إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية


        
<p><strong>استدعت الحرب الراهنة ظاهرة الفساد المُستشرِي داخل المؤسسات الأوكرانية إلى الواجهة مجدداً، بالرغم من تراجع التركيز عليها في إطار الحملة الدعائية الغربية المُضادَّة لموسكو والداعمة لكييف؛ فقد بدت الحرب لحظة مواتية لبعض العناصر للتخلص من سمعتها السلبية وإعادة تقديم نفسها؛ فبعض المحسوبين على الأوليجاركية الذين كانوا مُلاحَقين بتهم الفساد في السنوات الماضية، استُضِيفوا في وسائل الإعلام الغربية، وقُدِّموا كرجال أعمال وطنيين. علاوة على ذلك، قدَّم البرلمان الأوكراني مشروع قانون يسمح بإعفاء المتورطين في قضايا فساد من المسؤولية الجنائية، إذا قدَّموا تعويضات مالية تساعد البلاد في حربها الحالية.</strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">إرث ممتد</span></strong></p>



<p><strong>تشكَّلت على مدار السنوات الماضية ملامح إرث ممتد من الفساد داخل النظام الأوكراني، وهو الإرث الذي ارتبط بعدد من الأبعاد الرئيسية المتمثلة فيما يأتي:</strong></p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– سوء استغلال الطبقة الأوليجاركية للاقتصاد الوطني:</strong> تعرَّض الاقتصاد الأوكراني لهزة كبيرة عقب انهيار الاتحاد السوفييتي وإعلان الاستقلال، وقد أدى هذا الأمر إلى خصخصة جماعية للشركات المملوكة للدولة، وهو ما ساهم في إنشاء الطبقة المعروفة باسم "الأوليجاركية". وتتكون هذه الطبقة من نخب شيوعية سابقة وآخرين لهم صلات بالحكومة، سيطروا على المصانع الرئيسية والأصول الإنتاجية الرئيسية عقب الاستقلال، بتكلفة قليلة أو بدون تكلفة على الإطلاق.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وتشير بعض التقديرات إلى أن أكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي الأوكراني تسيطر عليه هذه الطبقة. وعلى الرغم من أن الأوليجاركية قد ساعدت في البداية أكبر الشركات في أوكرانيا على استعادة قدرتها الإنتاجية؛ ما أدى إلى انتعاش الاقتصاد، فإنهم سرعان ما استغلُّوا شبكة علاقاتهم لخنق المنافسة. وقد ساهم ذلك في توسع دائرة الفساد في البلاد؛ وذلك في الوقت الذي ظل فيه الاقتصاد الأوكراني يكافح من أجل النمو أو التنويع بما يتجاوز إنتاج السلع والمعدات الأساسية، مثل الصلب وخام الحديد ومعدات التعدين؛ ففي عام 2006، على سبيل المثال، شكَّلت المعادن الأساسية 43% من الصادرات، تليها المنتجات المعدنية بنسبة 10% والمواد الكيميائية بنسبة 8.8%.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2</strong><strong>– تصاعُد ظاهرة الفساد في صفوف الجيش:</strong> يعاني الجيش الأوكراني من استشراء الفساد في صفوفه بدرجة كبيرة، وهو الأمر الذي ساهم في إضعاف قدرته على التصدي لهجوم الجيش الروسي على شبه جزيرة القرم، وصولاً إلى نجاحه في ضمها إلى أراضيه. وبحلول عام 2014، تشكلت شبكة عامة لمكافحة الفساد، ومكتب وطني للتصدي للفساد في صفوف الجيش والأجهزة المدنية، تجنُّباً لمواجهة البلاد مصيراً مستقبلاً مشابهاً لما حدث في أزمة القرم، كما تبنى الرئيس الأوكراني "زيلينسكي" حملة واسعة للتصدي للفساد في أوساط القيادات العسكرية.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وقد دفعت حملته إلى التخلص من بعض رؤساء الفساد في الجيش، وعلى رأسهم "يوري أليروف" القائد السابق للحرس الوطني، و"إيهور هلادكوفسكي" نجل رئيس الأمن القومي السابق. وعلى الرغم من ذلك، فإن تقديرات شبكة مكافحة الفساد في الداخل الأوكراني، أكدت أن ما يقرب من 30% من ميزانية الجيش قد تم إهدارها بفعل الفساد، ناهيك عن خروج عدد من القيادات العسكرية المتطوعة في الجيش بتصريحات صحفية، يشكون خلالها من عدم حصولهم على أي مساعدات أو معدات عسكرية وغذائية وطبية تساعدهم في حربهم ضد القوات الروسية، خاصةً في ماريوبول.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3</strong><strong>– معضلة الحماية القانونية للمنخرطين في الفساد:</strong> سعى "زيلينسكي" مع وصوله إلى سدة الحكم في أوكرانيا، إلى تطبيق برنامج لمكافحة الفساد المستشري في البلاد الذي توارثه منذ فترة الحكم السوفييتي. وعلى الرغم من نجاحه في تمرير هذا المشروع عبر البرلمان الأوكراني، فإن المحكمة الدستورية الأوكرانية وقفت له بالمرصاد، واعتبرت برنامج مكافحة الفساد بأكمله غير دستوري. بيد أن "زيلينسكي" لم يستسلم أمام هذه العقبة، واتخذ قراراً بعرض مشروعه أمام لجنة البندقية، وهي هيئة استشارية تابعة للمجلس الأوروبي، تتألف من خبراء مستقلين في مجال القانون الدستوري.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وقد عمد "زيلينسكي" إلى هذا الخيار ليخلق لذاته مبرراً قانونياً وديمقراطياً يسمح له بتغيير أعضاء المحكمة الدستورية، وهو ما قد كان؛ فقد أعلنت اللجنة رفضها قرار المحكمة الدستورية الأوكرانية، وبناءً عليه سارع "زيلينسكي" إلى الإعلان عن إقالة رئيس المحكمة الدستورية، كما كان بصدد تمرير قانون من خلال البرلمان لحل المحكمة الدستورية عن بكرة أبيها، ووضع إطار قانوني جديد ليُخلِّص القضاء من مؤيدي الفساد الذين وفَّروا الحماية القانونية للعناصر الفاسدة في الأوليجاركية الأوكرانية وأعمدة الفساد في البلاد، إلا أن هذه الجهود لم تكلل بالنجاح مع إعلان روسيا تدشينها عملية عسكرية خاصة ضد أوكرانيا.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">براجماتية الحرب</span></strong></p>



<p><strong>لم تكن قضية الفساد بعيدة عن معطيات الحرب الدائرة في أوكرانيا؛ حيث بدت الحرب بمنزلة آلية جديدة لإعادة إنتاج الفساد وتقديمه في صورة مغايرة ضمن ما يمكن اعتبارها حسابات براجماتية للحرب. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى أهم انعكاسات الحرب على الفساد داخل أوكرانيا فيما يأتي:</strong></p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1</strong><strong>– فكُّ ارتباط "الأوليجاركية" بموسكو تجنباً للعقوبات:</strong> خلافاً لموقف طبقة الأوليجاركية من إعلان روسيا ضمها جزيرة القرم في عام 2014، الذي تباين بدرجة كبيرة، تبنَّت هذه الطبقة موقفاً موحداً معادياً ورافضاً للعدوان الروسي على أوكرانيا. ويمكن تفسير هذا الموقف بعدم رغبة الأوليجاركية في ربط أسمائهم بالنظام الروسي؛ ما يُعرِّضهم للعقوبات التي يخضع لها الكثير من الأولجارك الروس، ناهيك عن رغبتهم في انتهاء الحرب لضمان عدم تعرض أعمالهم للمزيد من الخسائر.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>اللافت للانتباه أن بعض عناصر الأوليجاركية التي كان يُعرَف عنها التواصل مع موسكو، حاولت تقديم نفسها في مظهر جديد لتجنب فرض عقوبات غربية عليها. ومن أبرز وأشهر هذه الأسماء "رينات أخميتف" أغنى رجل في أوكرانيا، وصاحب سلسلة محلات "أمستور" الشهيرة، وأكبر ملعب لكرة القدم في أوكرانيا "استاد دونباس". كما أن لديه شركة قابضة تسيطر على مجموعة من الشركات التي تعمل في مجموعة واسعة من الصناعات، بما في ذلك محطات التلفزيون ومزارع الرياح والشبكات الكهربائية والمحطات الكيميائية ومصنع آزوفستال للصلب الشهير في ماريوبول. وقد كان "أخميتف" من أبرز الداعمين للرئيس الموالي لروسيا " فيكتور يانوكوفيتش"، وموَّل حملته الانتخابية بملايين الدولارات، إلا أنه عقب ضم روسيا لجزيرة القرم، سعى إلى تقديم نفسه في حُلة جديدة، وحرص في هذه الحرب على النأي تماماً عن الجانب الروسي، والمسارعة إلى تقديم مساعدات إنسانية سخية لحكومة الرئيس الأوكراني "زيلينسكي".</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2</strong><strong>– إعادة تقديم العناصر المتورطة في صورة مغايرة:</strong> أحد الأمثلة الأكثر وضوحاً لمحاولة التغطية على بؤر الفساد في النظام الأوكراني، وتقديم هذه الشخصيات في حلة وصورة وطنية جديدة، تمثَّل في رجل الأعمال الأوكراني "ديمترو فيرتاش"؛ فقد كان "فيرتاش" ضيفاً لدى قناة "سي إن إن" الأمريكية التي قدمته للجمهور باعتباره "بارون نفط" يسعى ببساطة إلى استخدام ثروته لصالح الدفاع عن أوكرانيا ضد "بوتين"، وإعادة إعمارها مع انتهاء الحرب، ولكن ما أغفلت القناة ذكره هو أن "فيرتاش" من أشهر الشخصيات الأوليجاركية الفاسدة في أوكرانيا، وأصدر مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي مذكرة توقيف بحقه منذ ما يقرب من عقد من الزمان بتهم تتعلق بالرشوة، وأنه كان يخضع للإقامة الجبرية في النمسا منذ عام 2014.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وقد أطلقت وزارة العدل الأمريكية على "فيرتاش" لقب "الشريك الأكبر للجريمة المُنظَّمة الروسية العابرة للحدود". وكشفت البرقيات المُسرَّبة من وزارة الخارجية أنه عقد عدداً من الاجتماعات مع رجال عصابات روس رفيعي المستوى، وحصل على إذنهم لتأسيس مجموعة من الشركات في المنطقة. وقد لجأ أيضاً عضو الأوليجاركية الأوكرانية "فيكتور بينتشوك" إلى الإعلام الأمريكي لتحسين صورته هو الآخر، عبر نشر مقال رأي له في صحيفة "وول ستريت جورنال" يدعو من خلاله إلى دعم غربي أكبر لأوكرانيا. وقد وصُف كاتب المقال برجل الأعمال الأوكراني الخيِّر، متجاهلين الدور الأساسي الذي لعبه لتمهيد الطريق للغزو الروسي في المقام الأول، وتوفير الدعم لنظام "فيكتور يانوكوفيتش" الموالي لروسيا.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3</strong><strong>– طرح مشروع قانون للتصالح مع الفاسدين: </strong>قدَّم البرلمان الأوكراني مشروع قانون يسمح بإعفاء المتورطين في قضايا فساد من المسؤولية الجنائية، إذا قدموا تعويضات مالية تساعد البلاد في حربها الحالية. وقد تم تقديم مشروع القانون في 29 أبريل الماضي، واقترح أنه إذا تم دفع الضرر الناجم بالكامل فسيتم إعفاء من ارتكب أفعالاً يجرمها القانون بموجب المواد 191 و209 و364 و367 من المساءلة الجنائية.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وبحسب ما جاء في المذكرة التفسيرية لمشروع القانون، فإن سن هذا التدبير أمر بالغ الأهمية من أجل تطوير مصادر خاصة لتعبئة النقد دون المساس بالتزامات العدالة الجنائية خلال العدوان العسكري الذي تشنه موسكو حاليّاً ضد كييف. وبدوره وصف "فيتالي شابونين" رئيس المجلس التنفيذي لمركز مكافحة الفساد، تمرير مشروع القانون بأنه سيسمح لكبار الفاسدين بتجنب العقوبة من خلال "دفع جزء من المسروقات ثم الاستمرار في السرقة عقب ذلك". واعترض "شابونين" على مشروع القانون قائلاً: "بدلاً من مصادرة جميع أصول المتهمين وإجبارهم على قضاء عقوبة في السجن، يريد النواب السماح لهم بمواصلة السرقة من خلال دفع جزء صغير فقط مما سُرق".</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4</strong><strong>– مخاوف الاستغلال السلبي للمساعدات الغربية:</strong> صحيح أن المساعدات العسكرية الغربية الهائلة ساعدت أوكرانيا على التصدي حتى الوقت الراهن للقوات الروسية، بيد أن ثمة تخوفاً من أن تؤثر هذه المساعدات بالسلب على الجيش الأوكراني، بحيث تفتح باباً جديداً للفساد. صحيحٌ أن التقارير أوضحت أن عمليات "السرقة" داخل الجيش الأوكراني قد اندثرت في بداية الحرب بسبب ارتفاع الروح الوطنية في أوساط الجنود، إلا أنه عقب مرور الشهر الأول عادت القيادات العليا في الجيش الأوكراني إلى ممارسة بعض الممارسات السابقة، عبر السعي إلى التربح من هذا الكم غير المسبوق من المساعدات الغربية.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>خلاصة القول أن الحرب داخل أوكرانيا لم تؤدِّ إلى انتهاء مشكلة الفساد بقدر ما أكسبت هذه المشكلة أبعاداً جديدةً؛ فالفساد كان حاضراً في مشهد الحرب منذ الوهلة الأولى، وخصوصاً أن استشراء الفساد داخل الجيش الأوكراني خلال السنوات الماضية أثار تساؤلات مركزية حول تأثير هذا الفساد على القدرات العسكرية للجيش الأوكراني، وحول ما كان سيحدث لو لم يكن هذا الجيش يحصل على دعم عسكري هائل من الدول الغربية في الحرب الراهنة ضد روسيا. علاوة على ذلك، فإن التقاطع بين الفساد والحرب تجلَّى مع محاولات تبرئة بعض العناصر الفاسدة والتصالح معها.&nbsp;</p>

      

كيف تُعيد الحرب إنتاج ظاهرة "الفساد" في أوكرانيا؟