نورهان أبو الفتوح

أعلن الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" أن القمة غير الرسمية لرابطة الدول المستقلة ستُعقد في مدينة سان بطرسبرج الروسية يومي 25 و26 ديسمبر 2024. وقد أوضح "بوتين" أن القمة ستركز على بحث قضايا إقليمية ودولية ذات اهتمام مشترك، إلى جانب مشكلات تتطلب تعاوناً ودعماً مشتركاً من الدول الأعضاء. وتتميز هذه القمم بطابعها غير الرسمي، حيث لم تُحدد أجندة مسبقة، مما يتيح لرؤساء الدول المشاركة تبادل الآراء بحرية حول الموضوعات ذات الأولوية لديهم.حسابات موسكو تنعقد القمة في توقيت يحمل أبعاداً استراتيجية مهمة على الصعيدين الإقليمي والدولي، حيث تتشابك التطورات الجيوسياسية والأمنية بشكل لافت. كما يأتي الاجتماع في مرحلة حساسة للغاية بالنسبة لروسيا والدول الأعضاء في رابطة الدول المستقلة، في ظل تصاعد التوترات في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، واستمرار النزاع في أوكرانيا الذي يزيد من الضغوط على موسكو. يُضاف إلى ذلك الأزمات الاقتصادية المتفاقمة التي تواجهها روسيا نتيجة العقوبات الغربية. علاوةً على ذلك، تبرز تحديات أمنية متصاعدة في منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى، إلى جانب تنامي المنافسة الجيوسياسية مع تركيا.ويمكن استعراض أبرز دوافع موسكو للدعوة لعقد قمة غير رسمية لرابطة الدول المستقلة، على النحو التالي:1- سعي روسيا للحفاظ على نفوذها الإقليمي: في ظل ما تشهده روسيا من عزلة متزايدة جراء تصاعد الحرب في أوكرانيا، تسعى موسكو إلى تعزيز العلاقات داخل رابطة الدول المستقلة كوسيلة للحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية والإقليمية ودعم استقرارها الاستراتيجي في مواجهة الضغوط الغربية، خاصةً في ضوء تبني دول آسيا الوسطى الحليفة لروسيا، مواقف أكثر استقلالية في الآونة الأخيرة، مما قد يطرح تحديات جديدة لروسيا بشأن الحفاظ على وحدة الرابطة. ولذلك، فإن توقيت القمة قد يكون محاولة لاحتواء هذه التحولات وتحقيق توافقات جديدة في إطار الرابطة.وفي هذا السياق، فقد تجلت تلك المواقف الاستقلالية لدول آسيا الوسطى في قمة "الاتحاد الأوروبي- آسيا الوسطى" 2024، التي أكد خلالها الرئيس الكازاخستاني "قاسم جومارت توكاييف" على أهمية تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي مع الاتحاد الأوروبي، وذلك في خضم عمل كازاخستان على تطوير مشروعات للطاقة المتجددة والتوسع في خطوط أنابيب الغاز والنفط مع دول الاتحاد الأوروبي. كما شهدت العلاقات بين كازاخستان والولايات المتحدة مزيداً من التطور، خاصةً بعد إعلان "توكاييف" في فبراير 2024 عن توسيع التعاون في مجالات التكنولوجيا والابتكار، بالإضافة إلى الاستثمارات في البنية التحتية. وهذه التحركات تشير إلى تحول كازاخستان نحو تعزيز علاقاتها مع الغرب بشكل يتجاوز العلاقة التقليدية مع روسيا.وفي السياق ذاته، أكدت قرغيزستان على استمرار تعزيز علاقاتها مع حلف الناتو في المجال العسكري والأمني، رغم أنها عضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا. وفي 2024، شاركت قرغيزستان في مناورات مشتركة مع حلف الناتو في مجالات الأمن السيبراني ومحاربة الإرهاب.2- محاولات موسكو لإعادة تشكيل ترتيبات القوقاز: تعتبر دعوة الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" لأرمينيا للمشاركة في قمة رابطة الدول المستقلة خطوة استراتيجية تهدف إلى ضمان الاستقرار في منطقة القوقاز، وتعزيز الدور الوسيط لروسيا في النزاع القائم بين أرمينيا وأذربيجان. وفي هذا السياق، أكد المتحدث باسم الكرملين "دميتري بيسكوف" أن رئيس الوزراء الأرميني "نيكول باشينيان" من المتوقع أن يزور سان بطرسبرج لحضور اجتماع القمة، وهي دعوة تشير إلى أهمية العلاقات الثنائية والجهود الروسية المستمرة لتوحيد مواقف دول الرابطة.ومن خلال هذه الدعوة، تسعى موسكو إلى تعزيز استقرار المنطقة من خلال التأكيد على دورها كوسيط رئيسي في النزاع القوقازي، حيث تمثل روسيا العامل الحاسم في توازن القوى بين أرمينيا وأذربيجان. ويعد هذا التحرك بمثابة فرصة لروسيا لإظهار قوتها الدبلوماسية على الساحة الإقليمية، والتمسك بدورها المؤثر في التأثير على تطورات المنطقة، خاصةً في ظل الضغوط الجيوسياسية الراهنة وتزايد المنافسات مع القوى الغربية والإقليمية.3- تصاعد حدة الضغوط الاقتصادية على روسيا: تعقد روسيا قمة رابطة الدول المستقلة في توقيت حرج يتزامن مع استمرار الحرب في أوكرانيا وتصاعد العقوبات الغربية. ويمثل هذا التوقيت فرصة لموسكو لاستعراض الدعم الإقليمي، وتحقيق تضامن داخلي بين دول الرابطة لمواجهة التحديات المشتركة. وفي ظل تزايد الضغوط الاقتصادية على روسيا، تسعى القمة إلى تعزيز التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء لتعويض الخسائر الناتجة عن العقوبات. ويعكس هذا التوجه استراتيجية موسكو لتوحيد الجهود الاقتصادية داخل المنطقة، وتعزيز التكامل الاقتصادي عبر مبادرات مشتركة لمواجهة الضغوط الخارجية.4- تنامي الجدل حول خفوت الدور الروسي في سوريا: يتزامن عقد قمة رابطة الدول المستقلة مع الجدل المتصاعد حول مستقبل الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط، وخاصةً في سوريا بعد انهيار حكم الرئيس "بشار الأسد". إذ تثير تطورات الوضع السوري غموضاً حول مصير القواعد العسكرية الروسية في المنطقة، بالإضافة إلى تساؤلات بشأن مستقبل التحالفات التي جمعت موسكو مع النظام السابق. وفي هذا السياق، قد تسعى روسيا من خلال هذه القمة إلى تأكيد موقفها إزاء القضية السورية، وتعزيز التنسيق الاستراتيجي مع دول الرابطة لمواجهة التحديات المتزايدة، بما في ذلك ضمان استمرار تأثيرها في المنطقة بعد الخسارة الكبرى في سوريا.أهداف منشودة تتعدد أهداف القمة خصوصاً في ضوء تعدد القضايا المتوقع طرحها على مائدة الحوار بين مسؤولي الدول الأعضاء، ما بين اقتصادية وأمنية وسياسية، فضلاً عن احتمال التركيز على القضايا الملحة والأزمات في المحيط الإقليمي. وفيما يلي استعراض لأبرز أهداف القمة:1- تعزيز التفاهمات لمواجهة التحديات الداخلية والإقليمية: أضحت قضايا الأمن إحدى أهم أولويات دول رابطة الدول المستقلة، خاصةً في ظل التوترات الجيوسياسية المستمرة في المنطقة، بالإضافة إلى استمرار الأزمة الأوكرانية. لذا من المرجح أن تركز القمة على تطوير التعاون بين الأجهزة الأمنية لمكافحة التهديدات مثل الإرهاب والتطرف، خصوصاً في آسيا الوسطى. كذلك، يُتوقع تعزيز التعاون العسكري بين الدول الأعضاء في الرابطة، بما يشمل مناقشة التحالفات العسكرية الجديدة أو إجراء مناورات مشتركة لتعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي. وقد تتطرق القمة أيضاً إلى الوضع في أوكرانيا وتداعياته على الأمن الإقليمي، مع التركيز على تأثيرات الحرب على المنطقة.إضافةً إلى ذلك، تواجه بعض دول الرابطة تحديات داخلية، مثل كازاخستان وقرغيزستان وبيلاروسيا، حيث شهدت هذه الدول احتجاجات شعبية ضد الحكومات في السنوات الأخيرة. ففي قرغيزستان، تمت إقالة رئيس الوزراء "أكيلبيك جباروف" وسط فضيحة فساد غير مسبوقة، مما أدى إلى احتجاجات واسعة. وفي بيلاروسيا، تصاعدت الانتقادات الداخلية والمعارضة السياسية مع اقتراب الانتخابات المقررة في مطلع عام 2025. كما شهدت أرمينيا توترات داخلية، على خلفية تدهور أوضاع حقوق الإنسان.في ضوء هذه التوترات، بما في ذلك التهديدات الأمنية على الحدود مع أفغانستان وتنامي أنشطة الجماعات المتطرفة، يظل تعزيز التعاون العسكري والأمني بين دول الرابطة أمراً محورياً لحماية المنطقة من المخاطر المشتركة وتعزيز التكامل الدفاعي بين الأعضاء.2- توثيق التحالفات في مواجهة الضغوط الغربية: تتأثر السياسة الخارجية لدول رابطة الدول المستقلة بعلاقاتها مع القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، مما ينعكس على مواقفها تجاه القضايا المختلفة. لذا من المحتمل أن تسعى القمة إلى تنسيق الآراء بشأن عدد من القضايا البارزة، وأبرزها الضغوط الغربية على روسيا في ظل العقوبات المستمرة بسبب الحرب في أوكرانيا، لذا قد تتناول القمة سبل مواجهة هذه الضغوط، مثل تعزيز التحالفات مع دول خارج الرابطة مثل الصين وإيران.بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تركز القمة على مناقشات حول الأزمة في الشرق الأوسط، وخاصةً في سوريا، حيث قد يتم التأكيد على ضرورة استمرار عملية الانتقال السلمي في البلاد، وكذلك مواجهة المساعي المتطرفة التي تهدف إلى السيطرة على الدولة السورية بعد انهيار حكم "الأسد" المدعوم من روسيا.3- تعميق التعاون في قضايا الاقتصاد والطاقة: تعتبر الطاقة إحدى الركائز الاقتصادية المهمة في دول رابطة الدول المستقلة، وستظل على الأرجح أحد المواضيع البارزة، خاصةً في ظل الأزمة الروسية-الأوكرانية، حيث تعد روسيا وكازاخستان وأذربيجان من كبار منتجي النفط والغاز، وقد يتم بحث سبل تحسين التعاون في مجال تصدير الطاقة وتنويع الأسواق، فضلاً عن احتمال مناقشة الاتجاهات المستقبلية في الطاقة المتجددة، وكيفية تبادل التقنيات الحديثة بين الدول لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وتحقيق الاستدامة، فضلاً عن التركيز على قضايا التجارة البينية وكيفية تعزيزها بين دول الرابطة في ضوء الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.4- دعم مساعي إعادة دمج أرمينيا في الرابطة: يشير إعلان المتحدث باسم الكرملين أن "بوتين" وجه الدعوة لرئيس الوزراء الأرميني لحضور القمة إلى سعي روسيا باعتبارها القوة الأبرز في الرابطة وفي محاولة لتعزيز دورها كوسيط إقليمي في القضايا الأمنية، لإعادة إدماج وانخراط أرمينيا مرة أخرى في الرابطة، في خطوة تسمح لها بتعزيز موقفها داخل رابطة الدول المستقلة وخلق توازن في علاقاتها مع جيرانها، خصوصاً في ظل دعم أذربيجان المستمر من قبل تركيا، فقد كانت يريفيان أقرب إلى الاتحاد الأوروبي والغرب، لكنها في السنوات الأخيرة بدأت تشعر بتهديدات أمنية بسبب الموقف التركي- الأذربيجاني، وقد تمثل القمة فرصة لتعزيز علاقات أرمينيا مع موسكو وحلفائها الإقليميين كوسيلة لموازنة الضغوط الإقليمية.5- ترسيخ الروابط الثقافية والاجتماعية بين الأعضاء: من المتوقع أن تركز دول رابطة الدول المستقلة على تعزيز التعاون الثقافي والاجتماعي بين الأعضاء بشكل يتجاوز الأنشطة التقليدية، من خلال بناء شراكات استراتيجية تساهم في تعزيز الهوية الثقافية المشتركة وتبادل المعرفة والخبرات. فقد تهدف القمة إلى تطوير مشاريع ثقافية مستدامة تساهم في إحياء التراث وتعزيز الحوار بين الشعوب، مع التركيز على التعاون في مجالات التعليم والصحة العامة التي تعد أساساً لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة. وسيساهم التعاون في هذه المجالات في تحسين الموارد البشرية وتعزيز استقرار المجتمعات، مما يعزز التكامل الاجتماعي، ويعكس قوة الرابطة في مواجهة التحديات المستقبلية.اختبار حاسموختاماً، تعتبر قمة رابطة الدول المستقلة في ديسمبر 2024 بمثابة منصة استراتيجية لتنظيم وتنسيق الجهود بين دول الرابطة لمواجهة التحديات الجيوسياسية والاقتصادية الكبرى، مع التركيز على تعزيز التعاون الإقليمي لمواجهة الضغوط الداخلية والخارجية. وتهدف القمة إلى دفع التعاون بين الأعضاء في مختلف القطاعات الاقتصادية والسياسية لضمان الاستقرار الإقليمي وتعزيز التكامل الاقتصادي والسياسي. ومن خلال هذه المبادرة، تسعى الدول الأعضاء إلى توحيد جهودها لمواجهة التحديات المشتركة، مما يعزز من دور الرابطة في الساحة الدولية في ظل التحولات الجيوسياسية المستمرة.وبالنسبة لروسيا، تمثل القمة فرصة لتعزيز دورها الإقليمي، ودعم التعاون في مواجهة الأزمات الاقتصادية والأمنية العالمية. كما ستكون القمة اختباراً حاسماً لقياس قدرة دول الرابطة على تجاوز هذه التحديات وبناء شراكات استراتيجية مع القوى الكبرى مثل الصين. لذا، فإن هدف روسيا من ذلك هو خلق تكتل إقليمي مستقل قادر على التنسيق بشكل أفضل في قضايا إقليمية وعالمية، مما يعزز استقرار المنطقة ويقوي مكانتها على الصعيد الدولي.

ما أهداف موسكو من عقد قمة غير رسمية لرابطة الدول المستقلة؟