كرم سعيد

شهدت الأزمة الراهنة بين تركيا والإدارة الذاتية الكردية شمال شرق سوريا، جهوداً عديدة للوساطة، وعلى رأسها وساطة "مسعود بارزاني" زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، والذي التقى في 16 يناير 2025 بالقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية "قسد" "مظلوم عبدي" في أربيل، في محاولة لتقريب وجهات النظر بين "قسد" وتركيا، والتوصل إلى حل دائم للمواجهات الحالية في شمال شرق سوريا بين الفصائل الموالية لتركيا وقوات "قسد".ويشير لقاء "بارزاني" و"عبدي" إلى تحول لافت في توجهات أكراد سوريا، حيث جاء كاشفاً عن قناعة "قسد" بأهمية دور "بارزاني"، والتعويل على وساطته لتخفيف التوتر مع أنقرة. كما يشير إلى رغبة "قسد" في موازنة علاقاتها مع أربيل، وعدم قصر تحالفاتها على حزب الاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية، خصوصاً وأن التغيرات التي شهدتها سوريا بعد سقوط "الأسد" زادت من الضغوط على الإدارة الذاتية الكردية، حيث ساهمت في صعود نفوذ أنقرة، باعتبارها أهم الداعمين للإدارة السورية الجديدة بقيادة "أحمد الشرع".تحركات متسارعةعلى الرغم من التوترات الكامنة تحت السطح بين "قسد" و"بارزاني"، إلا أن التطورات التي شهدتها سوريا دفعت الطرفين لتعزيز مساحات التقارب بينهما، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي:1- وساطة أربيل للتهدئة بين "قسد" وأنقرة: على الرغم من الخلافات القائمة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني و"قسد"، نتيجة انحياز الأخيرة لحزب الاتحاد الوطني، الغريم المحلي لـ"بارزاني"، إلا أن التطورات المتسارعة في المشهد السوري دفعت الطرفين إلى التقارب. وقد تجلى هذا التقارب في زيارة قائد "قسد"، "مظلوم عبدي"، لأربيل في 16 يناير 2025، ولقائه "مسعود بارزاني" بهدف الوساطة بين "قسد" وتركيا لخفض التصعيد في شمال شرق سوريا. وتمثل العلاقات المتينة التي تجمع أربيل بأنقرة فرصة لتوظيف هذا التقارب في تحييد التهديدات التركية للإدارة الذاتية الكردية، وإقناع أنقرة بالتراجع عن عسكرة الأزمة.ومن ناحية أخرى، فإن هذا التحرك من "قسد" يعكس تغيراً في نهجها، مع تزايد ثقتها في قدرة حزب "بارزاني" على توفير غطاء سياسي وتجنيبها مخاطر التصعيد المسلح مع النظام السوري الجديد وحليفته تركيا، خاصةً في ظل ضعف دور حزب الاتحاد الوطني وموقفه، على خلفية علاقاته الوثيقة مع محور إيران.في هذا السياق، اتجه حزب "بارزاني" لتعزيز التفاهمات مع كل من تركيا والإدارة الذاتية الكردية، سعياً لحل الخلافات وتسهيل دمج الإدارة الذاتية في المشهد السياسي السوري الجديد. وظهر هذا التوجه بوضوح من خلال زيارة رئيس حكومة إقليم كردستان "مسرور بارزاني"، إلى تركيا في 7 يناير 2025 لمناقشة سبل التهدئة بين أنقرة و"قسد"، بالإضافة إلى التقارير التي أشارت إلى زيارة محتملة لرئيس إقليم كردستان "نيجيرفان بارزاني" إلى دمشق للتوسط بين الأكراد والنظام السوري الجديد، بهدف فتح قنوات حوار وإجراء مفاوضات مباشرة في أقرب وقت.2- تطلع "بارزاني" لتوحيد الصف الكردي بسوريا: مع تصاعد الأحداث في سوريا عقب سقوط نظام "الأسد" في 8 ديسمبر 2025، بادر "مسعود بارزاني" إلى إطلاق حراك سياسي واسع النطاق يستهدف توحيد الصف الكردي في سوريا. وجاءت هذه المبادرة استجابة للتحديات الإقليمية المتزايدة التي تواجه الأكراد، ولاقت استجابة إيجابية غير مسبوقة من قطاعات كردية متعددة، ما يعكس إدراكاً متزايداً لأهمية التعاون الداخلي.ويدلل على ذلك أن جهود "بارزاني" تزامنت مع إعلان زعيم حزب العمال الكردستاني، في 29 ديسمبر 2024، عن استعداده لبدء حوار سياسي غير مشروط مع الحكومة التركية، مشيراً إلى أن القضية الكردية أصبحت "غير قابلة للتأجيل"، وهو ما منح المبادرة زخماً إضافياً، إذ بات يُنظر إلى حراك "بارزاني" ليس فقط كجهد داخلي، بل أيضاً كخطوة استراتيجية لتقليل التوترات الإقليمية وبناء توافق سياسي شامل بين الأطراف الكردية.وفي هذا السياق، فإن مبادرة "بارزاني" تركز على نزع فتيل التوترات المتصاعدة بين الأكراد وتركيا من جهة، وبين الفصائل الكردية المختلفة داخل سوريا من جهة أخرى، بهدف صياغة تفاهمات مشتركة حول آلية إدارة مناطق شمال شرق سوريا. وتُعد هذه المناطق ذات أهمية خاصة، كونها خاضعة لسيطرة "الإدارة الذاتية" منذ أكثر من عقد، لكنها تواجه ضغوطاً مستمرة بفعل التدخلات الإقليمية والتوترات الداخلية. وبهذا الحراك، يسعى "بارزاني" إلى خلق بيئة سياسية موحدة قادرة على مواجهة التحديات الإقليمية والدولية، مما يعزز موقف الأكراد في أي مفاوضات مستقبلية بشأن الوضع السوري.3- تعدد الزيارات المتبادلة بين أربيل و"روج آفا": شهدت الآونة الأخيرة حراكاً متبادلاً بين أربيل ومنطقة سيطرة الأكراد بسوريا "روج آفا"، فبعد زيارة وفد من المجلس الوطني الكردي السوري في 8 يناير 2025 لإقليم كردستان العراق، ولقاء قيادات أربيل للتأكيد على أهمية مشاركة الشعب الكردي في رسم مستقبل سوريا، والاتفاق على رؤية كردية مشتركة حول حقوق الشعب الكردي، والتفاعل مع مختلف القوى الوطنية السورية والإدارة الحالية؛ قام "حميد دربندي"، ممثل الزعيم الكردي "مسعود بارزاني"، في 13 يناير 2025، بزيارة مدينة "القامشلي" شمال شرق سوريا لأول مرة منذ العام 2011، حيث التقى "مظلوم عبدي"، إضافةً إلى رئاسة المجلس الوطني الكردي.مسارات محتملة ثمة خلافات وتباينات عميقة بين أربيل و"روج آفا"، بيد أن التطورات الإقليمية الحالية دفعت الأخيرة نحو التقارب مع "مسعود بارزاني" الذي يمثل مرجعية كردية تحظى بقبول واسع لدى القوى الدولية والإقليمية. وفي ضوء ذلك، فإن ثمة مسارات محتملة لمستقبل هذا التقارب خلال المرحلة المقبلة، يتمثل أبرزها فيما يلي: 1- تعميق التقارب بين أربيل و"قسد": ثمة عدة عوامل تعزز فرص هذا التقارب، أولها، أن "بارزاني" يمتلك علاقات قوية مع الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" وقيادات حكومة العدالة والتنمية، وهو ما يمكن أن يُوظف لتخفيف التهديدات التركية من خلال تحقيق التهدئة مع أنقرة. وثانيها، إدراك "قسد" أن تعزيز العلاقات مع القوى الكردية الفاعلة، وخاصةً "بارزاني"، قد يمثل خطوة استراتيجية لمواجهة تغيرات محتملة، خصوصاً بعد إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب "دونالد ترامب"، الذي يتولى منصبه في 20 يناير 2025، نيته إعادة طرح خيار انسحاب الجيش الأمريكي من شمال سوريا، مما يثير قلق الإدارة الذاتية الكردية.وثالثها، سعي "بارزاني" إلى تعزيز مكانته كمرجعية كردية إقليمية، مما يساهم في تهميش تيار "طالباني" المنافس التقليدي له في إقليم كردستان، وتقليل تأثيره السياسي. ورابعها، رغبة التيار الكردي السوري في تعزيز علاقته بقيادات أربيل، وهو ما يمكن أن يساعد في فك ارتباطه بمقاتلي حزب العمال الكردستاني المحظور، مما قد يخفف من المخاوف التركية، حيث تصنف أنقرة الحزب كمنظمة إرهابية. وخامسها، تراجع ثقة "قسد" في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة "طالباني"، في ظل ضعف موقف الحزب نتيجة تراجع النفوذ الإيراني، الذي تأثر بخسائر كبيرة بعد سقوط "الأسد"، إلى جانب الضربات الإسرائيلية المتكررة لحزب الله، والضغوط المتزايدة على وكلاء إيران في العراق.2- تقارب مرحلي بين أربيل و"قسد": يُشير هذا المسار إلى أن التقارب الحالي بين "مسعود بارزاني" والتيار الكردي السوري قد يكون مؤقتاً ومرتبطاً بمصالح مرحلية للإدارة الذاتية الكردية. إذ ينبع هذا التقارب من رغبة "قسد" في الاستفادة من علاقات "بارزاني" القوية مع تركيا لخفض التصعيد، في وقت تبدو فيه أنقرة مصممة على الحسم العسكري ضد "قسد"، إذ يتضح هذا في تصريحات وزير الخارجية التركي في 11 يناير 2024، حيث دعا الإدارة السورية الجديدة إلى التعاون مع بلاده في قتال "قسد"، مهدداً بتدخل تركيا المباشر لتحييد الأكراد.علاوةً على ذلك، يأتي هذا التقارب في ظل محاولات "قسد" تقديم تنازلات لإدارة الأزمة مع تركيا، وهو ما ظهر في نهاية ديسمبر 2024 عندما أعلنت عن استعدادها للحوار مع تركيا والانضمام إلى الجيش السوري الجديد. إلا أن هذه التحركات تصطدم بحالة من عدم الثقة لدى بعض الفصائل الكردية السورية تجاه نوايا تركيا، بناءً على تجارب سابقة أثبتت عدم التزام الجانب التركي بالاتفاقيات التي تم التوصل إليها في أطر وساطة مماثلة.وفي ظل هذا الواقع، يُنظر إلى هذا التقارب مع "بارزاني" كخطوة براجماتية مؤقتة وليست استراتيجية بعيدة المدى. وفي ضوء ذلك، يرى بعض المحللين أن على الإدارة الذاتية التعامل بحذر مع أربيل، لضمان عدم الوقوع في سيناريوهات تضر بمصالحها أو تزيد من تعقيد الأزمة مع تركيا.3- عودة الخلافات بين أربيل و"قسد": في حال عدم إحراز تقدم ملموس في محادثات السلام مع تركيا بوساطة "مسعود بارزاني"، قد تعود الخلافات بين "قسد" والتيار الكردي في أربيل بقيادة "بارزاني" إلى الواجهة. ويأتي ذلك بالنظر إلى الأهداف المتعارضة والرؤى السياسية المختلفة للطرفين فيما يتعلق بالعلاقة مع تركيا. فمن ناحية، يعبر قطاع واسع من أكراد سوريا عن استيائهم من عدم تبني حزب "بارزاني" موقفاً رافضاً للعمليات العسكرية التركية ضد مواقع الإدارة الذاتية الكردية في شمال سوريا.ومن ناحية أخرى، تُواصل "قسد" التنسيق مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، المنافس التقليدي لحزب "بارزاني"، وهو ما يثير قلق قيادة أربيل. وتزيد هذه الديناميكيات من احتمال عودة التوترات بين الطرفين، خصوصاً إذا لم تُحقق وساطة "بارزاني" نتائج ملموسة في خفض التصعيد مع تركيا.مع ذلك، لا يبدو هذا السيناريو مرشحاً بقوة في الوقت الحالي، نظراً إلى عدة عوامل تُقلل من احتماليته. أولها، معاناة التيارات الكردية السورية من ضعف ملحوظ نتيجة المواجهات المستمرة مع الفصائل الموالية لتركيا، مما يجعلها أكثر ميلاً للحفاظ على قنوات التعاون مع أربيل لتجنب مزيد من العزلة السياسية. وثانيها، إدراك الإدارة الذاتية الكردية أهمية توسيع شبكة تحالفاتها الإقليمية، بما يشمل بناء علاقات أقوى مع أربيل، لتعزيز موقفها أمام الضغوط التركية وتقليل مخاطر التصعيد.تقارب مشروطختاماً، يمكن القول إن لقاء "بارزاني" و"عبدي"، الذي يُعد الأول من نوعه، يمثل خطوة تاريخية قد تفتح الباب لإنهاء التوترات الطويلة بين أربيل والإدارة الذاتية الكردية منذ تأسيس الأخيرة في شمال شرق سوريا. ومع ذلك، فإن نجاح هذا اللقاء في تحقيق تقارب مستدام يظل مشروطاً بعدة عوامل، أبرزها توافر إرادة سياسية قوية لدى الطرفين لبناء جسور الثقة والتفاهم. كما يعتمد هذا النجاح بشكل كبير على قدرة "بارزاني" على لعب دور مؤثر في كبح التحركات العسكرية التركية شمال شرق سوريا، من خلال توظيف علاقاته القوية مع أنقرة، بما يضمن توفير بيئة آمنة للإدارة الذاتية الكردية ويُعزز استقرار المنطقة.

أبعاد لقاء "مسعود بارزاني" مع قائد "قسد" في أربيل