د. محمد عباس ناجي

اكتسبت الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني "عباس عراقجي" إلى أفغانستان، في 26 يناير 2025، والتقى خلالها رئيس وزراء حركة "طالبان"، "محمد حسن أخوند"، ونظيره "أحمد تقي خان"، أهميتها من كونها الأولى لوزير خارجية إيران منذ عام 2017، بما يعني أنها الأولى أيضاً منذ وصول "طالبان" إلى الحكم في كابول مجدداً في منتصف أغسطس 2021، على نحو يوحي بأن هناك تغيراً في السياسة الإيرانية إزاء "طالبان" فرضته المتغيرات الجديدة التي طرأت على الساحتين الإقليمية والدولية، وأبرزها تراجع الدور الإيراني على مستوى منطقة الشرق الأوسط.ورغم أن إيران لم تعترف رسمياً بحكومة "طالبان"، حتى بعد أن قامت بتسليم السفارة الأفغانية إلى بعض المسؤولين الذين ينتمون لها، إلا أن تلك الزيارة ربما توحي بأن طهران قد تتجه إلى اتخاذ مزيد من الخطوات الإجرائية في هذا السياق، تمهيداً للاعتراف بـالنسخة الثانية من حكم "طالبان".أسباب عديدةيمكن تفسير حرص إيران على الانفتاح على "طالبان" في هذا التوقيت في ضوء أسباب عديدة، يتمثل أبرزها في:1- تداعيات تراجع النفوذ الإقليمي الإيراني: يبدو أن الضربات القوية التي تعرض لها النفوذ الإقليمي الإيراني على مستوى منطقة الشرق الأوسط، بسبب الحرب التي شنتها إسرائيل في قطاع غزة ولبنان، بدايةً من 7 أكتوبر 2023، وما فرضته من تداعيات مباشرة مثل سقوط نظام الرئيس السوري "بشار الأسد" في 8 ديسمبر 2024، قد دفعت إيران إلى إجراء تغيير في سياستها الخارجية باتجاه الاهتمام بما يجري على حدودها الشرقية، ولا سيما مع أفغانستان وباكستان. وبمعنى آخر، كان حضور إيران في المنطقة العربية تحديداً خلال المرحلة الماضية سبباً في انشغالها عن جهود تعزيز العلاقات أو الاهتمام بشكل أكبر بتطوير العلاقات مع دول الجوار، مثل أفغانستان وباكستان.وربما يفسر ذلك، إلى حد ما، أسباب حرص العديد من المسؤولين الإيرانيين على إجراء زيارات لدول الجوار الشرقي. فقد قام الرئيس "مسعود بزشكيان" بزيارة طاجيكستان في 16 يناير 2025، حيث وقعت الدولتان خلال الزيارة على 23 مذكرة تعاون في مختلفة المجالات. كما قام رئيس هيئة الأركان الإيرانية "محمد باقري" بزيارة باكستان، في 19 يناير 2025، قبل أن يقوم "عراقجي" بزيارة أفغانستان.2- احتواء انعكاسات سياسات "رئيسي": لا تنفصل هذه التحركات عن الجهود التي يبذلها الرئيس الإيراني "مسعود بزشكيان" من أجل احتواء التداعيات التي فرضتها السياسات التي سبق أن تبناها الرئيس الإيراني السابق "إبراهيم رئيسي" الذي قُتل في حادث تحطم مروحية كانت تقله في محافظة أذربيجان الشرقية في 19 مايو 2024. فخلال عهد الرئيس السابق، تصاعدت حدة التوتر في العلاقات بين إيران وكل من باكستان وأفغانستان.وكان لافتاً أن هذا التوتر وصل إلى المستوى العسكري في حالة باكستان، وكاد أن يبلغ المستوى نفسه في حالة أفغانستان. إذ قامت إيران بشن ضربات عسكرية ضد مواقع تابعة لجماعات المعارضة الإيرانية داخل باكستان في 16 يناير 2024، على نحو دفع الأخيرة إلى الرد بالمثل عبر ضربات عسكرية ضد مواقع تابعة لجماعات معارضة باكستانية داخل إيران بعد ذلك بيومين.وكادت التهديدات التي وجهها "رئيسي" إلى حركة "طالبان"، في 18 مايو 2023، بسبب تعمد الأخيرة حجز مياه نهر هيلمند ومنعها من الوصول إلى إيران، أن تؤدي إلى توسيع نطاق الاشتباكات العسكرية المحدودة التي جرت بين حرس الحدود الإيراني وعناصر تابعة لـ"طالبان"، على الحدود المشتركة، وأسفرت عن مقتل ثلاثة عناصر من حرس الحدود الإيراني في 27 من الشهر نفسه، قبل أن تتراجع حدة المواجهات بين الطرفين.من هنا، وضعت حكومة "بزشكيان" على قمة أولوياتها تحسين العلاقات مع كل من باكستان وأفغانستان، خاصةً أن ذلك قد يمثل مدخلاً لتسوية الخلافات العالقة مع الأخيرة حول مياه نهر هيلمند، التي تبدو إيران في أمس الحاجة إليها، لا سيما في ظل الارتفاع الشديد في درجات الحرارة خلال فصل الصيف.3- نقل الملف من الحرس الثوري لوزارة الخارجية: يبدو أن التطورات التي طرأت على الصعيد الإقليمي وتسببت في تراجع الدور الذي كانت تقوم به إيران على مستوى منطقة الشرق الأوسط، قد أنتجت تداعيات داخلية مهمة تمثلت في توسيع نطاق الملفات التي تديرها وزارة الخارجية في عهد "عباس عراقجي"، خاصةً في ظل انشغال الحرس الثوري حالياً في إدارة ومتابعة ملفات أخرى قد تكون، في رؤيته، أكثر أهمية، وفي مقدمتها الاستعداد لتصعيد محتمل، خاصةً على المستوى العسكري، مع كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، ولا سيما بعد عودة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2025.إذ يجري الحرس الثوري مناورات متتالية ويكشف باستمرار عن بعض القواعد العسكرية والبحرية، من أجل توجيه رسائل مباشرة إلى واشنطن وتل أبيب تفيد بأن أي عمل عسكري ضد إيران سوف تكون كلفته عالية. وقد كانت آخر رسائل استعراض القدرات من جانب الحرس الثوري هو ما أعلن عنه القيادي في الحرس الثوري "علي شادماني"، في 27 يناير 2025، بشأن حصول إيران على مقاتلات "سوخوي 35" من روسيا.من هنا، ربما يمكن القول إن وزارة الخارجية تلقفت الفرصة من أجل استعادة الملف الأفغاني، خاصةً أن الوزارة عانت خلال المرحلة الماضية، ولا سيما في عهد الوزير السابق "حسين أمير عبد اللهيان" الذي قُتل في حادث سقوط مروحية الرئيس "إبراهيم رئيسي"، من تصاعد تدخل الحرس الثوري في إدارة الملفات الرئيسية واختيار السفراء وأعضاء الهيئات الدبلوماسية.4- إعادة اللاجئين الأفغان إلى بلادهم: ويمثل ذلك ملفاً شائكاً يفرض ضغوطاً قوية على إيران، على المستويين الاقتصادي والأمني، ولا سيما في ظل تزايد أعدادهم، خاصةً بعد وصول "طالبان" إلى الحكم مجدداً في منتصف أغسطس 2021، حيث تُشير التقديرات إلى أن هذه الأعداد تتراوح بين 3.5 إلى 6 مليون أفغاني، بات قسم كبير منهم يعاني من أزمات معيشية عديدة داخل إيران.وترى حكومة "بزشكيان" أن وجود هذه الأعداد من اللاجئين داخل إيران يمثل عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد الإيراني الذي يعاني بدوره من أزمات معقدة، بسبب العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية منذ 7 أغسطس 2028، بعد انسحابها من الاتفاق النووي في 8 مايو 2018. ومن هنا، فإنها تسعى عبر تحسين العلاقات مع "طالبان" إلى إعادة اللاجئين إلى بلادهم، وبالتالي تقليص حدة الضغوط الاقتصادية التي يفرضها وجودهم على إيران.النسخة الجديدةفي ضوء ذلك، يمكن القول إن إيران تقترب تدريجياً من الاعتراف بحكم حركة "طالبان" خاصةً بعد أن نجحت الأخيرة في تكريس سيطرتها على الحكم في كابول، واحتواء نفوذ القوى المناوئة لها، والتي كانت إيران تعول على وجودها كورقة ضغط ضد "طالبان"، على جبهة المقاومة التي يقودها "أحمد شاه مسعود".لكن رغم حرص إيران على رفع مستوى العلاقات مع "طالبان"، وفتح قنوات تواصل سياسية، إلى جانب الأمنية؛ فإن فجوة الثقة ما زالت قائمة بين الطرفين، وربما تقف حجر عثرة أمام الجهود التي تبذل من أجل الوصول إلى تسوية للخلافات العالقة بين طهران و"طالبان". فضلاً عن إرث "الكراهية" العالق بين الطرفين منذ النسخة الأولى من حكم "طالبان" (1996-2001)، والذي كاد أن يتسبب في نشوب حرب مباشرة بينهما في عام 1998، ما زال يمثل متغيراً رئيسياً سوف يكون له دور في تحديد اتجاهات العلاقة بين الطرفين خلال المرحلة القادمة.

لماذا تهتم إيران بالانفتاح على "طالبان"؟