أحمد عدلي


        
<p><a>تكشف العمليات العسكرية التي تقوم بها روسيا في أوكرانيا في الوقت الحالي، التي بدأتها يوم 24 فبراير الماضي، وطريقة التعامل والتحدي الروسي للغرب في خضم هذه العمليات، والتي وصلت إلى حد التلويح الروسي باستخدام السلاح النووي بعد أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بوضع قوات "الردع الاستراتيجي" النووية في حالة تأهب قتالي خاصة؛ عن عمق التحولات النوعية التي شهدتها العقيدة العسكرية الروسية في الفترة الأخيرة.</a></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">خمس وثائق</span></strong></p>



<p>تعتبر العقيدة العسكرية لروسيا الاتحادية Military Doctrine of the Russian Federation، أو ما تُعرف باسم "وثيقة الأمن القومي"؛ واحدة من وثائق التخطيط الاستراتيجي الرئيسية في روسيا، وتمثل الآراء التي تتبنَّاها الدولة رسميّاً للاستعداد للحماية المسلحة عن روسيا. وتحدد هذه الوثيقة المصالح القومية والأولويات الاستراتيجية للدولة والأهداف والإجراءات في مجال السياسات الداخلية والخارجية التي ترمي إلى تعزيز الأمن القومي وضمان التنمية المستدامة الطويلة الأمد للبلاد.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>ولا تعتبر هذه العقيدة جامدة؛ حيث يتم تطويرها وتحديثها مع الوقت بحيث تلائم الزمن والتحديات التي تواجهها روسيا؛ حيث أصدرت روسيا الاتحادية منذ تفكك الاتحاد السوفييتي رسميّاً في عام 1991؛ خمس وثائق للأمن القومي، وقد عكست كل وثيقة منها تحولات كبيرة في نوع الاستجابة الروسية للتهديدات التي تواجه الدولة، وكانت البداية من خلال وثيقة الأمن القومي في نوفمبر عام 1993، ثم وثيقة يناير عام 2000، ووثيقة فبراير عام 2010، ووثيقة ديسمبر عام 2014، ووثيقة يوليو 2021.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">إطار حاكم</span></strong></p>



<p><strong>وقد أعادت الحرب التي بدأتها روسيا في أوكرانيا تسليط الضوء على نحو لافت على وثيقة الأمن القومي التي وقَّع عليها الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" في يوليو 2021، باعتبارها تشكل مدخلاً رئيسيّاً لإقدام موسكو على الدخول في هذه الحرب. ويمكن استعراض الملامح الرئيسية لهذه الوثيقة من خلال ما يلي:</strong></p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– وجود مؤامرة داخلية وخارجية على الدولة الروسية: </strong>عكست وثيقة الأمن القومي الروسية، في نسختها الأخيرة، وجود إيمان روسي بوجود مؤامرة داخلية وخارجية على الدولة الروسية؛ حيث أكدت الوثيقة محاولة قوى تخريبية داخل روسيا وخارج حدودها استغلال الصعوبات الموضوعية في البلاد بهدف زعزعة استقرارها. كما أشارت الوثيقة إلى أن جيوش عدد من الدول تتدرب على إعطاب مواقع البنى التحتية ذات الأهمية القصوى في روسيا. وبالتطبيق على حالة أوكرانيا، ترى موسكو أن التصرفات الأخيرة من قبل دول الغرب والناتو لاجتذاب أوكرانيا إلى المحور الغربي؛ تعتبر أهم حلقة من حلقات المؤامرة الغربية على روسيا. <strong></strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– أهمية القوة العسكرية للتصدي للمؤامرة الخارجية:</strong> عكست وثيقة الأمن القومي الروسية، في نسختها الأخيرة، وجود إيمان روسي بأهمية القوة العسكرية للتصدي للمؤامرة الخارجية ضد روسيا؛ حيث تحدثت الوثيقة عن أن عددًا من الدول تُصنِّف روسيا بأنها "تهديد" بل "خصم عسكري". ورأت الوثيقة أن من الضروري القيام بتحديث الجيش لتحقيق الردع. ونصَّت الوثيقة على أن من حق روسيا اتخاذ إجراءات مناسبة وغير مناسبة لمنع وإحباط أي أعمال عدائية تشكل خطراً على سيادتها ووحدة أراضيها. وبالقياس على الحالة الأوكرانية، فإن الجانب الروسي ارتأى أن الحل العسكري هو الطريق الأنسب لتحييد المخاطر التي تتعرَّض لها روسيا من هذه الجبهة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– تزايد حجم المخاطر النووية التي تواجهها روسيا: </strong>أكدت الوثيقة تصاعد حجم المخاطر النووية التي تواجه روسيا، وشددت صراحةً على أن دول حلف الناتو تتدرب على سيناريوهات استخدام السلاح النووي ضد روسيا، بشكل يزيد مستوى المخاطر العسكرية التي تواجهها البلاد. وبالتطبيق على حالة الغزو الروسي لأوكرانيا، فإن من الواضح أن روسيا وحليفتها بيلاروسيا، تلوحان بالخيار النووي؛ فبجانب أمر بوتين قوات الردع النووية بالتأهب؛ سمحت تعديلات دستورية في بيلاروسيا أُجريت يوم 28 فبراير الماضي للأسلحة النووية الروسية بالتمركز في داخل بيلاروسيا بشكل دائم في المستقبل.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4– خطط لتدمير روابط روسيا مع الحلفاء التقليديين:</strong> أوضحت الوثيقة أن بعض الدول تبذل جهوداً بهدف تأجيج عمليات تفكيكية داخل رابطة الدول المستقلة، التي تتكون من 12 جمهورية سوفييتية سابقة، ومنها أوكرانيا. ورأت الوثيقة أن الهدف من وراء ذلك هو تدمير روابط روسيا مع حلفائها التقليديين. وبالتطبيق على الحالة الأوكرانية، فإن ثمة يقيناً روسيّاً بأن العمليات العسكرية الجارية في أوكرانيا تستهدف منع تدمير روابط موسكو بأوكرانيا باعتبارها حليفاً تقليديّاً لروسيا، على اعتبار أن السنوات الأخيرة شهدت اقتراب أوكرانيا بقوة من المعسكر الغربي، بدليل سعيها إلى الانضمام لحلف الناتو، وهو خط أحمر بالنسبة إلى الجانب الروسي لا يمكن القبول به.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>5– اتساع دائرة وحجم التهديدات غير العسكرية للدولة: </strong>شددت الوثيقة على أن دائرة التهديدات التي تتعرض لها روسيا اتسعت لتشمل أبعاداً غير عسكرية، مثل تهديدات الأمن السيبراني، واستخدام عدد من الدول الأجنبية التكنولوجيا للتدخل في شؤون البلاد الداخلية، وتزايد الاعتماد على الدولار في الداخل الروسي. ولفتت الوثيقة إلى أن هذه التهديدات غير التقليدية، لا تنفصل عن التهديدات العسكرية التقليدية، على اعتبار أن العدو واحد. وفي ضوء تفاعلات الأزمة الأوكرانية، فإن ما يجري من استخدام أدوات غير عسكرية على نطاق واسع لمعاقبة روسيا على تدخلها العسكري في أوكرانيا، يُرسخ القناعة الروسية بأن روسيا تتعرض لتهديدات أمنية تقليدية وغير تقليدية متزامنة.<strong></strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">مداخل تفسيرية</span></strong></p>



<p><strong>ويمكن تفسير التحولات التي طرأت على العقيدة العسكرية الروسية في وثيقة يوليو 2021، والتي يمكن من خلالها استشفاف دوافع الجانب الروسي للقيام بعملياته العسكرية الحالية في أوكرانيا، من خلال عدد من الاعتبارات والحسابات الروسية، ويتضح أهمها من خلال ما يأتي:</strong></p>



<div style="height:15px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– وجود تغيرات مستمرة في شكل وحجم التهديدات: </strong>يبدو من خلال فحص كل إصدار من الإصدارات الخمسة لوثيقة الأمن القومي الروسية؛ أن كل واحدة منها تعكس مستوى معيناً من التهديدات التي تواجهها روسيا. ومن الملاحظ أن كل نسخة أحدث من سابقاتها تُعبِّر عن اتساع دائرة هذه التهديدات؛ فبالنظر إلى وثيقة عام 1993، سيُلاحظ أنها كانت تركز على القلق الروسي من ملء الغرب الفراغ الذي أحدثه انهيار الاتحاد السوفييتي.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>ثم عبرت وثيقة عام 2000 عن نهج دفاعي روسي في مواجهة حلف الناتو. وشددت وثيقة عام 2010 على ضرورة تعزيز القوة العسكرية الروسية لمواجهة محاولات الناتو للاقتراب من حدود البلاد، وهو الأمر ذاته الذي أكدته وثيقة عام 2014، مع التشديد على ضرورة وجود مرونة للتصدي لأي تهديدات جديدة. وقد تضمنت وثيقة 2021 لهجة حادة عكست مستوى غير مسبوق من التهديدات التي تواجهها روسيا.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– الرغبة في تحسين المكانة في هيكل النظام الدولي: </strong>عبرت وثيقة الأمن القومي الروسي في نسختها الحالية عن وجود رغبة حثيثة من جانب موسكو لتحسين مكانتها في هيكل النظام الدولي، والعودة إلى عالم متعدد الأقطاب لا إلى عالم يسيطر عليه قطب واحد هو الولايات المتحدة. وفي هذا الإطار، يبدو أن الجانب الروسي ارتأى أن الفرصة سانحة، في ظل وجود حالة من التراجع في الدور القيادي العالمي للولايات المتحدة، على غرار تقليص واشنطن ارتباطها بالشرق الأوسط، واتخاذ الإدارة الأمريكية الحالية، على وجه التحديد، جملة من القرارات التي تمت قراءتها بوجه عام على أنها سلبية على غرار الانسحاب الأمريكي من أفغانستان الذي تمكنت طالبان على إثره من السيطرة على البلاد.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><a><strong>3– قناعة موسكو بوجود محور دولي داعم لخططها: </strong></a>ثمة قناعة لدى الجانب الروسي بأن موسكو نجحت –ولو جزئيّاً– في خلق محور دولي داعم لها ولطموحاتها في مواجهة المحور الغربي. وقد تطرَّقت وثيقة الأمن القومي الروسية إلى هذا الأمر؛ حيث تحدثت –على سبيل المثال– عن إدراج تطوير التعاون مع الصين والهند إلى قائمة أولويات الدولة الروسية في مجال السياسة الخارجية. وعلى اعتبار أن الأزمة الأوكرانية عززت التعاون بين موسكو وبكين وطهران، فإن الكثيرين يرون أن هذا الأمر يمثل بادرة لتحالف روسي صيني إيراني ضمن محور دولي مضاد للمحور الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وقد عكست مواقف بعض الدول من العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، وجود نوع من الدعم لتحركات موسكو. وعلى سبيل المثال، في حين أدانت جميع دول الغرب هجوم روسيا على أوكرانيا، ألقت إيران والصين باللوم على ما يحدث بين موسكو وكييف على ما وصفتاه بـ"استفزاز" حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة. كما امتنعت الصين والهند عن التصويت على قرار يندد بالهجوم الروسي خلال جلسة مجلس الأمن الدولي التي أعقبت بدء روسيا عملياتها العسكرية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4– التوسع العسكري المتدرج لحلف الناتو قرب روسيا: </strong>على الرغم من أن حلف الناتو يشكل تهديداً ممتدّاً عبر الزمن لروسيا ولوجودها كما يرى صانعو القرار الروس، فإن المواقف الروسية تُوحي بأن هذا التهديد يتصاعد مع الوقت، خاصةً مع تعمد حلف الناتو الاقتراب والزحف نحو الحدود الروسية بتعزيز حضوره العسكري في الدول التي لا تزال موسكو تراها دائرة نفوذ تقليدي لروسيا، وهو أمر يبرز في الحالة الأوكرانية بجلاء؛ حيث يمكن اعتبار أن انزعاج روسيا من اقتراب الناتو من حدودها كان هو الدافع الرئيسي وراء إطلاق موسكو عملياتها العسكرية في أوكرانيا.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>5– <a>الاستفادة الروسية من التجارب العسكرية السابقة</a>: </strong>استفادت روسيا من تجربة فشل التدخل العسكري للاتحاد السوفييتي في أفغانستان من ديسمبر 1979 حتى فبراير 1989؛ حيث عجز الاتحاد السوفييتي عن تحقيق إنجاز عسكري مقبول بالنظر إلى طول فترة التدخل العسكري، وعدم التمكُّن من الحصول على دعم الشعب الأفغاني أو حتى إيجاد دعم دولي لهذا التدخل. وقد انعكس هذا الفشل على وثيقتي الأمن القومي الروسية الأولى والثانية في عامي 1993 و2000 على الترتيب بعد تفكك الاتحاد السوفييتي؛ حيث كان من اللافت بروز الطابع الدفاعي على العقيدة العسكرية الروسية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>ويعني هذا الأمر أن تجربة الفشل السوفييتي في أفغانستان كانت بمنزلة هاجس للجانب الروسي لسنوات عديدة، بشكل جعل روسيا متحفظة في الدخول في أي عمليات عسكرية خارج أراضيها، إلى أن بدأت موسكو تتحول نحو النهج الهجومي مؤخراً، وقد ظهر ذلك في التدخل العسكري الروسي في جورجيا عام 2008، وفي أوكرانيا لضم شبه جزيرة القرم عام 2014، وفي سوريا عام 2015. ومن الملاحظ أن النتائج العسكرية المقبولة للجانب الروسي في المناطق الثلاثة، شجَّعت موسكو على تحويل عقيدتها العسكرية لتكون أكثر هجوميةً. ويدلل على ذلك، هجوم روسيا الواسع في الوقت الحالي على أوكرانيا.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">تفكيك العقدة</span></strong></p>



<p>وختاماً، من الواضح أن العقيدة العسكرية الروسية تغيَّرت تغيُّراً جذريّاً قبيل الحرب الأوكرانية؛ حيث باتت تركز هذه العقيدة على ضرورة القيام بعمليات هجومية استباقية في الخارج للحفاظ على مصالح الدولة وخطوطها الأمنية الحمراء، أو ما يطلق عليه البعض "سياسة حافة الهاوية"؛ وذلك بعدما كانت هذه العقيدة تميل إلى التحفظ وتفضيل المواقف الدفاعية، التي ساهم في تشكيلها وترسيخها إلى حد كبير، على مدى قرابة العقدين من الزمان، مأزقُ التدخل السوفييتي في أفغانستان.</p>

      

كيف تغيرت العقيدة العسكرية الروسية قبيل الحرب الأوكرانية؟