إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

بعد تهديد الرئيس المنتخب دونالد ترامب بإعادة السيطرة على قناة بنما، والحديث عن كندا كأنها الولاية رقم 51 للولايات المتحدة؛ حين أخبر ترامب سابقاً رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو أن بلاده يمكن أن تتجنب التعريفات الجمركية إذا أصبحت الولاية الحادية والخمسين في أمريكا، وكذلك احتمال غزو المكسيك؛ أحيا ترامب في الحادي والعشرين من الشهر الجاري أيضاً فكرةً طرَحها خلال ولايته الأولى في عام 2019؛ أنه يجب على الولايات المتحدة شراء جرينلاند، التي أصبحت منطقة استراتيجية ذات أهمية متزايدة مع فتح طرق التجارة في منطقة القطب الشمالي بسبب تغير المناخ.كتب ترامب على منصته الخاصة "تروث سوشيال": "لأغراض الأمن القومي والحرية في جميع أنحاء العالم، تشعر الولايات المتحدة الأمريكية بأن (امتلاك جرينلاند والسيطرة عليها ضرورة حتمية)". وقد سبق أن ألغى الرئيس المنتخب، خلال رئاسته الأولى، زيارة إلى الدنمارك بعد أن قال المسؤولون الدنماركيون إن جرينلاند ليست للبيع. وأشارت وكالة رويترز، في الثالث والعشرين من ديسمبر الجاري، إلى أن مستشاري الرئيس المنتخب ناقشوا خيارات مثل اتفاقية شراكة اقتصادية مع الجزيرة إذا أصبحت مستقلة عن الدنمارك.طموح ترامبيكمن وراء رغبة الرئيس المنتخب في السيطرة على إقليم جرينلاند، مجموعة من المكاسب الاستراتيجية والعسكرية والاقتصادية، وكذلك مكاسب على مستوى النفوذ الجيوسياسي للولايات المتحدة. ومن أبرز الأسباب التي تفسر إعادة طرح ترامب اقتراحه الذي قدمه خلال فترته الرئاسية الأولى لشراء الإقليم والسيطرة عليه، ما يلي:1– سوابق تاريخية لاهتمام الولايات المتحدة بشراء الإقليم: لم يكن إعلان الرئيس المنتخب دونالد ترامب، قبل توليه منصبه رسمياً في العشرين من يناير القادم، وخلال إدارته الأولى، عن فكرة شراء إقليم جرينلاند والسيطرة عليه هي المرة الأولى التي يحاول فيها مسؤول أمريكي شراء الجزيرة الجليدية؛ فقد حاول الرئيس السابق هاري ترومان أيضاً شراءها في عام 1946؛ حين عرض المسؤولون الأمريكيون على الدنمارك 100 مليون دولار على شكل سبائك ذهبية مقابل شراء جرينلاند. وكان المسؤولون الأمريكيون آنذاك ينظرون إليها على أنها ضرورة عسكرية، كما درس وزير خارجية أبراهام لينكولن "ويليام سيوارد" الفكرة في عام 1867.يؤكد هذا السياق التاريخي الاهتمام الأمريكي الطويل الأمد بالإقليم، الذي غالباً ما يُنظَر إليه على أنه ذو قيمة استراتيجية؛ بسبب موقعه الجغرافي وموارده. ويمكن تفسير تركيز الرئيس المنتخب المتجدد للحصول على الإقليم على أنه محاولة لإحياء الطموحات التاريخية المتعلقة بالتوسع الإقليمي والنفوذ العالمي للولايات المتحدة.2– إقليم ذو أهمية استراتيجية للولايات المتحدة: أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت الرئيس المنتخب دونالد ترامب يعرب عن اهتمامه بشراء جرينلاند والسيطرة عليها هو أهميتها العسكرية الاستراتيجية للولايات المتحدة؛ حيث تضم قاعدة ثول بيتوفيك الفضائية الأمريكية، وهي ذات أهمية استراتيجية لمهام الدفاع الصاروخي ومراقبة الفضاء، وفقاً لقوة الفضاء الأمريكية؛ حيث تضم رادار إنذار مبكر يُستخدم لاكتشاف الصواريخ الروسية، كما أنها تحتضن مساحات واسعة من الأراضي التي يمكن إجراء العديد من الأبحاث المحتملة عليها. وتاريخياً، شهدت الجزيرة مشاريع أمريكية سرية خلال الحرب الباردة، ومنها "مدينة الجليد"، التي هدفت إلى إنشاء مفاعل نووي تحت الجليد.وتعزيز الوجود العسكري الأمريكي في الإقليم يعزز الأمن القومي الأمريكي ضد التهديدات المحتملة من القوى المنافسة لها، وخاصةً روسيا والصين، اللتين تزيدان من وجودهما العسكري في منطقة القطب الشمالي. ومن ثم فإن السيطرة الأمريكية على جرينلاند تؤدي إلى ترسيخ موطئ قدم الجيش الأمريكي في القطب الشمالي، وليس ذلك فحسب، بل ستوفر أيضاً ميزة استراتيجية من حيث قدرات المراقبة والدفاع في مواجهة الخصوم الاستراتيجيين، في وقت تحوَّلت فيه منطقة القطب شمالي إلى منطقة تنافس استراتيجي بين القوى الثلاثة.3– امتلاك جرينلاند مصادر طبيعية متعددة: تشمل الموارد الطبيعية في الإقليم، الذهب والفضة والنحاس واليورانيوم، ويعتقد أن هناك احتياطيات كبيرة للنفط قبالة مياه الإقليم، بجانب العديد من المعادن الأرضية النادرة التي أضحت محل منافسة استراتيجية بين الولايات المتحدة والصين التي تسيطر عليها، وهي المعادن التي تعمل بكين على وقف تصديرها في وقتٍ تفرض فيه واشنطن المزيد من القيود على تصدير أشباه المواصلات إلى الصين لخنق صعودها التكنولوجي. وتنبع أهمية تلك المعادن في أنها تعد من المكونات الرئيسية للبطاريات ولكل شيء من الهواتف المحمولة إلى السيارات الكهربائية. ومن خلال الحصول على جرينلاند، يمكن لترامب تسهيل الوصول بسهولة إلى هذه الموارد، وتعزيز الميزة التنافسية للولايات المتحدة في الأسواق العالمية.4– تعزيز الوصول الأمريكي إلى القطب الشمالي: أضحت منطقة القطب الشمالي مع تغيرات المناخ منطقة تنافُس رئيسية بين الولايات المتحدة والصين وروسيا؛ لأهميتها الاستراتيجية، ولا سيما احتياطاتها الهائلة المحتملة من النفط والغاز والمعادن. وتهتم بكين وموسكو بالممرات البحرية الجديدة التي يتم إنشاؤها عن طريق ذوبان الجليد؛ لأسباب تجارية واستراتيجية على حد سواء. وسيسمح الاستحواذ على جرينلاند للولايات المتحدة بممارسة تأثير أكبر في القطب الشمالي. ويهدف ترامب إلى السيطرة على جرينلاند لتأمين المصالح الأمريكية ضد الدول المتنافسة التي تعمل بنشاط على توسيع نفوذها في منطقة القطب الشمالي، ولا سيما بكين وموسكو؛ فمن شأن السيطرة على جرينلاند أن تسمح للولايات المتحدة بتأمين ممرات الشحن المستقبلية بمنطقة القطب الشمالي ضد التهديدات المحتملة من الدول المتنافسة؛ ما يضمن المرور الآمن للسفن التجارية الأمريكية.5– مواجهة النفوذ الصيني المتزايد في جرينلاند: من المتوقع أن تتبنى إدارة الرئيس المنتخب سياسات من شأنها تقويض القوة الصينية والنفوذ الصيني المتزايد حول العالم، وهو التهديد الذي يمثل تحدياً استراتيجياً للولايات المتحدة داخلياً وخارجياً. وقد تكون هذه المقاربة أحد الأهداف الرئيسية لرغبة ترامب في السيطرة على إقليم جرينلاند؛ حيث إنه في السنوات الأخيرة، أعربت بكين عن اهتمامها بالاستثمار في مشاريع البنية التحتية في جرينلاند؛ ما أثار مخاوف داخل الولايات المتحدة بشأن فقدان الأرض الاستراتيجية في القطب الشمالي لصالح قوة منافسة. ومن خلال السعي وراء السيطرة على الإقليم، يهدف ترامب إلى تخفيف هذا الخطر، وضمان أن تظل المصالح الأمريكية ذات أهمية قصوى في منطقة تتزايد فيها التوترات الجيوسياسية بين واشنطن وبكين.6– إبراز النفوذ الأمريكي على المستوى العالمي: بينما ترى العديد من التحليلات أن إدارة دونالد ترامب الثانية ستكون بمنزلة تأكيد لتراجع القوة الأمريكية عالمياً، ولا سيما مع تبني الإدارة الأمريكية مقاربة "أمريكا أولاً"، فإن السيطرة الأمريكية على جرينلاند قد تحمل رسالة رمزية بشأن قوة الولايات المتحدة كقوة عظمى في النظام الدولي. وبالنسبة إلى ترامب، الذي غالباً ما تعامل مع العلاقات الدولية بعقلية تشبه عقلية رجل الأعمال، فإن السيطرة على مثل هذه المنطقة الشاسعة يمكن أن تكون شهادة على القوة والنفوذ الأمريكيَّين، وتتماشى هذه الرغبة في الاستحواذ مع روايته الأوسع لاستعادة العظمة الأمريكية وتعزيز مكانة الولايات المتحدة كقائد عالمي.تداعيات محتملةإن الاهتمام المتجدد للرئيس المنتخب دونالد ترامب بالحصول على جرينلاند، له تداعيات جيوسياسية واقتصادية متعددة، ويتمثل أبرزها فيما يلي:1– توتر علاقات الولايات المتحدة مع الدنمارك: أعاد إصرار الرئيس المنتخب ترامب على شراء جرينلاند إشعال التوترات بين الولايات المتحدة والدنمارك؛ حيث قوبلت تعليقات ترامب بمقاومة قوية من المسؤولين الدنماركيين، ومنهم رئيس وزراء جرينلاند موتي إيجيدي الذي أعلن أن الجزيرة ليست للبيع؛ وذلك رداً على تصريحات للرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بشأن امتلاك الجزيرة الشاسعة التابعة للدنمارك منذ أكثر من 600 عام. وأردف إيجيدي: "جرينلاند ملكنا. ونحن لسنا للبيع، ولن نكون كذلك أبداً. يجب ألا نخسر نضالنا الطويل من أجل الحرية".وقد يؤدي تكرار ترامب تصريحاته حول الشراء والسيطرة على الإقليم إلى توتير العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والدنمارك، التي قد تنظر إلى نهج ترامب على أنه عدم احترام لسيادتها وسلامتها الإقليمية؛ ما قد يؤدي إلى إعادة تقييم التعاون الثنائي بين البلدين.2– زيادة الدنمارك الإنفاق الدفاعي في جرينلاند: في أعقاب إعلان الرئيس المنتخب عن رغبته في شراء الإقليم والسيطرة عليه، أعلن وزير الدفاع الدنماركي ترويلس لوند بولسن، في الرابع والعشرين من ديسمبر الجاري، عن خطة لزيادة الإنفاق الدفاعي في جرينلاند يصل إلى "عشرات المليارات" من الكرونة الدنماركية؛ أي ما لا يقل عن 1.5 مليار دولار؛ بهدف تعزيز الحضور الدنماركي في الإقليم.3– احتدام المنافسة على موارد القطب الشمالي: مع استمرار تغير المناخ في فتح طرق شحن جديدة والوصول إلى الموارد الطبيعية في القطب الشمالي، قد تُكثِّف طموحات ترامب للسيطرة على إقليم جرينلاند المنافسة بين القوى الدولية في منطقة القطب الشمالي. ولا يتعلق اهتمام واشنطن بجرينلاند بالتوسع الإقليمي فحسب، بل ينطوي أيضاً على تأمين الوصول إلى المعادن الأرضية النادرة واحتياطيات النفط الحاسمة لاحتياجات التكنولوجيا والطاقة. ويمكن أن تؤدي هذه المنافسة إلى نزاعات حول حقوق استغلال الموارد والمخاوف البيئية في منطقةٍ تواجه بالفعل تحديات بيئية.4– دفع الدنمارك نحو توطيد علاقاتها بروسيا والصين: في الوقت الذي يسعى فيه ترامب إلى تشكيل تحالف دولي لمواجهة النفوذ الصيني والروسي المتزايد من الحلفاء، فإن من المرجح أن تثير تعليقات ترامب غضب الدنمارك وأن تؤثر سلباً – كما سبق الذكر – على العلاقات الأمريكية–الدنماركية؛ الأمر الذي قد تنظر إليه روسيا والصين على أنه فرصة لزيادة نفوذهما في القطب الشمالي من خلال دعم المشاعر المناهضة للولايات المتحدة، أو من خلال تعزيز العلاقات مع الدنمارك وجرينلاند. ويمكن لتصريحات ترامب أن تعيد تشكيل التحالفات والشراكات في منطقة أضحت محوراً للتنافس المتنامي بين القوى الدولية.في الختام، أعاد الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، في سلسلة من التصريحات التي أثارت الجدل، فتح ملف توسيع نفوذ الولايات المتحدة جغرافياً، من خلال اقتراحات مثيرة، تشمل ضم كندا كولاية أمريكية جديدة، والاستحواذ على جرينلاند التابعة للدنمارك، واستعادة السيطرة على قناة بنما التي سلمتها الولايات المتحدة في 1999، مقارناً تلك الطموحات بشراء لويزيانا أو صفقة ألاسكا.

لماذا يسعى ترامب إلى السيطرة على إقليم جرينلاند؟