لعقود طويلة، اعتادت دول الاتحاد الأوروبي على إمدادات الطاقة المستقرة؛ إذ لم يكن هناك اهتمام كبير بامتلاك مولدات لدعم الطاقة لفترات طويلة في حال انقطاعها، غير أنه مع التحولات الجيوسياسية التي شهدتها المنطقة في الفترة الأخيرة، والموقف الأوروبي المناهض للتدخل الروسي في أوكرانيا، ومن قبل ذلك موقف بعض الدول الأوروبية الرافض لاستكمال خط أنابيب نورد ستريم2، وُضعت أوروبا تحت الضغط الروسي بورقة الغاز؛ ما ورط القارة في أزمة طاقة ممتدة منذ أوائل عام 2021.

وبوقف إمدادات الغاز عبر طريق الإمداد الرئيسي لأوروبا في أعقاب الصراع في أوكرانيا، زادت فرص حدوث نقص في الطاقة؛ ما أثار مؤخراً مخاوف بشأن مدى قدرة قطاع الاتصالات على الصمود، إذا أدت أزمة الطاقة مع دخول فصل الشتاء، إلى انقطاع التيار الكهربائي، ومن ثم الإضرار بالبنية التحتية للاتصالات، وتعطل أجزاء من شبكات الهاتف النقال في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي. ومما يفاقم تلك المخاوف، تصريح عدد من المديرين التنفيذيين في قطاع الاتصالات بأوروبا، بشأن عدم وجود أنظمة احتياطية كافية في العديد من الدول الأوروبية، للتعامل مع انقطاع التيار الكهربائي على نطاق واسع؛ ما قد يجبر الشركات على محاولة تخفيف آثار ذلك على البنية التحتية للاتصالات، بطرق مختلفة لتفادي المخاطر التي قد تنجم عن ذلك.

علاقة ترابطية

لأكثر من قرن من الزمان، استخدمت القارة الأوروبية الفحم وأنواع الوقود الأحفوري الأخرى لإنتاج الكهرباء في محطات توليد الطاقة، ومع الوقت اكتسبت الطاقة أهمية أكبر بكثير بسبب تغير المناخ واعتبارات الاستدامة، فيما زادت الحاجة إلى الطاقة بالنسبة إلى قطاع الاتصالات، في ظل ثورة التكنولوجيا وشبكات الجيل الخامس، وما تتطلبه من حركة هائلة في مرور البيانات، فضلاً عما يحتاجه من كهرباء للتمكن من تأسيس البنية التحتية اللازمة للبيانات، وهو الأمر الذي ضاعف الحاجة إلى استهلاك الطاقة بمعدل ضعفين إلى ثلاثة أضعاف.

ومن ثم، فإن أي مساس بالكهرباء وتعرضها للانقطاع، قد يلحق الكثير من الأضرار والمخاطر بقطاع الاتصالات، وقطاع التكنولوجيا كذلك، خاصةً أن أكثر من نصف حركة الإنترنت العالمية تتم من خلال ست شركات في وادي السيليكون؛ هي: جوجل وفيسبوك ونتفليكس وأبل وأمازون ومايكروسوفت.

جهود أوروبية

برغم امتلاك أوروبا ما يقرب من نصف مليون برج اتصالات، يوفر معظمها بطاريات احتياطية تدوم لنحو نصف ساعة، بما يسمح بتشغيل الهواتف النقالة، فإن ذلك وحده لا يكفي في حال التعرض لانقطاعات طويلة في التيار الكهربائي؛ لذا تتفاوض عدد من الحكومات الأوروبية مع الشركات وموزعي الطاقة لمنع انقطاع التيار الكهربائي عن الهواتف المحمولة أو على الأقل تقليل مدد الانقطاع الوارد حدوثها، فيما تحاول الشركات إيجاد حلول لضمان بقاء أبراج الاتصالات متصلة بالإنترنت لأطول فترة ممكنة. وفيما يأتي يمكننا إلقاء نظرة على هذه الجهود الأوروبية:

1- تفاوض حكومات أوروبية مع شركات الاتصالات: في إطار المخاوف الراهنة من تأثر قطاع الاتصالات الأوروبي بفعل أزمة الغاز، تتجه الحكومات الأوروبية إلى التفاوض مع شركات الاتصالات، لإيجاد حلول بشأن أزمة قطاع الاتصالات التي تلوح في الأفق؛ فمن ناحيةتحاول الحكومة الفرنسية التعاون مع شركات الاتصالات الموجودة بفرنسا، بحضور شركة إنديس لتوزيع الكهرباء (Enedis)، وهي كيان مرتبط بشركة الطاقة الفرنسية (EDF) التي تمتلك فيها الحكومة حصة الأغلبية.

وقد انعقد بشأن ذلك مفاوضات بين أطرافها خلال فصل الصيف من العام الجاري، وتم الاتفاق خلالها إذا انقطع التيار الكهربائي لترشيد الاستهلاك، على أن يكون الأمر بصورة متناوبة على أجزاء من الدولة فقط، فيما تظل الخدمات الأساسية في منأى عن انقطاع الكهرباء؛ حيث تمكنت شركة إنديس من عزل أقسام من الشبكة لتزويد العملاء ذوي الأولوية، كالمستشفيات والمنشآت الصناعية الرئيسية والجيش والحكومة. ويظل الأمر متروكاً للسلطات المحلية لإضافة البنية التحتية لشركات الاتصالات ضمن قائمة العملاء ذوي الأولوية.

وعلى الجانب الآخر، تعمل هيئة الاتصالات السويدية PTS مع مشغلي الاتصالات والوكالات الحكومية الأخرى لإيجاد حلول لأزمة الكهرباء. وفي إطار خلق حلول للأزمة، فإن هيئة الاتصالات السويدية تعمل حالياً على دعم شراء محطات وقود قابلة للنقل، ومحطات قاعدية متنقلة متصلة بالهواتف المحمولة؛ للتعامل مع انقطاع التيار الكهربائي الطويل، كما أفصحت شركة دويتشه تيليكوم الألمانية عن نيتها استخدام أنظمة طاقة طوارئ متنقلة تعتمد بشكل أساسي على الديزل في حالة انقطاع التيار الكهربائي لفترة طويلة.

2- دعوة الشركات إلى تقاسم تكاليف شبكة الإنترنت: ففي يوم 26 سبتمبر الماضي، وجه رؤساء أكبر شركات الاتصالات في أوروبا، بما في ذلك BT وVodafone وDeutsche Telekom، الدعوة لشركات التكنولوجيا مثل Netflix وAmazon، للمساهمة في تحمل بعض التكاليف الباهظة للبنية التحتية للاتصالات؛ وذلك انطلاقًا من كون أكثر من نصف حركة الإنترنت العالمية تتم من خلال ست شركات في وادي السيليكون؛ هي: جوجل وفيسبوك ونتفليكس وأبل وأمازون ومايكروسوفت.

في المقابل، تنفق شركات الاتصالات الأوروبية وحدها نحو 50 مليار يورو سنوياً تقريباً على بناء وصيانة شبكات النطاق العريض full-fibre broadband networks وشبكات الجيل الخامس. ومع احتدام أزمة الطاقة والتكاليف المرتفعة للمواد، تضاعف سعر كابل الألياف الضوئية خلال العام الجاري، وأضيف إلى العبء المالي الملقى على عاتق شركات الاتصالات وحدها.

3- اتخاذ تدابير جماعية لمعالجة ارتفاع أسعار الطاقة: توصل وزراء الطاقة في الاتحاد الأوروبي، في شهر سبتمبر الماضي، إلى اتفاق سياسي بشأن تنظيم التدخل الطارئ لمعالجة ارتفاع أسعار الكهرباء، تضمن مجموعة من الإجراءات الجماعية، على رأسها مكافحة الارتفاع الكبير في أسعار الغاز. ومن أجل خفض أسعار الكهرباء على المستهلكين، تم اقتراح تحصيل فائض الإيرادات من إنتاج الكهرباء، بجانب مساهمة تضامنية من فائض أرباح قطاعات الوقود الأحفوري، ليتم استخدامها في التخفيف من تأثير الأسعار المرتفعة على المستهلكين، وتقديم مزيد من الحماية لعملاء التجزئة للكهرباء.

وقد تبادل الوزراء الأوروبيون بشأن ذلك، الحديث حول خيارات إضافية للتخفيف من وطـأة الأسعار المرتفعة، في إشارة إلى الوحدة والتضامن في جهودهم المشتركة بغية تأمين إمدادات الطاقة وتنويع الموردين وتخفيف التقلبات المفرطة في الأسعار وخفض السعر الذي يدفعه العملاء المحليون، بالتوازي مع الاستمرار في تحول الطاقة.

4- ممارسة ضغوط على روسيا عبر فرض عقوبات: اقترحت المفوضية الأوروبية قائمة بالعناصر والشركات التي ستشملها حزمة عقوبات إضافية ضد روسيا على المدى البعيد؛ لزيادة الضغط على الاقتصاد الروسي مع احتدام الحرب في أوكرانيا وللرد على الضغط الروسي المقابل بورقة الغاز.

وقد تم تضمين قائمة شاملة من المنتجات، يبدو أنها مهيأة لخنق القدرة التصنيعية لروسيا؛ نظراً إلى كونها تمس جميع الأجزاء المتعلقة بأي نوع من المركبات، بما في ذلك السيارات والدراجات النارية والقطارات والسفن والطائرات والمركبات الفضائية، كالمحركات وآلات الاختبار وأشباه الموصلات، كما تم تغطية جميع أنواع منتجات الحديد والصلب والمعادن كالأنابيب والأسلاك، بالإضافة إلى وقود الديزل الحيوي والرصاص والفحم ومشتقات البترول، وهي جميع العناصر المستخدمة في جميع أنواع عمليات التصنيع.

تحديات إضافية

في الوقت الحالي، باتت أوروبا في حاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى قطاع اتصالات قوي ومستدام، خاصة في ظل التحديات الضخمة التي تواجهه، والتي لا تقتصر على نقص الطاقة ومخاطر انقطاع التيار الكهربائي فحسب، وهي التحديات التي نستعرض أبرزها فيما يأتي:

1- معضلة المراهنة على القطاع في تحقيق الأهداف الرقمية: تمثل صناعة الاتصالات أحد القطاعات الاستراتيجية في أوروبا، وأحد الأصول الرئيسية، كما تعد الاتصالات السلكية واللا سلكية هي الأعمال التكنولوجية الرائدة في أوروبا، التي تبلغ القيمة المضافة لشركاتها نحو 141.5 مليار يورو سنوياً. ويركز القطاع في الوقت الراهن على البنى التحتية التي تشكل أساس التحول الرقمي والأخضر، وتسريع الاعتماد التكنولوجي على الجيل الخامس والحوسبة المتطورة والسحابية والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والأمن السيبراني وغيرها، وهو بالطبع يحتاج المزيد من الطاقة التي تواجه نقصاً حالياً شديداً، ليصبح التحدي الرئيسي هو مدى قدرة القطاع على تحقيق أهداف أوروبا الرقمية والانتقال الأخضر خلال العقد الجاري، وسط عدم استقرار إمدادات الطاقة والكهرباء.

2- إشكالية هيكل سوق الاتصالات الأوروبية: يعاني قطاع الاتصالات الأوروبية من أزمة في هيكل السوق، ولعل مكمن الأزمة يتمثل في كون القطاع مجزأً للغاية على مستوى الدول الأعضاء، فلا تحكمه سياسات؛ هذا إضافة إلى استمرار نهج التنظيم الأوروبي المتمثل في تعزيز المنافسة الاصطناعية من خلال زيادة عدد اللاعبين في المجال، والمعاملة التفضيلية وغير المتكافئة لصالح الوافدين الجدد. ومع الوقت،أصبحت تجزئة سوق الاتصالات سائدة في الاتحاد الأوروبي، بسبب رفض التوحيد داخل السوق أو تطبيق إجراءات صارمة كشرط لعمليات الاندماج، للحفاظ على الأسعار وضبط عدد اللاعبين المسموح لهم بالمشاركة في السوق.

3- تقلص القدرات الاستثمارية لقطاع الاتصالات الأوروبي: حيث إن من عواقب أزمة هيكل سوق الاتصالات الأوروبية يتمثل في انخفاض القدرة التنافسية والاستثمارية لقطاع الاتصالات السلكية واللا سلكية، الذي يمثل مورداً استراتيجياً للاتحاد الأوروبي؛ ما أضحى يهدد قدرة القطاع على تلبية أهداف الاتحاد الأوروبي الرقمية والخضراء في الوقت المحدد له. ويعزو المستثمرون توقعات الإيرادات الانكماشية للقطاع والعائدات المنخفضة بمعدل مثير للإحباط، إلى افتقار المشغلين في أوروبا إلى حجم السوق مقارنة بنظرائهم في الولايات المتحدة.

4- إعادة توجيه الاستثمارات في قطاع الاتصالات الأوروبية إلى أسواق أخرى: انخفضت قيمة قطاع الاتصالات الأوروبي باطراد بسبب انخفاض الإيرادات وعوائد الاستثمار، على عكس مناطق أخرى كالولايات المتحدة. ومؤخراً، شهدت سوق الاتصالات تحولات كبيرة تمثلت في إعادة توجيه الاستثمارات بالفعل إلى أسواق أخرى؛ فعلى سبيل المثال، وفي نوفمبر من العام الماضي، تلقت شركة تيليكوم إيطاليا عرض استحواذ من شركة الأسهم الخاصة الأمريكية العملاقة KKR & Co، بهدف تجديد شركة الهاتف الإيطالية المتعثرة التي تخلت عن نصف قيمتها السوقية تقريباً في السنوات الخمس الماضية. ولعل مثل هذه الصفقات تسهم بدرجة كبيرة في تهديد وتدمير القدرات الاستثمارية في القطاع، بما يستلزم حتمية الحد من المخاطر العالية من جراء انخفاض رأس المال في ذلك المجال، وفقدان القدرة على المنافسة والاستقلالية الاستراتيجية، والسيادة الرقمية.

إجمالاً، فإنه في إطار التحديات الحالية التي تحدق بقطاع الاتصالات في أوروبا، وكذلك قطاع التكنولوجيا، وعلى رأسها مخاطر انقطاع الكهرباء، بفعل نقص الطاقة؛ فإن أوروبا تحتاج إلى خوض مسارات مختلفة، وعدم الاكتفاء بأن تكون رد فعل، أو متلقياً للأزمة؛ فربما يسهم تقنين استخدام الكهرباء وقطعها على فترات متقطعة، في توفير الطاقة، غير أنه يظل حلاً غير عملي؛ إذ يحتاج الأمر أولاً إلى تكييف إطار المنافسة، وتحسين المناخ الاستثماري في قطاع الاتصالات؛ ما من شأنه أن يخدم المستهلك بشكل أفضل؛ حيث ستوفر المنافسة المستدامة فرصة للاستثمار الفعال في البنية التحتية العالية الجودة، كما سيزيد من العوائد المتأتية من تعزيز الاستثمار في القطاع، وهو ما سيتيح للقطاع القدرة على الصمود وتحمل الأعباء عند تعرضه لكبوة أو خسائر تهدد وجوده.

ليس ذلك فحسب، بل السعي نحو تعزيز كفاءة طاقة الشبكة؛ وذلك من خلال زيادة استخدام مصادر الطاقة البديلة لتلبية أو تجاوز أهداف إزالة الكربون، التي من المفترض أن تتوسع في عصر سيادة شبكات الجيل الخامس، وهو ما يصب بشكل رئيسي لصالح تقليل الاعتماد على شبكة الطاقة الرئيسية. أضف إلى ذلك تحسين حمل الشبكة بما يساعد على تقليل استهلاك الطاقة.

هل ينهار قطاع الاتصالات نتيجة أزمة الطاقة في أوروبا؟