د. يوسف داوود


        
<p><strong>لا تنحصر مشاركة فرنسا في قمة بغداد للتعاون والشراكة في الأهداف التلقائية والمعلنة من قبل الرئيس الفرنسي ماكرون، وعلى رأسها الاستمرار في الحرب ضد داعش ودعم استقرار وتنمية العراق؛ ولكنها أيضًا تمتد لتشمل بعض الاعتبارات الاستراتيجية الأخرى الهامة، مثل محاولة ملء الفراغ الذي تركه الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، بالإضافة إلى الحفاظ على دورها الريادي في أي ترتيبات مستقبلية قد تتعلق بإيران، فضلًا عن استغلال الجهود الدولية لمراقبة السلوك التركي لرصد مناطق التوافق ومناطق التوتر بينهما، وأخيرًا قد تلعب الاعتبارات الداخلية داخل المجتمع الفرنسي دورًا في تشجيع مساندة الأقليات والفئات المستضعفة، وهو ما يفسر زيارة الرئيس ماكرون أربيل بعد انتهاء فعاليات المؤتمر.</strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>وقد كان للعراق -تقليديًا- شركاء استراتيجيون متمثلون في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، لكن باريس لعبت أيضًا دورًا رئيسيًا في العديد من المراحل الهامة في التاريخ العراقي، حيث عملت فرنسا مع نظام صدام حسين في الثمانينيات من القرن الماضي في مجال مبيعات السلاح وتطوير معامل التكنولوجيا النووية، واستمرت في لعب دور رئيسي في البلاد. هذا، وتعتبر المشاركة الفرنسية في قمة بغداد للتعاون والشراكة هي المرة الثانية هذا العام التي يزور فيها الرئيس الفرنسي العراق، حيث يشارك الإليزيه مع بغداد في تنظيم قمة إقليمية تجمع قادة بعض الدول العربية إضافة إلى إيران وتركيا لبحث القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">نافذة فرصة</span></strong></p>



<p><strong>مثلّ المؤتمر فرصة لباريس لاستعادة دورها في مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط، ودعم جهود تحقيق الاستقرار في البلاد على حد قول الصحافة الفرنسية. هذا، ويعتبر الرئيس ماكرون هو الرئيس الوحيد من خارج إقليم الشرق الأوسط بمفهومه الواسع الذي يشارك في هذا المؤتمر، وذلك إلى جانب قادة كل من مصر، والسعودية، والإمارات، والكويت، وقطر، والأردن، وتركيا، وإيران، بالإضافة إلى الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة التعاون الإسلامي. وفي هذا الصدد، يمكن تناول أسباب تصاعُد الأهمية الاستراتيجية للعراق بالنسبة لفرنسا، وذلك على النحو التالي:</strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1-</strong> <strong>ملء الفراغ الذي تركه الانسحاب من أفغانستان</strong>: تدرك الدول الأوروبية أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ما هو إلا بداية لسياسة انسحاب عامة من المنطقة في سبيل إيلاء الاهتمام للصين. لذلك، فإن الرئيس ماكرون أكد على أن القوات الفرنسية ستظل باقية في العراق حتى ولو قرر الأمريكان سحب قواتهم منها، في رسالة واضحة لتصاعد الأهمية الاستراتيجية للعراق بالنسبة لفرنسا. في السياق ذاته، ترى باريس أنها الدولة الوحيدة القادرة على الحديث مع كل اللاعبين الإقليميين بشكل مؤثر وذلك على عكس الولايات المتحدة التي تتحفظ تجاهها الحكومات بشكل كبير، وهي محاولة واضحة لملء الفراغ الاستراتيجي الذي قد يولده الانسحاب الأمريكي من المنطقة. هذا، ومن المستبعد أن يكون هذا التغلغل التدريجي قد تم بمعزل عن تنسيق ومباحثات بين القيادتين السياسيتين في واشنطن وباريس، والدليل على ذلك هو عدم إقدام باريس على هذه الخطوة إلا بعد تنفيذ الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وليس بمجرد الإعلان عنه.</p>



<p>يضاف إلى ما سبق أن هذا الانخراط الفرنسي -على اعتبار أن الرئيس ماكرون هو القائد السياسي الوحيد الذي حضر المؤتمر من خارج الإقليم- لم يتم بالشكل المكثف في دول أخرى تمر بأزمات كبيرة ومعروفة بخضوعها للنفوذ الفرنسي تقليديًا مثل لبنان على سبيل المثال، وذلك لأن الساحة العراقية أصبحت منكشفة وعرضة للتجاذبات الاستراتيجية، وسيكون الطرف الأكثر تأثيرًا هو الطرف الأكثر انخراطًا في مرحلة الفراغ، وهذا ليس الحال بالنسبة للبنان مثلًا المستقر بها النفوذ الفرنسي.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2-</strong> <strong>الارتباط العضوي بين فرنسا وجهود مكافحة الإرهاب</strong>: لا ترتبط فقط الأهمية المتصاعدة للعراق بالنسبة لفرنسا بالأهداف الاستراتيجية التي رسمتها باريس لنفسها في المنطقة؛ لكن بتغير الصورة الذهنية عن نفسها مع تغير التحديات الدولية. ففرنسا التي كانت عرضة لأكبر موجة من الهجمات الإرهابية في أوروبا خلال أعوام 2017 – 2019، قد وضعت لنفسها هدف مكافحة الإرهاب الإسلاموي الذي دق ناقوس الخطر في المجتمع الفرنسي. فبخلاف القوانين المحلية التي أصدرها الرئيس الفرنسي ماكرون المتعلقة بالتطرف الإسلاموي، وفرض الرقابة الصارمة على المنابر والتعليم الديني وتجريم مظاهر الفصل الديني في المجتمع الفرنسي؛ فإن العراق يمثل فرصة ذهبية لتأصيل هذه الصورة الذهنية في المنطقة المصدرة لهذا النوع من الإرهاب.</p>



<p>وقد تمت زيارات ولقاءات عديدة بين الرئيس الفرنسي والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من أجل وضع خطة لتحجيم حركة تنظيم داعش في المنطقة، ومن ضمن ركائزها دعم استقرار وتنمية العراق حتى لا يكون مرتعًا للإرهابيين. في السياق ذاته، ذكر الرئيس الفرنسي صراحة أنهم يعلمون أنه يجب ألا يخفضوا حذرهم في هذه المنطقة المضطربة، وذك لأن داعش لا يزال يمثل تهديدًا، وفرنسا تعلم أن محاربة هذه الجماعات الإرهابية هي من أولويات الحكومة العراقية والفرنسية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3- تأكيد الحضور في أي مبادرة مستقبلية تتعلق بإيران</strong>: تحتفظ فرنسا بدور رائد فيما يتعلق بالمباحثات الدولية والإقليمية المتعلقة بالملف النووي الإيراني ودورها في الإقليم، حيث قادت بنشاط جهود الدول الأوروبية الثلاث E3 (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا) من أجل التوصل للاتفاق النووي الإيراني، ثم محاولة التهدئة من أجل إعادة إحياء الاتفاق الذي انسحبت منه الولايات المتحدة بشكل أحادي في مايو 2018. من هنا، ونظرًا لأن مصطفى الكاظمي رئيس وزراء العراق يسعى لإيجاد دور فاعل للعراق في تقريب وجهات النظر بين فرقاء الإقليم -على وجه الخصوص إيران والسعودية- فإن ماكرون كان حريصًا على الانخراط في هذه الجهود بشكل فعال منذ مهدها، وذلك لعدم سحب بساط الريادة في هذا الملف من باريس.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4- تقوية الجبهة المقاومة للتحركات التركية في المنطقة</strong>: يهم فرنسا -شأنها شأن العديد من الدول العربية وعلى رأسها مصر- أن تنخرط دول عديدة في مجال مكافحة الإسلام السياسي كنوع من أنواع تطويق تركيا ومطامعها في المنطقة. فلا يخفى على أحد أن العلاقات بين باريس وتركيا لا تزال متوترة منذ تعدي السفن التركية على المياه الإقليمية اليونانية والقبرصية، وإيوائها عناصرَ من الإخوان المسلمين حتى الآن، فضلًا عن انتقاداتها المتكررة للاتحاد الأوروبي الذي تُعتبر فرنسا وألمانيا حجر الزاوية به. لذلك، فإن محاولة العراق لتقريب وجهات النظر ومشاركة وزير خارجية تركيا في المؤتمر، هي فرصة للقيادة الفرنسية لمصارحة تركيا والضغط عليها في مباحثات ذات طابع إقليمي عن طريق دولة تعاني الأمرّين من رعاية الإرهاب واستنزاف الموارد.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>5- الضغط الداخلي لمساندة الأقليات المهمشة</strong>: لا يرتبط صعود الاهتمام الفرنسي بالعراق باعتبارات جيوسياسية فحسب، بل يرتبط أيضًا ببعض العوامل الداخلية المرتبطة بالحراك الاجتماعي في المجتمع الفرنسي. فخلال الشهر الماضي شهد البرلمان الفرنسي انتقادات بعض النواب من الحزب الاشتراكي الفرنسي اليساري للحكومة الحالية بعدم مناصرتها لقضايا الأقليات كما اعتادت فرنسا أن تفعل. وقد يفسر هذا حرص ماكرون على زيارة أربيل بعد انتهاء المؤتمر والتي تعتبر عاصمة إقليم كردستان العراق حيث تتركز الأقلية الكردية هناك.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>الخلاصة، إن كانت فرنسا تحاول أن تملأ فراغًا استراتيجيًا محتملًا تركته الولايات المتحدة في المنطقة، وإن كان الرئيس ماكرون قد أكد على بقاء القوات الفرنسية التي تحارب داعش في العراق أيًا كان القرار الأمريكي؛ فإنه من المستبعد أن تكون الخطوات الفرنسية سالفة الذكر قد تمت بمعزل تام عن واشنطن. كما أن مشاركة فرنسا في قمة بغداد وإن جاءت تلبية لدعوة رئيس الوزراء العراقي؛ إلا أن وقوع الاختيار على فرنسا ربما كان نتيجة لجهود فرنسية سابقة وتفاهمات خاصة واستثنائية دفعت بها باريس خلال الأشهر الماضية تحسبًا لانسحاب أمريكي فعلي من أفغانستان. وهو ما نجحت باريس في استشرافه والاستفادة منه، خاصة في ظل الانسحاب غير المنظم من أفغانستان، والصورة السلبية التي ترسخت أكثر في أذهان الحكومات العربية عن الإدارة الأمريكية. ولعل العراق هو أقرب نقطة تأثير ممكنة على الواقع في أفغانستان، أخذًا في الحسبان عدم إمكانية بناء تفاهمات أو عقد تحالفات استراتيجية مع الجار المباشر لها، ألا وهو إيران.</p>

      

لماذا شاركت فرنسا في قمة بغداد للتعاون والشراكة؟