إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

مع اقتراب وصول الرئيس الأمريكي المنتخب "دونالد ترامب" إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2025، تزايدت الدعوات داخل إيران من أجل إجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية حول الملفات الخلافية المختلفة؛ إذ قال "علي عبد العلي زاده" المستشار الخاص للرئيس الإيراني، الذي كان يتولى منصب رئيس الحملة الانتخابية للأخير، في 31 ديسمبر 2024، إن القيادة الإيرانية وصلت إلى قناعة بضرورة التفاوض المباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية، مضيفاً: "لا يمكن ترك قضايا البلاد معلقة؛ لذا نحن في حاجة إلى سياسة خارجية جديدة. يجب أن نتحدث بشرف وندافع عن المصالح الوطنية".وتوازى ذلك مع إعلان "كاظم غريب آبادي" نائب وزير الخارجية، في أول يناير 2025، عن إجراء محادثات جديدة بين إيران والدول الأوروبية في جنيف، في 13 يناير 2025، بشأن البرنامج النووي، كما توافقت الدعوات مع إعلان الرئيس "مسعود بزشكيان"، في 31 ديسمبر 2024، عن إعادة عرض الانضمام إلى مجموعة "فاتف" لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب على مجلس تشخيص مصلحة النظام من أجل إقرارها مجدداً.دوافع عديدةيمكن تفسير تزايد الدعوات داخل إيران لإجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية في ضوء دوافع عديدة، يتمثل أبرزها في:1– تجنب سياسة "الضغوط القصوى" من قبل "ترامب": تُدرك إيران أن وصول الرئيس الأمريكي المنتخب "دونالد ترامب" إلى البيت الأبيض معناه إعادة تفعيل سياسة "الضغوط القصوى" التي كان يتبناها خلال ولايته الرئاسية الأولى. ومن دون شك، فإن هذه السياسة سوف تُضاعِف حجم الضغوط التي تتعرض لها إيران حالياً، خاصةً أنها لم تنجح في احتواء الأزمات التي أسفرت عنها العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية، في عهد "ترامب"، في 7 أغسطس 2018، بعد أن انسحبت من الاتفاق النووي في 8 مايو من العام نفسه؛ فقد وصل سعر الدولار في السوق السوداء في إيران إلى أكثر من 67 ألف تومان، وهو مستوى قياسي يشير إلى ارتفاع مستوى التضخم داخل إيران.كما أن عودة ظاهرة انقطاع الكهرباء في فصل الشتاء في دولة غنية بمصادر الطاقة، تُوحي بمدى الانهيار الذي وصلت إليه البنية التحتية الإيرانية نتيجة عجز الشركات الإيرانية عن ملء الفراغ الذي نتج عن انسحاب الشركات الأجنبية من الاستثمار في إيران؛ تجنباً للتعرض للعقوبات الأمريكية.2– عدم قدرة إيران على الرهان على القوى الدولية الداعمة: لا تستطيع إيران، خلال المرحلة الحالية، الرهان على موقف القوى الدولية الداعمة لها، لا سيما روسيا؛ إذ إن الأخيرة ما زالت منشغلة بإدارة الحرب في أوكرانيا ومواجهة الضغوط التي تفرضها الدول الغربية ضدها. ويبدو أن الزيارة الأخيرة التي أجراها وزير الخارجية الإيراني "عباس عراقجي" إلى الصين، في 28 ديسمبر 2024، والتقى خلالها نظيره الصيني "وانج يي"، قد تضمنت رسالة من بكين إلى طهران بضرورة الوصول إلى تسوية للخلافات العالقة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، لا سيما حول البرنامج النووي، خاصةً أن الظروف الدولية الحالية تختلف إلى حد كبير عن تلك التي كانت قائمة خلال الفترة الرئاسية الأولى للرئيس "ترامب".ومن دون شك، فإن إيران ما زالت تضع في اعتبارها أن كلاً من الصين وروسيا تبنَّتا مواقف لم تتسامح مع حساباتها ومصالحها في بعض الملفات، على غرار دعمهما المقاربة التي تتبعها الإمارات إزاء قضية الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة من قِبل إيران، والتي تقضي بحلها إما عبر التفاوض المباشر أو من خلال التحكيم الدولي، فضلاً عن أن إيران باتت تتبنى رؤية تقوم على أن روسيا لا تفضل وصولها إلى صفقة نووية جديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ لأنها في حاجة إلى أن تكون إيران دائماً على خلاف مع الدول الغربية، خاصةً أنها لا تفضل أن تكون هناك علاقات قوية بين الأخيرة وبين دولة أخرى تقع بالقرب من حدودها.3– احتمال اتجاه الدول الغربية لتفعيل "آلية الزناد": لم تَعُد إيران تستبعد أن تتجه الدول الغربية إلى تفعيل ما تُسمَّى "آلية الزناد" Snapback، التي تعني أن تقوم بتقديم شكوى إلى مجلس الأمن الدولي بسبب تقاعس إيران عن تنفيذ التزاماتها في الاتفاق النووي، على نحو سوف يؤدي إلى بدء عملية من المداولات داخل المجلس قد تستغرق شهراً وتنتهي بتفعيل العقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليها وتم تعليقها فقط بمقتضى الاتفاق النووي؛ حيث لن يسمح للصين وروسيا في هذه الحالة باستخدام حق الفيتو لمنع ذلك.وبالطبع، فإن هذا الخيار يبدو كارثياً بالنسبة إلى إيران، التي لم تَعُد لديها القدرة على تحمُّل تلك العقوبات، التي ربما تؤدي إلى تقليص قدرتها على تصدير مزيد من النفط إلى الخارج؛ حيث وصلت صادراتها النفطية في الفترة الماضية إلى نحو 1.5 مليون برميل نفط يومياً، وقد استطاعت الوصول إلى هذا المستوى عبر الالتفاف على العقوبات الأمريكية، والوصول إلى تفاهمات مسقط مع إدارة الرئيس المنتهية ولايته "جو بايدن"، التي كانت تقضي بالتغاضي عن تهريب النفط مقابل عدم رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى أكثر من 60%.هنا فإن إيران تخشى أن يسعى الرئيس "ترامب" أولاً إلى إنهاء هذه التفاهمات التي عادت إلى الواجهة خلال زيارة وزير الخارجية العُماني "بدر البوسعيدي" إلى طهران، في 30 ديسمبر 2024، وثانياً إلى ممارسة ضغوط على الصين –التي يعادل النفط الإيراني 10% من وارداتها النفطية– من أجل التوقف عن استيراد مزيد من النفط الإيراني خلال المرحلة القادمة.4– الحيلولة دون استخدام الخيار العسكري ضد إيران: يبدو أن القيادة العليا في طهران، ممثلة في المرشد الأعلى للجمهورية "علي خامنئي"، قد توصلت إلى قناعة تفيد بأن إيران لم تَعُد بعيدة عن التعرض لضربة عسكرية واسعة النطاق، ربما تكون أكثر تأثيراً من الهجومَين اللذَين سبق أن شنتهما إسرائيل داخل إيران في 19 أبريل و26 أكتوبر 2024، أو الاضطرار إلى خوض حرب مباشرة، سواء مع الولايات المتحدة الأمريكية أو مع إسرائيل.وفي رؤية القيادة الإيرانية، فإن هذا الخيار هو أسوأ الخيارات التي كانت تتوقعها وتسعى إلى تجنبها باستمرار، باعتبار أنه سوف يفرض عواقب وخيمة عليها، أمنياً واستراتيجياً وعسكرياً. وهنا، يمكن القول إن ثمة متغيرين يمكن أن يعززا إمكانية استخدام هذا الخيار: الأول هو التراجع الشديد في الحضور الإقليمي الإيراني الذي كان يضاعف الكلفة التي يمكن أن تتكبدها أي دولة ربما تفكر في استخدام هذا الخيار ضد إيران، حتى لو كانت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، في ظل القضاء على معظم القدرات العسكرية لحزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية، فضلاً عن سقوط نظام الرئيس السوري "بشار الأسد" في 8 ديسمبر 2024، وانتهاء النفوذ الإيراني في سوريا وبالقرب من إسرائيل.والثاني هو وصول الأنشطة النووية الإيرانية إلى مستوى غير مسبوق من الخطورة؛ فبحسب التقرير الأخير للوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 19 نوفمبر 2024، فإن كمية اليورانيوم التي أنتجتها إيران بنسب مختلفة وصلت إلى 6604.4 كيلوجرام، بما يعادل 32 ضعفَ ما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في 14 يوليو 2015. فضلاً عن وصول كمية اليورانيوم المخصب إلى نسبة 60% إلى 185 كيلوجراماً، وهي كمية تكفي –في حالة اتخاذ إيران قراراً سياسياً– لإنتاج 4 قنابل نووية.رسائل مزدوجةوختاماً، لم تستقر إيران بعدُ على الخيار الأخير الذي سوف تلجأ إليه، وربما تسعى إلى نفي تبني تلك الدعوات رسمياً رغم أنها استبقتها بتأكيد عدم تغيير ما تسمى "العقيدة النووية". لكن في النهاية، يمكن القول إنها تسعى إلى تصدير رسائل مزدوجة تفيد بأنها تقبل ولا تقبل التفاوض في الوقت نفسه، والهدف منها هو توسيع هامش الخيارات وحرية الحركة المتاحة أمامها قبل أن تلجأ إلى الجلوس على طاولة المفاوضات مع إدارة "ترامب".

ما دلالات تلويح قيادات إيرانية بالتفاوض مع واشنطن؟