د. أحمد عسكر

أعلنت أربع حركات سياسية وعسكرية مسلحة في شمال مالي في الأول من ديسمبر 2024 عن حل نفسها من أجل تشكيل تحالف سياسي وعسكري جديد يُطلق عليه اسم "جبهة تحرير أزواد"، وذلك عقب سلسلة من الاجتماعات التي عقدها قادة "الإطار الاستراتيجي الدائم للدفاع عن شعب أزواد" في الفترة من 26-30 نوفمبر 2024 في منطقة تينزاوتين أقصى شمال البلاد، وذلك بهدف إعادة إحياء المساعي لاستقلال إقليم أزواد والشمال المالي عن الحكومة المركزية وتحقيق تقرير مصير شعب أزواد، والدفاع عن المكون الأزوادي في منطقة الساحل، وهو ما يمثل خطوة فارقة في تطورات السياق المحلي في ظل تراجع حظوظ الحلول السياسية السلمية والتوجه نحو التصعيد، الأمر الذي قد يسهم في إعادة تشكيل المشهد السياسي والأمني في البلاد.تأتي هذه الخطوة أيضاً بعد تحركات عدة بدأتها الحركات المسلحة في أزواد منذ مايو 2024 من أجل إعادة ترتيب الصفوف لمواجهة الحكومة المركزية في باماكو. كما أنها جاءت في سياق أمني يتسم بالمزيد من التعقيد، خاصة عقب تصعيد المواجهات العسكرية بين قوات الجيش المالي وحلفائه من مقاتلي مجموعة فاجنر والحركات المسلحة المتمردة في شمال مالي خلال الشهور الماضية، الذي ترتب عليه استعادة القوات المالية لمدينة كيدال التي كانت حركات أزواد قد سيطرت عليها، ما يهدد طموحات تلك الحركات هناك.وربما يعبر التحالف الجديد عن موجة جديدة من تصاعد النزعات الانفصالية في الساحل، وما يشكله ذلك من تهديد واضح لتماسك ووحدة الدولة المالية، وانعكاساته السلبية على المستوى الإقليمي، لا سيما أن منطقة الساحل تواجه اضطرابات سياسية وأمنية وانتشاراً مكثفاً للتنظيمات الإرهابية التي تنشط في دول المنطقة، والتي تسعى للانقضاض على السلطة والإطاحة بحكومات المنطقة، الأمر الذي يهدد الاستقرار والأمن الإقليمي في الساحل خلال الفترة المقبلة.دوافع رئيسيةهناك عددٌ من الأسباب التي دفعت الحركات المسلحة في شمال مالي للإعلان عن خطوة التحالف الرباعي الجديد. ويمكن الإشارة إلى أبرز تلك الأسباب على النحو التالي:1- تحقيق المشروع التحرري في إقليم أزواد: تسعى الفصائل والحركات المتمردة في شمال مالي إلى الاستقلال عن مالي، وتحقيق الاستقلال الكامل لمنطقة أزواد. ففي بيانها الأول دعت جبهة تحرير أزواد إلى وحدة شعب أزواد، وحثت الفصائل والحركات المتمردة ذات التوجهات المختلفة على الانضمام للمشروع التحرري. كما طالبت الجبهة المجتمع الدولي ودول الجوار الإقليمي بالاعتراف بها كممثل شرعي ووحيد لشعب أزواد.وفي هذا الإطار، تقدم الجبهة نفسها باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد لشعب أزواد في الشمال المالي، وتؤكد التزامها بمواصلة الكفاح من أجل تقرير المصير، وهو ما يمنحها ثقلاً سياسياً أكبر على الصعيدين المحلي والدولي، قد يدعمها في أي حوار محتمل في الفترة المقبلة.2- خلق كيانٍ موازٍ: يهدف التحالف الجديد إلى تشكيل قيادة سياسة وعسكرية لإدارة شؤون الإقليم وتنظيم أنشطة التحالف، بالإضافة إلى تمثيل شعب الطوارق في شمال مالي والدفاع عن حقوقه ومصالحه، بما يُعطي الإقليم وضعاً سياسيّاً وقانونيّاً يعزز مكانته في المشهد السياسي المالي الراهن. حتى إن الجبهة قد اعتمدت عَلَماً جديداً يعكس هويتها السياسية والعسكرية. وذلك في محاولة لإضفاء المزيد من الشرعية السياسية والتماسك الداخلي، ربما يُعزز موقفها في أي مفاوضات مستقبلية مع الحكومة المالية أو أي طرف دولي.3- انعدام الثقة في الحكومة المركزية: ترى الحركات المسلحة في شمال مالي أن حكومة باماكو لم تلتزم بما ورد في الاتفاقات المختلفة التي أُبرمت على مدار السنوات الماضية، وبخاصة اتفاق السلام المبرم في عام 2015 الذي استهدف إنهاء النزاع بين الحكومة المركزية وحركات الطوارق، والتي أنهت الحكومة العمل به قبل عام تقريباً. وهو ما يدفعها للتحالف من أجل الضغط على الحكومة المالية من أجل نَيْل الاستقلال أو عودة العمل وفقاً للاتفاق.4- الصراع المسلح مع الجيش المالي: والذي يمتد إلى سنوات طويلة ماضية، حيث تتصاعد المواجهات العسكرية بين الجيش المالي والحركات المسلحة المتمردة في شمال البلاد خلال الشهور الماضية، وهو ما يُعقّد السياق الأمني المضطرب في المنطقة، بما يعزز حالة انعدام الأمن وعدم الاستقرار هناك، واحتمالات تمدد ذلك إلى مناطق الجوار الإقليمي، لا سيما أن أزواد لديها تداخلات إثنية مع بعض دول الجوار مثل النيجر وبوركينافاسو.5- تورط فاجنر في الصراع المالي: شهد المسرح العملياتي في شمال البلاد انخراط لاعب أمني جديد يتمثل في انتشار مقاتلي فاجنر، أو ما يطلق عليه حالياً فيلق أفريقيا، للقتال إلى جانب الجيش المالي؛ حيث شارك في بعض العمليات العسكرية للتوغل في عمق إقليم أزواد ضد المتمردين في شمال البلاد، الأمر الذي يعقد الصراع ويقلص بدوره من فرص السلام، كما أنه يعزز التنافس الدولي في المنطقة خلال المرحلة المقبلة.6- حشد القدرات العسكرية للأزواد: يسعى التحالف الجديد إلى حشد قوات الحركات المسلحة المتمردة في الإقليم تحت لوائه، كخطوة أولى لتأسيس جيش موحد من الأزواد، وذلك من أجل مواجهة الجيش المالي واستنزاف قدراته وحلفائه بما في ذلك مجموعة فاجنر كرد على الانتكاسات العسكرية التي لحقت بتلك الحركات المتمردة على يد القوات الحكومية المالية خلال الشهور الماضية، والمضي قدماً نحو استعادة السيطرة على بعض المناطق التي استردها الجيش في شمال البلاد بما في ذلك مدينة كيدال. إلى جانب الزحف العسكري نحو بعض المدن الشمالية الرئيسية للسيطرة عليها.7- الدعم الشعبي للتحالف الجديد: يدّعي قادة أزواد أن هذه الخطوة قد جاءت استجابة لنداء زعماء القبائل والأئمة وقادة الرأي والشباب والنساء بخصوص الوحدة بين الحركات الأزوادية، وهو ما يعكس تطلعات شعب أزواد إلى تحقيق تقرير المصير في الشمال المالي، بما يعزز الظهير الشعبي لجبهة تحرير أزواد في المنطقة، لكي يمنحه مزيداً من الثقل السياسي الذي ينعكس بدوره على تعزيز تفوقه العسكري في شمال البلاد ضد القوات الحكومية وحلفائها الدوليين.تداعيات محتملةيحمل تشكيل جبهة تحرير أزواد العديد من التداعيات المحتملة على المستويين المحلي والإقليمي وكذلك الدولي، وتتمثل أبرز تلك التداعيات فيما يلي:1- الضغط على النظام الحاكم في باماكو: ربما يضغط التحالف الجديد على النظام العسكري الحاكم في مالي من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات، وفتح قنوات الحوار السياسي مع الحركات الأزوادية، أو العودة إلى العمل باتفاق الجزائر للسلام الذي أُبرم في عام 2015 برعاية جزائرية. وربما يتوقف ذلك على تصعيد التحالف الجديد للعمليات الإرهابية ضد الجيش المالي وحلفائه في شمال البلاد خلال الفترة المقبلة.2- ضعف احتمالات الحوار: قد يعرقل تشكيل التحالف الجديد مساعي إعادة الحوار والمفاوضات بين الحكومة المالية والحركات المسلحة في الشمال المالي، الأمر الذي ربما يدفع الحكومة المركزية إلى تبني المقاربة الأمنية لمعالجة أزمة شمال مالي، وما قد يترتب عليه من تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية هناك.3- تصعيد عسكري في شمال مالي: من المتوقع أن يُكثّف الجيش المالي من هجماته العسكرية وغاراته الجوية بالمسيّرات في شمال البلاد ضد الحركات المسلحة خلال الفترة المقبلة، وذلك لاحتواء مخاطر وتهديدات الحركات الأزوادية. ويُعزز هذا الطرح استهداف المسيّرات الحكومية ثمانية من قادة الطوارق في منطقة تينزاوتين أقصى شمال البلاد بعد يوم من الإعلان عن التحالف الجديد، وهو ما يُنذر بمواجهات عسكرية مكثفة في شمال مالي في المرحلة المقبلة. وقد يدفع ذلك قادة أزواد إلى التعاون مع بعض التنظيمات الإرهابية في المنطقة ولا سيما القاعدة من أجل مواجهة قوات الجيش المالي وحلفائه، وتعزيز المساعي للحصول على حلم الاستقلال عن الدولة المالية.4- تصاعد نشاط الإرهاب في شمال مالي: قد يدفع تعقد التفاعلات السياسية والعسكرية في إقليم أزواد إلى تكثيف التنظيمات الإرهابية لنشاطاتها وعملياتها في شمال البلاد، مستغلة السياق الأمني المضطرب في الداخل المالي، وهو ما يُعزز انعدام الاستقرار الأمني هناك وما يرتبط به من تفاقم الوضع الأمني في الساحل.5- استنساخ نماذج ذات نزعة انفصالية في الساحل: ربما تشهد منطقة الساحل استنساخاً لنماذج جديدة ذات نزعة انفصالية على غرار ما تطالب به جبهة تحرير أزواد، في ضوء تنامي تأثير الدومينو في منطقة الساحل، وهو أمر من المرجح أن ينتقل إلى بعض دول الجوار مثل النيجر وبوركينافاسو وتشاد وغيرها.6- رفض بعض الأطراف الإقليمية لمساعي التحالف: من المتوقع أن ترفض بعض دول الجوار الإقليمي لمالي لا سيما الجزائر أية توجهات ذات نزعة انفصالية في شمال مالي، خوفاً من تهديد حدودها وأمنها القومي، خاصة في ضوء التكهنات بتصاعد المواجهات العسكرية بين الجيش المالي والحركات المسلحة، إضافة إلى احتمال تمركز قوات مجموعة فاجنر في شمال مالي، بما يعزز القلق والمخاوف لدى الجانب الجزائري من توسع النفوذ الروسي في المنطقة، وهو محدد حاكم في تزايد التوتر المكتوم الذي يسود العلاقات الروسية الجزائرية. وهو ما قد يدفع نحو تحسين العلاقات بين النظام الحاكم في مالي والحكومة الجزائرية بعد فترة من التوتر بسبب الخلاف حول طبيعة العلاقات التي تربط بين الجزائر والحركات المسلحة المتمردة في شمال مالي.7- حشد الدعم الإقليمي والدولي: ربما يكون إعلان تشكيل جبهة تحرير أزواد خطوة أولى لإعلان الاستقلال عن دولة مالي، لتتبعها مساعٍ حثيثة لقادة أزواد من أجل حق تقرير المصير قبل المضي قدماً نحو البحث عن الاعتراف الدولي من قبل القوى الدولية الفاعلة، مستغلين علاقات التوتر المتنامي بين النظام الحاكم في باماكو وبعض الأطراف الدولية مثل فرنسا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وإن كان من المستبعد تحقق ذلك، في ضوء الحرص الدولي على عدم تنامي النزعات الانفصالية في دول الساحل خوفاً من احتمال تفكك دول الساحل لدويلات صغيرة، وما يترتب على ذلك من تنامي التهديدات الأمنية في المنطقة.8- تعميق الأزمة الأمنية في الساحل: يهدد تفاقم الأوضاع الأمنية في شمال مالي بتمدد واتساع نطاق التهديدات الأمنية على الصعيد الإقليمي في منطقة الساحل، وهو ما يعزز المخاوف الإقليمية لدى العديد من القوى الفاعلة التي تمتلك مصفوفة من المصالح الاستراتيجية هناك، الأمر الذي يهدد الاستقرار الأمني الإقليمي في الساحل.وإجمالاً، تُعزز خطوة تدشين جبهة تحرير أزواد من أزمة شمال مالي لتصبح في بؤرة الاهتمام الإقليمي والدولي مجدداً في الساحل، خاصة مع تجدد مساعي الحركات المسلحة للحصول على الاستقلال من دولة مالي ونيْل الاعتراف الدولي. وإن كانت هذه الخطوة تواجه عدة تحديات قد تعيق تحققها على الأقل في المدى المتوسط، يأتي في مقدمتها أن السياق الدولي غير مواتٍ لهذه الخطوة في ظل تعقد التشابكات الإقليمية والدولية في الساحل، وعدم رغبة القوى الدولية في تفكك دول المنطقة خوفاً من تفاقم الأوضاع الأمنية، وما قد يترتب عليه من تصدير الإرهاب والهجرة غير النظامية إلى أوروبا عبر شمال أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط. إضافة إلى احتمال اندلاع انشقاقات في صفوف الحركات الأزوادية بما قد يعجّل بانهيار التحالف الجديد في أزواد، إلى جانب استمرار الجيش المالي في عملياته العسكرية التي تقلص من نفوذ حركات أزواد في شمال مالي لصالح اتساع رقعة سيطرة الجيش المالي على مدن الشمال المالي. ومع ذلك، من المتوقع أن يكثف الجيش المالي اعتماده على المقاتلين الروس في فيلق أفريقيا من أجل توسيع عملياته العسكرية في إقليم أزواد شمالي مالي لاحتواء مخاطر جبهة تحرير أزواد والسعي نحو تدمير قدراتها العسكرية والبشرية، وذلك بهدف استعادة الأمن والاستقرار إلى شمال البلاد، من أجل تعزيز شرعية النظام الحاكم المالي الذي يسعى إلى الاستمرار في السلطة خلال السنوات المقبلة.

مستقبل الصراع في شمال مالي بعد تشكيل جبهة تحرير أزواد