د. محمد عباس ناجي

ندد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في 31 يناير 2025، بالاحتجاز التعسفي وغير اللائق لثلاثة مواطنين فرنسيين في إيران، والذين تصفهم باريس بأنهم "رهائن دولة"، في إشارة إلى أن إيران تستغل هذا الملف تحديداً لممارسة ضغوط على فرنسا في ملفات خلافية أخرى مثل الاتفاق النووي. وأضاف ماكرون في تغريدة على موقع "إكس": "سيسيل كولر وجاك باري محتجزان كرهينتين لدى إيران منذ ألف يوم، و842 يوماً لأوليفييه غروندو". ورغم أن إيران تستند في تبرير اعتقالها لبعض الأجانب ومزدوجي الجنسية إلى اعتبارات خاصة بتورطهم في محاولات نشر الفوضى وقلب نظام الحكم والتجسس؛ إلا أن الدول الغربية، وفي مقدمتها فرنسا، تعتبر أن هذه المبررات تعسفية وتفتقر للأسانيد القانونية، وقد كان لافتاً أن هذا التصعيد تزامن مع إجراء آخر اتخذته باريس، في 31 يناير 2025، بإلغاء الرحلة الجوية التي كانت مقررة بين طهران وباريس، وهي الرحلة الوحيدة المباشرة بين إيران وعاصمة أوروبية.دوافع عديدةكما ذكر ماكرون، فإن اعتقال الفرنسيين الأوّلَيْن -سيسيل كولر وجاك باري- كان قبل ألف يوم. ومع ذلك، فإن فرنسا لم تعمد إلى تصعيد هذا الملف وشن حملة دولية قوية ضد إيران بسببه إلا في هذا التوقيت. صحيح أنها أثارت هذا الملف مرات عديدة، خاصة خلال اللقاءات أو الاتصالات الهاتفية التي أُجريت بين المسؤولين الفرنسيين والإيرانيين؛ إلا أن الموقف الفرنسي لم يتسم بمثل هذه الحدة إلا في المرحلة الحالية، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها فيما يلي:1- تماهي باريس مع حملة الضغوط الأمريكية الجارية: تسعى باريس إلى توظيف الضغوط الأمريكية والعودة لتبني سياسات متشددة تجاه إيران من أجل فرض مزيد من الضغوط على طهران، ودفعها نحو التجاوب مع مطالب باريس في ملف المعتقلين الفرنسيين، وهو ما يأتي بالتوازي مع زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، ليكون أول رئيس أجنبي يستقبله ترامب بعد تنصيبه، حيث سيكون الملف الإيراني على رأس القضايا محل النقاش بين ترامب ونتنياهو، خاصةً مع محاولة دفع الأخير الولايات المتحدة نحو التصعيد العسكري تجاه إيران.2- انتهاء ملف الفراغ الرئاسي في لبنان: قادت فرنسا الجهود التي بذلتها الدول الغربية من أجل إنهاء أزمة الفراغ الرئاسي اللبناني، والتي تصاعدت حدتها منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في أكتوبر 2022، وقد راعت فرنسا خلال انخراطها السابق في هذا الملف الشائك نفوذ إيران في لبنان، حيث اعتبرت أنه لا يمكن إنجاز صفقة في هذا السياق من دون ضوء أخضر من طهران، ومن هنا عملت فرنسا على تحييد الخلافات العالقة مع إيران في الملفات الأخرى، مثل ملف المعتقلين والبرنامج النووي.لكن التداعيات التي فرضتها الحرب الإسرائيلية ضد حزب الله، والتي أدت إلى القضاء على القسم الأكبر من قدراته العسكرية واغتيال الصفوف الأولى من قيادته، كان لها دور بارز في تغيير تلك المعادلة. فقد تراجع نفوذ إيران –الذي كانت تضعه فرنسا ضمن حساباتها- إلى حد كبير، ولم يعد بمقدورها –في ظل الوضع الذي وصل إليه حزب الله– تعطيل إنجاز الصفقة الخاصة بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وهو ما حدث فعلاً خلال الجلسة التي عقدها مجلس النواب، في 9 يناير 2025، وانتهت بانتخاب قائد الجيش جوزيف عون رئيساً للبنان. ومن هنا، فقدت إيران ورقة ضغط كانت تستخدمها في إدارة تصعيدها مع الدول الغربية في الملفات الخلافية الأخرى، على نحو كان له دور في اتجاه باريس نحو التصعيد في تلك الملفات.3- استباق التصعيد المرتبط بالملف النووي الإيراني: تدرك فرنسا أن عام 2025 سوف يكون عاماً حاسماً في الملف النووي الإيراني، إذ إن اقتراب موعد "يوم النهاية" في 18 أكتوبر 2025، الذي يقضي بانتهاء وصاية مجلس الأمن على هذا الملف وإنهاء العقوبات الدولية المفروضة على إيران، قد يدفع الدول الغربية إلى استباق ذلك عبر تفعيل ما يسمى بآلية "الزناد" التي تعني إعادة تفعيل العقوبات الدولية على إيران، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى انهيار الاتفاق تماماً، باعتبار أن إيران في هذه الحالة سوف تجد أنه لم يعد يتضمن أية مزايا يمكن الحصول عليها عبر الالتزام بالعمل بمقتضاه.لكنّ ثمة مساراً آخر قد تتجه إليه تلك الأزمة، وهو التفاوض لإنجاز صفقة جديدة تعود بمقتضاها الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاتفاق، وتعود إيران إلى الالتزام بتعهداتها فيه. وقد بدأت إيران بالفعل في توجيه رسائل مباشرة وغير مباشرة إلى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تفيد بأنها مستعدة للانخراط في مفاوضات جديدة يمكن أن تنتهي بإبرام مثل تلك الصفقة، وبالتالي تحول دون الوصول إلى الخيارات الأصعب وهو حلول "يوم النهاية" أو تفعيل آلية "الزناد".وفي كلا المسارين، ترى باريس أنه من الأجدى العمل على تسوية ملف المعتقلين قبل حلول أي منهما، إذ إن تصاعد حدة التوتر مع إيران في حالة الوصول إلى "يوم النهاية" أو تفعيل آلية "الزناد"، والذي قد يصل إلى مرحلة استخدام الخيار العسكري، سوف يفرض مزيداً من الصعوبات على إنجاز صفقة مع إيران في هذا الملف، في حين أنه في حالة الوصول إلى صفقة نووية، فإن ذلك سوف يعزز من موقع إيران مجدداً، وبالتالي يضع أيضاً مزيداً من العقبات أمام إنجاز هذا الملف.4- ضغوط داخلية عقب إفراج طهران عن معتقلة إيطالية: تمكنت إيطاليا، في 8 يناير 2025، من الوصول إلى صفقة مع إيران للإفراج عن الصحفية تشيشيليا سالا التي اعتقلتها السلطات الإيرانية في ديسمبر 2024. وقضت الصفقة بامتناع روما عن تسليم الإيراني محمد عابديني الذي اعتقلته السلطات الإيطالية بناءً على طلب أمريكي، إلى السلطات الأمريكية، بل والإفراج عنه وإعادته إلى إيران في منتصف يناير 2025. ويبدو أن هذه الصفقة قد أثارت حملة قوية ضد الحكومة الفرنسية، والرئيس ماكرون نفسه، خاصة في ظل الحساسية التي تتسم بها العلاقات بين إيطاليا وفرنسا، كما أن هذه الصفقة زادت من حدة ضغوط عائلات المعتقلين والمنظمات المعنية بهذا الملف على الحكومة الفرنسية من أجل اتخاذ الإجراءات التي يمكن أن تساعد في الإفراج عنهم.5- تراجع الرهان على تغيير "بزشكيان" سياسات إيران: مع وصول الرئيس مسعود بزشكيان إلى السلطة بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الإيرانية، عولت بعض الدول الغربية على عودة المعتدلين إلى السلطة من جديد من أجل تعزيز فرص الوصول إلى تسويات لبعض الملفات الخلافية العالقة مع إيران. وقد اعتبرت تلك الدول أن سماح النظام الإيراني بوصول رئيس ينتمي إلى تيار الإصلاحيين إلى رئاسة الجمهورية، وفوزه على بعض أقطاب تيار المحافظين الأصوليين المسيطر على معظم دوائر صنع القرار، يعني أنه يسعى إلى الانخراط في صفقات مع الدول الغربية وتقليص حدة الضغوط والعقوبات التي تتعرض لها إيران بسبب تفاقم الخلافات مع تلك الدول.وقد كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أوائل القادة الأوروبيين الذين سعوا إلى فتح قنوات تواصل مع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان. فقبل أن يقوم الأخير بتأدية اليمين الدستورية، أجرى الرئيس ماكرون أول اتصال هاتفي معه في يوليو 2024، هنأه فيه على فوزه بالانتخابات، وطالبه بإطلاق سراح المعتقلين باعتبار أن ذلك سوف يساهم في تحسين العلاقات بين فرنسا وإيران.لكن يبدو أن رهان فرنسا، وغيرها من الدول الغربية، على إمكانية اتجاه إيران إلى إجراء تغيير في سياستها الخارجية بعد وصول بزشكيان إلى منصب الرئيس، تراجع إلى حد كبير، بعد أن كشفت المواقف الإيرانية المختلفة إزاء الملفات الخلافية محدودية صلاحيات الرئيس في هذا الصدد وعدم قدرته على حسم أي من هذه الملفات دون الوصول إلى توافق مع القوى السياسية المناوئة له، أو الحصول على ضوء أخضر من جانب القيادة العليا ممثلة في المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي.ختاماً، ربما تعمل فرنسا خلال المرحلة القادمة على ممارسة ضغوط من أجل دفع الدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، إلى تبني سياسة أكثر شمولاً في إدارة الخلافات مع إيران، تقوم على ضرورة الوصول إلى تسويات للملفات الخلافية العالقة معها برمتها، وعدم التعويل فقط على إبرام صفقة خاصة بالبرنامج النووي. ففي رؤية باريس، فإنه إذا كانت هذه الصفقة سوف تفرض تداعيات إيجابية، ممثلة في تقييد الأنشطة النووية الإيرانية المثيرة للشكوك، فإنها في الوقت نفسه قد تنتج مفاعيل عكسية في ملفات خلافية أخرى مثل ملف المعتقلين والحضور الإقليمي. لكن نجاح فرنسا في هذا الصدد ما زال يواجه إشكاليات عديدة، منها عدم تبلور معالم السياسة التي سوف تتبعها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه إيران، وما إذا كانت ستفصل الملف النووي عن الملفات الخلافية الأخرى أو ستعمل على إبرام صفقة أكثر شمولاً، على نحو يضع فرنسا أمام خيار وحيد هو العمل على الوصول إلى تسوية لملف المعتقلين مع إيران عبر الاتصالات والتفاهمات الثنائية إلى حين اتضاح اتجاهات السياسة الأمريكية إزاء إيران.

لماذا صعّدت فرنسا خطابها تجاه إيران في الوقت الحالي؟