لكن ليس بالدرجة نفسها؛ وذلك بسبب علاقتها الجيدة بالجهات الخارجية التي قد تمنحها قروضاً عاجلة لاستيراد الغذاء. كذلك فإن زيادة التضخم في أسعار المواد الغذائية يرتبط بالاضطراب السياسي، ليس على نحو تلقائي، لا نريد تبسيط العلاقة بين هذين العاملَين، لكن إذا نظرنا إلى الثورات العربية من 2011 سنجد أن هذا الأمر كان أحد العوامل. أعتقد أن الكثير من هذه الحكومات تعي هذه المشكلة، وستنفق الكثير من الأموال لتضمن عدم تسبب التضخم في مشكلة، لكن يظل هذا الأمر خطراً وسيناريو على أي حال.

3– اختلاف حالة انعدام الأمن الغذائي في المنطقة: أشار المشاركون إلى أن منطقة الشرق الأوسط أصبحت منقسمة فيما يتعلق بالأمن الغذائي؛ فهناك دول بها مجاعة على غرار اليمن، وأشارت إحدى المنظمات الدولية قبل سنوات إلى أن نصف السكان في اليمن على حافة المجاعة. إذن هناك دول فقيرة وغير آمنة غذائياً، ودول أخرى ترتفع بها حالة انعدام الأمن الغذائي على مدار العقد أو العقدَين الماضيَين.

4– تأثير التعداد السكاني على حالة الأمن الغذائي: لفت المشاركون حول مخزون الحبوب في المنطقة، إلى أن اليمن وقطر لديهما تقريباً نسبتان متساويتان من مخزون الحبوب؛ حيث تستطيع الدولتان تخزين كميات متساوية من الحبوب قدرها 250 ألف طن، وقد صرَّح أحد المسؤولين في قطر بأن هذه الكمية ستكفي حتى 6 أشهر، وأشارت الأمم المتحدة إلى أن هذه الكمية تكفي لمدة 6 أشهر أيضاً في اليمن، لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار التعداد السكاني سنجد أن هناك اختلافاً كبيراً في إمكانية الوصول إلى الغذاء؛ حيث إن تعداد اليمن السكاني عشرة أضعاف التعداد السكاني في قطر، وعلى الرغم من ذلك تتمتع بكمية من الحبوب متساوية مع دولة مثل اليمن.

5– ارتدادات سلبية للحرب الأوكرانية على المنطقة: من المهم أيضاً، وفق المشاركين، النظر إلى تأثير الحرب في أوكرانيا؛ إذ إن أفقر الدول في المنطقة هي التي تعتمد بدرجة أكبر على أوكرانيا وروسيا، وقد ارتفع سعر القمح كثيراً نتيجة الحرب؛ فمثلاً لبنان يعتمد بنسبة كبيرة على أوكرانيا وروسيا في الواردات الغذائية؛ حيث إن أكثر من 75% من وارداته من الحبوب تأتي من أوكرانيا وروسيا. كذلك فإن هناك علاقة بين الأمن الغذائي والاضطراب السياسي؛ ليس في منطقة الشرق الأوسط فقط، بل إن في أوروبا قدراً كبيراً من الغضب حالياً مع ارتفاع أسعار المعيشة بقدر ملحوظ، وعدم كفاية أجور الموظفين لتحمل تلك الزيادة؛ فدائماً تظهر علاقة بين الأمن الغذائي والاضطراب السياسي، وهو ما ينطبق على بعض دول منطقة الشرق الأوسط.

وضع الخليج العربي

ركَّزت الحلقة النقاشية على توضيح حالة الأمن الغذائي في دول الخليج العربي، وهو ما يمكن تناوله على النحو الآتي:

1– قدرة عالية لدول الخليج على الوصول إلى الغذاء: أوضح المشاركون أن هناك دولاً تأثرت نسبياً بالأوضاع الاقتصادية السلبية، وأهمها دول التعاون الخليجي، وأيضاً بعض الدول الغنية بالنفط في هذه الفئة، ولكن ليس بالدرجة نفسها. وبالنظر إلى إحصائيات استيراد الغذاء في دول التعاون الخليجي، يمكن ملاحظة أنه على الرغم من أنها تعتمد على الغذاء المستورد بنسبة كبيرة، فإنها تتمتع بإمكانية وصول قوية جداً إلى الغذاء نتيجةً للاستيراد؛ إذ تستورد المنطقة بكاملها بقيمة 100 مليار دولار. ونصف هذا المبلغ يأتي من دول التعاون الخليجي.

ويعد هذا الأمر لافتاً للنظر، لا سيما إذا نظرنا إلى عدد السكان في تلك الدول؛ حيث إن التعداد السكاني للمنطقة بأكملها يقرب من 500 مليون نسمة، بينما يبلغ عدد سكان دول التعاون الخليجي 60 مليون نسمة. إذا نظرنا إلى مستوى الاستيراد للفرد سنجد أن دول التعاون الخليجي لديها إمكانية وصول عالية جداً في الغذاء. وإذا نظرنا إلى الواردات من اللحوم والثروة الحيوانية، سنجد أنها في الفئة نفسها؛ إذ تحصل دول التعاون الخليجي على نصف الواردات من تلك المنتجات من مجموع ما يصل إلى جميع الدول العربية وإيران وإسرائيل. كذلك تركز دول الخليج العربي على تنويع مصادر حصولها على الغذاء من الخارج؛ فمثلاً تستورد الإمارات 50% من الحبوب من روسيا، لكن لديها علاقات جيدة بمصدرين آخرين مثل أستراليا وكندا، ويعكس ذلك القدرة الاقتصادية والقدرة اللوجستية.

2– تمتع دول الخليج العربي بقوة اقتصادية كبيرة: لفت المشاركون إلى أن بعض اقتصادات الدول الغنية بالنفط، قد نمت بسرعة خلال العقد أو العقدين الماضيين، ونتيجة لذلك صار لديها عملة صعبة تتيح لها استيراد كمية كبيرة من الغذاء. وإذا قارننا دول التعاون الخليجي من حيث كونها كتلة اقتصادية بالاقتصادات الناشئة الأخرى مثل البريكس، فسنجد أن دول التعاون الخليجي تأتي في المركز الثاني بعد الصين.

3– ريادة التجربة الإماراتية في مجال الأمن الغذائي: أوضح المشاركون أن دول الخليج العربي اقتصادات كبيرة ومُصدِّرة للنفط، لكن إذا نظرنا إلى بعض هذه الاقتصادات فسنجد أنها طورت استراتيجيات ناجحة فيما يخص أمنها الغذائي، وأن أنجح الدول في ذلك كانت دولة الإمارات. وأشار المشاركون إلى أن ما فعلته الإمارات هو أنه على الرغم من عدم امتلاكها قاعدة زراعية خاصة بها، استطاعت أن تموضع نفسها في خارطة المواد الغذائية في المنطقة؛ إذ تستورد الإمارات سلعاً خاماً مثل القمح والسكر وغيرهما، وتصنعها في الإمارات ثم تصدرها إلى دول أخرى في المنطقة. ونتيجة لهذه الاستراتيجية لتعزيز سلاسل القيمة، تُصدِّر الإمارات قيمة كبيرة للغذاء. ونتيجةً لهذه الاستراتيجية، استطاعت الإمارات ضمان أمنها الغذائي وفي الوقت نفسه مراعاة التنوع الاقتصادي؛ حيث تشمل المواد الخام المعاد استيرادها من الإمارات السكر، والدقيق، والغذاء المُصنَّع، ومنتجات الألبان.

ولفت المشاركون إلى أن السودان يستورد 25% من سكره الخام من الإمارات، فيعد هذا مثالاً على تموضع الإمارات في خارطة التجارة الغذائية للمنطقة، كما تستورد دول الصومال وإريتريا وجيبوتي وإثيوبيا 23% من الدقيق من الإمارات، بينما يستورد اليمن 15% من الدقيق من الإمارات. وأشار إلى أن الإمارات نجحت في تطوير أعمال زراعية خاصة بها في اقتصادها المحلي، وتأتي بعدها السعودية. لكن بالنظر إلى بعض الإحصائيات سنجد أن الإمارات تستورد غذاءً يقرب من 12 مليار سنوياً، بينما تستورد السعودية ما يقرب من مليار، ومعظمها من منتجات الألبان. وبالنظر إلى استراتيجية الأمن الغذائي في دول التعاون الخليجي، فإن الإمارات والسعودية أنجح دولتين في القيام بذلك.

4– استثمارات خليجية ضخمة في قطاع اللوجستيات: كشف المشاركون أن من أسباب نجاح بعض دول الخليج العربي، أنها اعتمدت بدرجة كبيرة على اللوجستيات. وفي هذا السياق، كانت الإمارات ناجحة جداً نتيجةً لحجم قطاع اللوجستيات لديها لكن بوجه عام، هناك استثمارات ضخمة في قطاع اللوجستيات في دول التعاون الخليجي. بين 2008 و2019 ارتفعت قدرة الموانئ في دول الخليج من 2.24 مليون وحدة تساوي عشرين قدماً إلى 35 مليون وحدة. وينطبق ذلك أيضاً على الشحن الجوي باعتباره عاملاً رئيسياً لتسهيل استيراد وتصدير المواد؛ حيث ارتفع مستوى الشحن الجوي كثيراً.

وبحسب المشاركين، تتميز الإمارات بسعة لوجستية ضخمة، وهي السعة الكبرى في المنطقة، والكبرى على مستوى منطقة جنوب شرق آسيا. وهناك أيضاً استثمارات ضخمة في هذا القطاع في الإمارات وفي دول التعاون الخليجي؛ ففي الأسبوع الماضي، أعلنت مجموعة اسمها دي إيه إل DAL أنها ستستثمر 6 مليارات دولار في السودان، وتتضمَّن هذه الحزمة الاستثمار في ميناء جديد وطريق مروري برسوم وأراضٍ زراعية ووديعة في بنك السودان المركزي. ويوضح ذلك مدى الترابط بين اللوجستيات والأمن الغذائي؛ لأن هذا النوع من الاستثمار يهتم بإمكانية الوصول إلى الأراضي الزراعية والمياه لزراعة المحاصيل ثم تصديرها إلى الإمارات من خلال البنية التحتية التي سيتم تنفيذها في إطار هذا الاستثمار.

5– تقليل تكلفة الغذاء للمستهلكين في دول الخليج: أوضح المشاركون أنه نتيجة لنجاح دول الخليج في إتاحة الوصول إلى الغذاء، استطاعت هذه الدول تقليل تكلفة الغذاء لمستهلكيها لتصل إلى مستوى متقارب من بعض دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في الغرب. وعلى نطاق أوسع يُعَد تسهيل الوصول إلى الغذاء عاملاً أساسياً في تنوع الاقتصاد، خاصةً في الإمارات وقطر وعمان؛ فهي تطور قطاعات أخرى مثل السياحة والخدمات.

وبحسب المشاركين فإن الدول الأفقر في المنطقة، على سبيل المثال، ينفق المستهلكون فيها 38% من دخلهم على الغذاء، وفي المغرب نسبة أقل بقليل، وفي الأردن تصل النسبة إلى 30% من دخل الفرد. هذه الإحصائيات تعود إلى عام 2016، وبالتأكيد ارتفعت هذا العام في ظل التضخم حول العالم. في المقابل، نجد أن السعودية والكويت تنفق أقل بكثير؛ فمثلاً في السعودية تصل النسبة إلى ما يقرب من 20%، وفي قطر 12%. أما في الولايات المتحدة فتصل النسبة إلى 6%، وكذلك في ألمانيا التي تعد من أقل الدول على مستوى أوروبا.

توصيات مقترحة

لفت المشاركون إلى بعض التوصيات المتعلقة بتعزيز الأمن الغذائي بين دول منطقة الشرق الأوسط؛ وذلك على النحو الآتي:

1– أولوية معالجة مسألة "السيادة الغذائية" في المنطقة: أوضح المشاركون ضرورة معالجة السيادة الغذائية في المنطقة، لا في دول الخليج فحسب؛ لأن هناك أيضاً محاولات لأن تصبح مكتفية ذاتياً من خلال الزراعة الحديثة، لكن إذا نظرنا إلى الاقتصادات العربية الزراعية التقليدية في شمال أفريقيا ولبنان وسوريا، فإنه يجب النظر إلى السيادة الغذائية لا إلى الأمن الغذائي فقط. وأعتقد أن أغلب السياسات التي فُرِضَت في المنطقة خلال العقود الماضية أثَّرت بدرجة كبيرة على السيادة الغذائية.

2– تقديم الدول الدعم الكافي لصغار المزارعين: بحسب المشاركين، فإن هناك حاجة إلى دعم أكبر لصغار المزارعين، وإن هناك اعتقاداً خاطئاً بأن كبار المزارعين فقط هم من يستطيعون إنتاج الغذاء على نطاق واسع، لكن لا ضرورة لذلك، وغالباً ما يتم التقليل من قيمة الإنتاجية والمعرفة لدى صغار المزارعين. ويكتسب هذا الأمر أهمية إضافية في وجود عوامل مثل التغير المناخي؛ لأن صغار مزارعين أكثر مرونةً من الشركات الزراعية الكبيرة تُجاه التغيرات المناخية الحادة.

3– ضرورة التوزيع العادل للغذاء في دول المنطقة: لفت المشاركون إلى أن التركيز ينصب على إمكانية الوصول إلى الغذاء لا على كمية الغذاء، وأن هناك اقتراحات بإنتاج كميات أكبر من الغذاء لكن في حقيقة الأمر هناك كميات كبيرة من الغذاء لكن لا تُوزَّع توزيعاً متكافئاً؛ إذ إن عدم المساواة الواضح فيما يتعلق بالوصول إلى الغذاء، من شأنه إلى يؤدي إلى اضطراب سياسي واستقطاب اقتصادي في المنطقة وهو ما يحدث بالفعل في الوقت الحالي، وقد يسبب مشكلات عديدة؛ لذا فإن من المهم أيضاً دعم الدول الأفقر في المنطقة بقروض سهلة السداد لتخفيف الديون، ومساعدتها على تخطي صدمة ارتفاع الأسعار التي ستكون لها آثار وخيمة.

4– عمل مشروعات زراعية في بعض دول المنطقة: وفق المشاركين، فإن المجتمعات الزراعية في المنطقة لا تزال لديها الكثير من الإمكانيات، مثل دول شمال أفريقيا. هذه الدول لديها اقتصادات زراعية جوهرية، ويجب ملاحظة أن هناك بعض الفرص للتعاون، لكن هذا الطابع من المشروعات في الغالب يكون "استخراجياً" extractive؛ لا يضمن المنفعة المتبادلة في أغلب الأحيان.

5– لجوء بعض دول المنطقة إلى الزراعة التكثيفية: بحسب المشاركين، يمكن الحديث عن الطرق الزراعية؛ حيث يحتاج القطاع الزراعي إلى العديد من المساهمات، وإلى كميات كبيرة من المبيدات وكميات كبيرة من الأسمدة. إذا نظرنا إلى الإحصائيات حول حجم المخلفات والأسمدة التي لا يتم استخدامها، فسنجد أنها كبيرة جداً، ولا يضمن ذلك استدامة، فهولندا، على سبيل المثال، واحدة من أكبر مصدري الغذاء حول العالم، ويرجع ذلك إلى الزراعة التكثيفية. ومن ثم فإن عدم الاستدامة الذي تسببه طرق الزراعة التقليدية، يجب التخلص منه؛ لأنه لا يتماشى مع أي معايير تخص الاستدامة البيئية ولا الزراعة الكثيفة. ففي الخليج العربي، لا يوجد قطاع زراعي جوهري يمكن من خلاله تعزيز طرق الزراعة المستدامة بيئياً، لكنَّ هناك وعياً متزايداً بالبيئة خلال السنوات الماضية في بعض هذه الدول. وربما تحاول تلك الدول الترويج والاستثمار في هذه الطرق في دول أخرى. والأمر الجيد في هذه الطرق هو أنه يمكنك إنتاج كمية كبيرة من الغذاء مع الحفاظ على الموارد البيئية.

6– توسُّع دول الخليج في مجال الزراعة العمودية: لفت المشاركون إلى أن الإمارات في طليعة الدول المعتمدة على الزراعة العمودية المبتكرة. وهذا يتطلَّب تكنولوجيا، ورياً بالتنقيط، واستخدام مياه أقل، وغير ذلك من الوسائل. وتلك الطرق ستكون مفيدة، لكن مشكلة هذه المشروعات أنها مكلفة ولا تعتبر عمليةً من حيث الأرباح.

ختاماً، أوضح المشاركون أن الأسواق العالمية تلعب دوراً في تضخم أسعار المواد الغذائية، وأن من أسباب ارتفاع الأسعار الأخير، تدفق الكثير من الأموال لهذا القطاع بهدف تحقيق ربح قصير المدى (hot money). وكل هذه الأسباب تزيد من مشكلات النظام الغذائي.. لا تخلقها، بل تزيد منها؛ لذا فعلى صناع القرار أن يحاولوا تحقيق المزيد من التوازن والتركيز على التعاون المستدام.

كيف تتعامل دول الشرق الأوسط مع أزمات الأمن الغذائي؟(حلقة نقاشية)