د. مصطفى شفيق علام


        
<p><strong>على الرغم من أن ميزان القوى العسكري بين روسيا وأوكرانيا يبدو مائلاً بشدة تجاه موسكو وريثة الاتحاد السوفييتي السابق وصاحبة ثاني أقوى جيش في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، ضد أوكرانيا التي تأتي في المرتبة الـ22 عالميّاً من حيث قوة الجيش، وفقاً لتقديرات </strong><strong>Global Firepower</strong><strong> لعام 2022؛ فإن نتائج الأيام الأولى للحرب الروسية في أوكرانيا كشفت عن تبني أوكرانيا نموذجاً فعالاً للمقاومة الشرسة عبر تكتيكات "حروب المدن"، يبدو أنها قد أربكت حسابات موسكو التي ربما اعتبرت أن جارتها الشيوعية السابقة وشريكتها في الإرث النووي السوفييتي، ستكون لقمة سائغة أمام جحافلها العسكرية المدججة بالأسلحة الروسية المتطورة، وأن أهدافها المتصورة من الغزو ستكون قريبة المنال بين عشية وضحاها، بما قد يفسره البعض على أنه "غرور القوة" الغازية أمام "صمود المقاومة" الوطنية؛ الأمر الذي يثير التساؤل بشأن أدوات أوكرانيا لإدارة معركتها غير المتكافئة نظريّاً، ضد القوات الروسية المغيرة على عمق إقليمها الجغرافي.</strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">امتصاص مرن</span></strong></p>



<div style="height:12px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>يمكن تناول أبرز أدوات أوكرانيا في إدارة المعركة العسكرية ضد القوات الروسية الغارية عبر تفعيل تكتيكات "حروب المدن" بهدف الامتصاص المرن للهجمات الروسية الشرسة، على مدار الأيام الأولى للعملية العسكرية؛ وذلك على النحو التالي:</strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– تبني نموذج القيادة الوطنية الصامدة ضد الغزو: </strong>على الرغم من خلفيته غير العسكرية، بل غير السياسية من الأساس، باعتبار أنه كان ممثلاً كوميديّاً قبيل انتخابه رئيساً للبلاد، في عام 2019، فإن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، استطاع أن يلهم شعبه قائدًا يرفض الهروب من ساحة المعركة بحثاً عن أمنه الشخصي؛ وذلك منذ الساعات الأولى لبدء الغزو الروسي لأوكرانيا؛ حيث ظهر الرئيس الأوكراني في فيديو نشره، في 25 فبراير 2022، وسط مجموعة من مرافقيه في قلب العاصمة كييف معلناً بقاءه وإصراره على مقاومة الهجوم الروسي على بلاده. وفي اليوم التالي رفض الرئيس "زيلينسكي" عرضاً أمريكيّاً بالمساعدة على مغادرته كييف، حرصاً على سلامته الشخصية، حسب صحيفة نيويورك تايمز، نقلاً عن مسؤولين أمريكيين وأوكرانيين أكدوا أن الولايات المتحدة أبدت استعدادها لمساعدة "زيلينسكي" على مغادرة كييف؛ كي لا يقع في أيدي القوات الروسية، لكنه رفض ذلك مؤكداً أنه باقٍ على رأس عمله.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– التعبئة العامة وحشد الشعب خلف القيادة الصامدة: </strong>بعدتقديم القدوة الشخصية للشعب بإعلان الصمود وعدم الهروب من المعركة، اتبع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، استراتيجية عاجلة لتعبئة الشعب لمواجهة الغزو الروسي؛ ففي وقت تخوض فيه القوات الأوكرانية معارك في العاصمة كييف لصد الجيش الروسي، دعا "زيلينسكي" الأوكرانيين إلى التعبئة وعدم الاستسلام، وإلى الدفاع عن بلادهم، قائلاً في مقطع فيديو: "أنا هنا. لن نسلم السلاح وسندافع عن بلادنا"، كما أصدر، في 25 فبراير 2022،&nbsp;مرسوماً بالتعبئة العامة واستدعاء جنود الاحتياط خلال تسعين يوماً في جميع المناطق الأوكرانية لمواجهة الغزو الروسي لبلاده.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>كما أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، عن تدشين "وحدات الدفاع الإقليمية"، وهي كيان للمتطوعين الأوكرانيين الراغبين في مساعدة قوات الجيش في عملياته القتالية لصد العدوان الروسي على بلادهم. وفي هذا الإطار، أعلن الرئيس الأوكراني أن جميع المواطنين الأوكرانيين الراغبين في حماية بلدهم سيكون بمقدورهم الحصول على الأسلحة اللازمة. وأضاف "زيلينسكي" أن "مستقبل أمتنا الأوكرانية يعتمد على كل مواطن. كل شخص لديه خبرة قتالية ويستطيع أن ينضم إلى الدفاع عن أوكرانيا يجب أن يتجه على الفور إلى مراكز التطوع المناسبة التابعة لوزارة الشؤون الداخلية". ويبدو أن أوكرانيا كانت بصدد تأهيل الشعب لمثل هذا السيناريو قبيل الغزو الروسي الفعلي للبلاد؛ حيث كشفت صحيفة "إندبندنت"، في نهاية يناير 2022، عن دراسة استقصائية أجراها معهد كييف الدولي لعلم الاجتماع أكدت أن 58% من الرجال و13% من النساء بأوكرانيا على استعداد للمشاركة المسلحة ضد أي غزو روسي.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– تدشين "فيلق دولي" لأصدقاء أوكرانيا من المتطوعين الأجانب: </strong>بجانب ذلك، ولاعتبارات الحشد الدولي لمساعدة أوكرانيا على حرب مدن قد تكون ممتدة، حال تراجع القوات النظامية أمام الغزو الروسي؛ أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في بيان نشره، في 27 فبراير 2022، أن "كل الأجانب الراغبين في الانضمام إلى المقاومة ضد المحتلين الروس، وحماية الأمن العالمي، مُرحَّب بهم من قبل القيادة الأوكرانية للحضور إلى دولتنا، والانضمام إلى صفوف قوات الدفاع الإقليمية"، مضيفاً أنه "يجري تشكيل وحدة منفصلة من الأجانب، يطلق عليها اللواء الدولي للدفاع عن أراضي أوكرانيا. ستكون هذه شهادة رئيسية على دعمكم لبلدنا"، مؤكداً أن "الأوكرانيين كانوا شجعاناً بما يكفي لمواجهة روسيا بمفردهم، لكن ما يحدث ليس مجرد غزو روسي لأوكرانيا، بل بداية حرب ضد أوروبا". وفي استجابة قد تدعم جهود "زيلينسكي" للاستعداد لحرب مدن ممتدة، قالت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس، إنها تدعم الأفراد من بريطانيا الذين قد يرغبون في الذهاب إلى أوكرانيا للانضمام إلى قوة دولية للقتال، وقالت إن الأمر متروك للناس "لاتخاذ قرارهم بأنفسهم"، وأضافت أنها معركة "من أجل الديمقراطية".</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4– تدريب المتطوعين الأوكرانيين على تكتيكات حروب المدن:</strong> وفقاً لصحيفة وول ستريت جورنال، عمدت الحكومة الأوكرانية إلى توزيع نحو 18000 بندقية على متطوعين في العاصمة كييف، بالتوازي مع بدء تدريب المتطوعين على تكتيكات حروب الشوارع والمدن والمناطق الحضرية، ليكونوا بصدد الاستعداد لمجابهة أي توغل روسي ممتد في المدن الأوكرانية. وحسب الخبير العسكري جون سبنسر رئيس قسم دراسات الحرب الحضرية بمعهد "ويست بوينت للحرب الحديثة"؛ فإن "القتال في المناطق الحضرية هو جحيم لأي جندي؛ حيث يتطلب الأمر 5 مهاجمين مقابل مدافع واحد، كما أن هناك حاجة إلى قدر هائل من القوات والذخيرة لكي تنجح القوات المهاجمة في حروب المدن، وستكون الدبابات وناقلات الجند المدرعة مطلوبة لحماية القوات التي تنتقل من منزل إلى منزل"، وهو أمر من الصعوبة بمكان؛ ما جعل بعض الخبراء يشبهون حروب المدن بـ"الإسفنج" الذي يمتص قدرات أي قوات نظامية مهما بلغ حجمها وتسليحها.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وكحالة عملية قريبة على الصعيد الزمني، فقد احتاجت معركة الموصل، في عام 2016، من قوات الأمن العراقية نحو 100 ألف جندي لإخراج نحو 5 آلاف من الميليشيات غير النظامية، و9 أشهر كاملة للقيام بتلك المهمة، كما أن اصطدام قوات نظامية بتضاريس حضرية عادةً ما يوقع ضحايا وخسائر لدى القوات المهاجمة أكثر من أي بيئة أخرى قتالية أخرى.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>5– توظيف الأسلحة التقليدية الخاصة بحروب الميليشيات:</strong> وفقاً لمحللين استخباريين ومسؤولين بالبنتاجون، فإن أوكرانيا نجحت في إعاقة تقدم القوات الروسية نحو كييف والمدن الكبرى من خلال توظيف ذكي لأسلحة وتكتيكات حروب الميليشيات التقليدية، التي أثبتت نجاحها في حالات صراعية تاريخية مشابهة. وتأتي صواريخ "ستينجر Stinger" المضادة للطائرات و"جافلين Javelin" المضادة للمدرعات في مقدمة الأسلحة التقليدية التي توظفها أوكرانيا حاليّاً لدعم مقاومتها الشعبية ضد الغزو الروسي. وفي هذا الإطار، أعلنت واشنطن، في 26 فبراير 2022، إرسال مساعدات عسكرية جديدة إلى أوكرانيا تصل قيمتها إلى 350 مليون دولار. وتضمنت حزمة المساعدات الأمريكية لأوكرانيا صواريخ جافلين المضادة للدروع، فيما أعلنت هولندا تسليم أوكرانيا 200 صاروخ ستينجر مضاد للطائرات، كما أكدت بلجيكا أنها زودت كييف بألفي مدفع رشاش، فيما أعلنت فرنسا تسليم أوكرانيا معدات دفاعية إضافية. ويرى محللون أن تزويد الغرب لأوكرانيا بالأسلحة المستخدمة بالأساس في حروب الميليشيات داخل المدن، من شأنه أن يساعد كييف على تقوية مقاومتها الشعبية وعرقلة تقدم موسكو، وتكبيد الروس المزيد من الخسائر البشرية والمادية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>6– قطع الطرق وتدمير الجسور لإعاقة تقدم القوات الروسية:</strong> عمدت المقاومة الأوكرانية إلى اتباع تكتيكات حروب المدن التقليدية، من قبيل قطع الطرق وتفجير الجسور الحيوية؛ لمنع وإعاقة تقدم القوات الروسية نحو المدن الأوكرانية، وقد اعترفت وزارة الدفاع الروسية بدور هذه الوسائل في عرقلة العملية العسكرية في أوكرانيا، لكنها خلطت ذلك الاعتراف ببعض الادعاءات للتغطية على فشلها في تحقيق أهدافها العسكرية في كييف، من قبيل الزعم بأن أوكرانيا تستخدم متطرفين قوميين لتفجير الجسور والقيام بعمليات انتحارية ضد القوات الروسية. وكشفت وزارة الدفاع الروسية، في بيان لها، أن "أوكرانيا تستخدم القوميين المتطرفين ممن خضعوا لتدريبات خاصة داخل الوحدات العسكرية النظامية للقوات الأوكرانية من قبل جهاز الأمن الأوكراني في المعارك العسكرية".</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">عامل الوقت</span></strong></p>



<div style="height:12px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>وختاماً، فإن مزج أوكرانيا بين استراتيجيات الحروب النظامية وحروب المدن، قد عرقل تقدم القوات الروسية داخل الأراضي الأوكرانية، على خلاف التوقعات الروسية والغربية في الساعات الأولى لاندلاع الحرب. وحسب تقديرات غربية، فإن القوات الروسية في أوكرانيا متأخرة كثيراً عن الجدول الزمني الذي وضعته موسكو للهجوم على أوكرانيا. وربما قد يفسِّر ذلك، بجانب عوامل أخرى، قبول روسيا عقد أولى جولات التفاوض مع أوكرانيا في 28 فبراير 2022، في بيلاروسيا، وهي المحادثات المباشرة الأولى بين الجانبين منذ قرار الرئيس الروسي بغزو أوكرانيا في 24 فبراير، وهي المحادثات التي تتزامن مع احتدام القتال وسط مقاومة أوكرانية كبيرة ضد تقدم القوات الروسية.</strong></p>

      

كيف تتعامل أوكرانيا ميدانيّاً مع العملية العسكرية الروسية؟