د. حمدي بشير

أعلن الرئيس الإيفواري، الحسن واتارا، في 31 ديسمبر 2024، تسليم القاعدة العسكرية الفرنسية في أبيدجان في يناير 2025، إذ قال الحسن واتارا في خطابه: "يمكننا أن نفخر بجيشنا الذي أصبح تحديثه فعالاً الآن. وفي هذا الإطار قررنا الانسحاب المنسق والمنظم للقوات الفرنسية من ساحل العاج". وقال: "وهكذا، سيتم تسليم معسكر كتيبة المشاة البحرية في بورت بويه (بلدية في أبيدجان)، إلى القوات المسلحة لساحل العاج اعتباراً من شهر يناير 2025". وهو ما يطرح تساؤلات حول دوافع إعلان واتارا عن انسحاب القوات الفرنسية من أبيدجان في هذا التوقيت، وتأثير الانسحاب الفرنسي على مستقبل العلاقات الفرنسية – الإيفوارية.عوامل عديدة ثمة جملة من الأسباب التي تقف وراء إعلان الرئيس واتارا عن تسليم القاعدة العسكرية الفرنسية في هذا التوقيت، ومن أبرزها:1- بدء الدعاية الانتخابية للرئيس "واتارا": حيث يأتي هذا التطور قبل أشهر قليلة من عقد الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في أكتوبر 2025، والتي وعد الرئيس واتارا بأن تكون سلمية وشفافة وديمقراطية. ويبدو أن رئيس الدولة الإيفواري، البالغ من العمر 83 عاماً، والذي لم يكشف بعد عن نواياه بشأن الترشح المحتمل لولاية رابعة، يريد أن يترك بصمته على تحول العلاقات الفرنسية الإيفوارية، وبالتالي الاستجابة للتطلعات المتزايدة لبلاده. وإذا كانت الانتخابات الرئاسية في أكتوبر لا تزال بعيدة، فإن المشهد السياسي الإيفواري يركز بالكامل على هذا الموعد النهائي، بين معارك الطموحات والتكهنات بشأن الترشح المحتمل للرئيس المنتهية ولايته.وسيدعم حزب التقدم والاشتراكية ترشيح الرئيس الحسن واتارا في الانتخابات الرئاسية وسيروج لبرنامجه، وسيقاتل من أجله، حسبما أعلن رئيس الحزب كاكو ماتياس، خلال مؤتمر صحفي يوم 27 ديسمبر 2024. وأعلن حزب التقدم والاشتراكية رسمياً دعمه لترشيح الحسن واتارا. وخلال مؤتمر صحفي قدر رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، كاكو ماتياس، أن الاستمرارية فقط تحت قيادة رئيس الدولة الحالي هي التي يمكن أن تضمن استقرار وتنمية البلاد.2- مخاوف "واتارا" من سيناريو الانقلاب العسكري: إذ يخشى واتارا من انقلاب المؤسسة العسكرية على نظام حكمه على نحو ما حدث في دول الساحل الأفريقي (مالي، وبوركينافاسو، والنيجر)، لذلك يحاول واتارا تهدئة الأوضاع داخل المؤسسة العسكرية؛ حيث أكد واتارا في خطابه أنه ستتم إعادة تسمية معسكر أبيدجان العسكري تكريماً للجنرال واتارا توماس داوينا، أول رئيس أركان للجيش الإيفواري، مما يرمز إلى الرغبة في تأكيد السيادة العسكرية الوطنية. وأكد الرئيس واتارا، مسلطاً الضوء على القدرات المتنامية للقوات المسلحة الإيفوارية: "يمكننا أن نفخر بجيشنا الذي أصبح تحديثه فعالاً الآن".3- تفادي تصاعد المشاعر المعادية للوجود الفرنسي: يأتي إعلان الرئيس الإيفواري، الحسن واتارا، عن تسليم القاعدة الفرنسية للقوات الإيفوارية بعد أشهر قليلة من احتفال الإيفواريين بمرور عشرين عاماً على أحد أكثر الفصول دموية في العلاقات الفرنسية-الإيفوارية، فقبل عقدين من الزمان، أطلق الجيش الفرنسي النار على المدنيين في الدولة الواقعة في غرب أفريقيا أثناء الاحتجاجات، ولا تزال هذه الذكرى عالقة في أذهان الإيفواريين الذين يطالبون بالعدالة.ومع تصاعد المشاعر المعادية للفرنسيين في المنطقة؛ فإن ساحل العاج ليست بمعزل عن هذه التطورات الإقليمية التي يمكن أن تمتد إليها؛ حيث تتراجع ثقة الأفارقة في المبادرات الأمنية الفرنسية، بعد سلسلة من الانسحابات العسكرية المتتالية من مالي وساحل العاج وبوركينافاسو، ولم يتبقَّ لفرنسا سوى قاعدتها العسكرية في الجابون وجيبوتي، لذلك أكد "واتارا" على الهدف المشروع المتمثل في استعادة السيادة. وكان هذا هو السبب الذي قدمته السنغال، وهي شريك آخر لباريس منذ فترة طويلة، عندما قررت السلطة التنفيذية هناك في نوفمبر طلب رحيل القوات الفرنسية.4- خفض التوتر مع دول الساحل الأفريقي: حيث كان لافتاً تصاعد التوتر بين ساحل العاج ودول الساحل الأفريقي، وخاصة بعد تصاعد التوتر بين هذه الدول وفرنسا، بينما كانت دول الساحل تنظر إلى "الحسن واتارا" باعتباره رجل فرنسا في المنطقة، وقد وجه رئيس المجلس العسكري النيجري الجنرال "عبد الرحمن تياني"، في 6 أغسطس 2024، اتهامات إلى ساحل العاج بالتعاون مع المخابرات الفرنسية لتنفيذ عمليات تخريبية داخل البلاد. وأعلن رئيس المجلس العسكري النيجري عن اجتماع سري لتدريب حوالي مائة عميل تخريبي في المعسكر العسكري الفرنسي الشهير (بيما 43)، في الفترة ما بين 2 أكتوبر و15 نوفمبر 2024.واتهمت الحكومة النيجرية القوات الإيفوارية، مثل الحرس الجمهوري والقوات الخاصة، بالمشاركة في تدريب العناصر النيجرية "الهاربة"، وهو ما أثار ردود فعل قوية من جانب المجلس العسكري النيجري الذي اتهم أبيدجان بخدمة المصالح الغربية، وخاصة فرنسا. بينما اتهمت بوركينافاسو ومالي أبيدجان بالتواطؤ مع فرنسا لزعزعة استقرار حكومتيهما. وفي يوليو 2023، اعتقل المجلس العسكري المالي 49 جندياً من ساحل العاج متهمين بأنهم مرتزقة تم إرسالهم لزعزعة استقرار مالي. وعلى الرغم من إطلاق سراح هؤلاء الجنود بعد ستة أشهر من المفاوضات، إلا أن الحادثة تركت علامات عميقة في العلاقات بين ساحل العاج وجيرانها في منطقة الساحل. وفي 11 يوليو، اتهم النقيب إبراهيم تراوري، القائد العسكري البوركيني، أبيدجان علناً بالتعاون مع فرنسا في مؤامرة لزعزعة استقرار بلاده.ثلاثة سيناريوهاتمن المتوقع أن يؤدي سحب فرنسا قواتها من القاعدة العسكرية في ساحل العاج إلى تداعيات عديدة على مستقبل العلاقات الفرنسية - الإيفوارية، وفي هذا السياق يمكن توقع ثلاثة سيناريوهات لمستقبل العلاقات بين البلدين، وذلك على النحو التالي:1- تصاعد التوتر والقطيعة التامة: ويعني هذا السيناريو أن العلاقات العسكرية الإيفوارية-الفرنسية سوف تتجه في نفس مسار العلاقات الفرنسية مع دول الساحل، بشكل يساعد في زيادة التقارب بين روسيا وساحل العاج؛ حيث رحبت وزارة الخارجية الروسية بالانسحاب الوشيك للقوات الفرنسية من ساحل العاج، قائلة إن ذلك يشير إلى نهاية الحاجة إلى ما يسمى بالدعم الخارجي للبلاد.وبحسب موسكو فإن هذا التطور دليل على أن القوات الفرنسية المتمركزة في ساحل العاج لم تعد ضرورية. لذلك، من المتوقع أن تعمل روسيا على طرح مقاربة عسكرية وأمنية لاستمالة ساحل العاج على نحو ما فعلت موسكو في منطقة الساحل، وهو ما يتوقع معه تصاعد التوتر في العلاقات الفرنسية-الإيفوارية.2- التعاون العسكري والأمني المحدود: ويعني هذا السيناريو أن فرنسا سوف تُبقي على وجود محدود لها في ساحل العاج؛ حيث يشير مراقبون إلى أن فرنسا تهدف إلى خفض حاد في أعدادها العسكرية في جميع قواعدها في أفريقيا باستثناء جيبوتي، وسيبقى 350 عسكرياً فقط في أفريقيا كوجود دائم في الجابون، ومن المفترض أن يخفض هذا العدد في نهاية المطاف إلى 100، و1500 في جيبوتي. وهذا لا يعني أن فرنسا ستخفض بالضرورة تعاونها العسكري، بل ستستجيب للاحتياجات التي عبرت عنها الدول، وتوفير تدريب أكثر تحديداً في مجال مراقبة المجال الجوي أو الطائرات بدون طيار وغيرها من الطائرات. لذلك يتوقع أن تحمل فرنسا إعادة صياغة علاقاتها العسكرية والأمنية مع ساحل العاج.3- تعزيز باريس التعاون الاقتصادي مع ساحل العاج: وخاصة في ظل التنافس الاقتصادي بين الشركات الفرنسية والصينية في غرب أفريقيا، وتُعتبر ساحل العاج شريكاً تجارياً رئيسياً لفرنسا داخل الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا (UEMOA)، وتظل فرنسا المستثمر الرئيسي في هذا البلد. ويبلغ متوسط ​​الاستثمار الأجنبي المباشر من فرنسا أكثر من 160 مليون يورو سنوياً. وقد جددت باريس رغبتها في بناء شراكات متوازنة مع الدول الأفريقية، تقوم على الاحترام المتبادل ولصالح جميع البلدان.وإجمالاً، يمكن القول إن سحب فرنسا بعض قواتها من ساحل العاج لا يعني بالضرورة القطيعة أو التوتر بين باريس أو أبيدجان، ولكن في الواقع هو محاولة من الدولتين لاحتواء التوترات والانتقادات الإقليمية والأفريقية لسياسة الوجود العسكري الفرنسي في ساحل العاج، والسيناريو المتوقع والمرجح أن تُبقي باريس على وجود عسكري محدود في ساحل العاج في سياق ضبط سياستها الأمنية في المنطقة، وبما يساعد على تجاوز الانتقادات والمشاعر المعادية لسياستها في ساحل العاج وتجنب تكرار سيناريو ما حدث في منطقة الساحل الأفريقي، ويعزز من هيمنة حليفها "الحسن واتارا" على الوضع داخل المؤسسة العسكرية، ويعزز من فرص فوزه في الانتخابات الرئاسية في أكتوبر 2025.

ما دلالات الإعلان عن انسحاب القوات الفرنسية من كوت ديفوار في 2025؟