كرم سعيد

جاء إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 22 نوفمبر 2024، عن مشروع إنشاء قاعدة فضائية في الصومال، بتكلفة استثمارية ضخمة، ليدشّن مرحلة جديدة لتحركات أنقرة في تلك الصناعة، وبما يعزز مكانة تركيا في سباق الفضاء العالمي. وتُتيح القاعدة المخطط إنشاؤها في الصومال إجراء تجارب الصواريخ الباليستية والصواريخ الفضائية، خاصةً أن الصومال تمتلك موقعاً استراتيجياً في شرق أفريقيا، بما يجعلها موقعاً مثالياً لإطلاق الصواريخ نحو المحيط الهندي. وتكمن الأهمية الكبرى للمشروع في أنه سوف يجعل تركيا ضمن القوى الكبرى التي تمتلك محطات وبرامج فضائية، حيث يأتي هذا المشروع في إطار استراتيجية تركيا لتوظيف قطاع الفضاء لدعم قدراتها ومكانتها الإقليمية والدولية.نشاط لافتشهد برنامج الفضاء التركي العديد من التطورات الرئيسية خلال السنوات الأخيرة، ويمكن بيانها على النحو الآتي: 1- إنشاء تركيا وكالة فضاء وطنية: أنشأت تركيا وكالة الفضاء الوطنية "TUA"، في عام 2018م، بهدف تعزيز الأنشطة الفضائية. كما تستهدف الوكالة تطوير برنامج فضائي شامل، يركز على تطوير الأقمار الصناعية، وقطاع البحوث الفضائية. وتُظهِر هذه الوكالة نية تركيا الجادة في أن تصبح لاعباً رئيسياً في صناعة الفضاء العالمية.2- التوسُّع في إطلاق الأقمار الصناعية: تواصل تركيا إطلاق وتشغيل الأقمار الصناعية لأغراض دعم البنية التحتية للبث والإنترنت، بالإضافة إلى دعم قطاع الاتصالات الفضائية الحديثة المتعددة، وكان آخرها إطلاق القمر الصناعي "تركسات 6 إيه" في يوليو 2024م، الذي تم تطويره وتصنيعه بالكامل داخل تركيا. ويُعتبر "تركسات 6" نقلة نوعية للتكنولوجيا الفضائية التركية، حيث تشمل مهامه اكتشاف التغيُّرات المناخية، وتطوير نظام تحديد الموقع الخاص بتركيا، وتقديم معلومات عن الأرصاد الجوية للفضاء والرصد الفلكي.ولم يكن هذا الإطلاق هو الأول من نوعه في مجال إطلاق الأقمار الصناعية، ففي ديسمبر 2021م، تمكنت تركيا من إطلاق أول قمر صناعي "تركسات 5 بي"، ضمن إطار برنامج الفضاء الوطني التركي الذي أعلن عنه الرئيس "رجب طيب أردوغان" في فبراير 2021م.3- دعم برنامج روّاد الفضاء التركي: يُعد البرنامج الفضائي التركي ضمن البرامج الإقليمية الطموحة، حيث تسعى تركيا إلى التوسُّع في إرسال رواد فضاء لدراسة القمر، باعتبار ذلك من الأهداف الطموحة لبرنامج الفضاء الوطني التركي. ونجحت أنقرة في إرسال أول رائد فضاء تركي إلى الفضاء، في 18/01/2024م، حيث انطلق "ألبير غزر أوجي" إلى محطة الفضاء الدولية ضمن مهمة "أكسيوم ميشن 3" (Ax-3). وتلقّى رائد الفضاء "ألبير غزر" مجموعة كبيرة من التدريبات، صُممت خصيصاً لأداء المهمات بأنواعها، في هيوستن بولاية تكساس الأمريكية، وبالتعاون مع شركة "أكسيوم سبيس" بالولايات المتحدة، لتوفير خدمات التدريب والطيران لـ"رائد الفضاء".وتستهدف الرحلة العمل على دراسات ستساهم في سجل العلوم، من السرطان إلى الخلايا المناعية، ومن الطحالب إلى العكبر "صمغ النحل". وبالتوازي مع ذلك، تعمل تركيا على توسيع حضورها في برامج رواد الفضاء خلال المرحلة المقبلة، حيث من المقرر، بحلول عام 2026م، إجراء أول وصول إلى القمر، وسيتم تنفيذ هذه العملية من قِبل شركة "tubitak awzay - توبيتاك أوزاي".4- توفير ميزانيات ضخمة للتطوير الفضائي: أعلنت تركيا في أكتوبر 2024م، عن زيادة الميزانية المخصصة لأبحاث الفضاء والطيران لتصل إلى أكثر من 5 مليارات و52 مليون ليرة تركية في عام 2025م، وهو ما يكشف عن عزم تركيا على تحقيق أهداف برنامجها الفضائي. كما تُشير العديد من التقديرات المحلية إلى أنه من المرجح أن تصل الميزانية المخصصة لمشاريع الفضاء بحلول عام 2027م إلى 7 مليارات ليرة، وذلك في إطار توجه تركيا لإنشاء مركز للبحث والتطوير لدعم تطوير تكنولوجيا الاندماج لأنظمة الدفع في دراسات الفضاء البعيد.5- التوسُّع في عقد الشراكات الإقليمية: أبدت تركيا حرصاً لافتاً على تعزيز الشراكات مع الدول الأخرى، وخاصةً تلك التي تمتلك خبرات متقدمة في مجال الفضاء. وظهر ذلك في ادعاء تحليلات تركية في نوفمبر 2024م، توجُّه أنقرة للشراكة مع الدولة في تمويل مشروع إنشاء محطة فضائية تركية في الصومال، والتي تحتاج بجانب الخبرة إلى موارد مالية كبيرة، حيث تُقدر تكلفتها بنحو 6 مليارات دولار. كما عززت تركيا تعاونها خلال الآونة الأخيرة مع أذربيجان والولايات المتحدة واليابان وروسيا والصين في مجال الفضاء من خلال توقيع عددٍ من الاتفاقيات ومذكرات التعاون.أهداف متنوعةثمة العديد من الدوافع التي تقف وراء تزايُد اهتمام تركيا بإنشاء محطة فضائية في الصومال، والتي يتمثل أبرزها فيما يلي: 1- دعم العلاقات الثنائية التركية-الصومالية: يرتبط توجُّه أنقرة لإنشاء قاعدة فضائية في الصومال بعدة اعتبارات، أهمها الرغبة في دعم وتطوير العلاقات الثنائية مع مقديشيو، خصوصاً بعد توقيع البلدين اتفاق الدفاع الأمني في 2024م، والذي ينص في جانب منه على التزام تركيا بتقديم دعم أمني بحري للصومال لمساعدتها في الدفاع عن مياهها الإقليمية. كما بدأت تركيا في مطلع نوفمبر 2024م أولى خطواتها للتنقيب عن مكامن الطاقة في الصومال. وتجدر الإشارة إلى أن تركيا تمتلك أكبر قاعدة عسكرية لها في الصومال منذ عام 2017م.2- استغلال الموقع الاستراتيجي الصومالي: تُعد الصومال موقعاً استراتيجياً مناسباً لتأسيس القاعدة الفضائية، فقربها من خط الاستواء يوفّر ميزة تنافسية في مجال إطلاق الصواريخ والأقمار الصناعية، حيث تقل الحاجة إلى الوقود بفضل استفادة الصواريخ من سرعة دوران الأرض. كما تمتلك الصومال مساحات شاسعة وغير مأهولة، مما يضمن أمان عمليات الإطلاق وتقليل المخاطر المرتبطة بالحطام الصاروخي، بالإضافة إلى أن الصومال تمثّل بيئة مثالية لإجراء اختبارات وإطلاق الصواريخ الباليستية.3- ترسيخ المكانة الإقليمية التركية في أفريقيا: يُعزز تنفيذ محطة فضائية في الصومال القوة الناعمة لتركيا في القارة الأفريقية، ويرسخ صورتها كدولة تمتلك أدوات وآليات متقدمة في تطبيقات المستقبل، ما ينعكس إيجابياً على الثقل السياسي الذي تتمتع به في أفريقيا. خاصةً في ظل اهتمام تركيا المتنامي بتدشين مشروعات بمجالات البنية التحتية، والتعليم، والصحة، بالإضافة إلى التعاون العسكري.4- تعزيز قدرات قطاع الصناعات الدفاعية: في القناعة التركية، فإن الوجود في الفضاء الخارجي سوف ينعكس إيجابياً على تعزيز وضع البلاد على الصعيد الجيوسياسي، حيث تلعب الأقمار الصناعية دوراً محورياً في تعزيز أنظمة الدفاع، خاصة الصواريخ الباليستية والطائرات المُسيرة التي تحتل تركيا موقعاً متقدماً في إنتاجها. وقد شعرت تركيا بالحاجة الماسة إلى تسريع مشاريعها الفضائية، خلال الآونة الأخيرة، مع تصاعد الصراعات الإقليمية، وتأثيرها على الأمن القومي التركي.5- تعظيم الاستفادة من اقتصاديات الفضاء: تهدف تركيا من وراء تأسيس أول محطة فضائية في الصومال إلى الحصول على حصة من اقتصاديات الفضاء، والتي تشهد نمواً عالمياً هائلاً في التوقيت الحالي، بفعل كثافة الاستثمار في تطوير الجيل الجديد من الأقمار الصناعية وإنشاء الموانئ الفضائية والأرصاد الجوية الفضائية.وتُشير بعض التقديرات إلى أن قيمة اقتصاد الفضاء العالمي تصل إلى نحو تريليون دولار ومرشحة للزيادة بحلول عام 2030م، ومن المتوقع أن تبلغ قيمته 2,7 تريليون دولار بحلول عام 2040م. ويمكن فهم حرص تركيا على زيادة قدرتها في صناعة وتقنيات الفضاء في إطار سعيها لتعظيم استفادتها الاقتصادية من ذلك القطاع، بالإضافة إلى الإمكانات الاقتصادية الكبيرة الخاصة بالتعدين الفضائي في المستقبل.6- الاهتمام بتطوير قطاع الاتصالات والإنترنت: تسعى تركيا من وراء تطوير قدراتها في مجال الفضاء إلى دعم طموحاتها في تطوير قطاع الاتصالات، وكذلك الاستشعار عن بُعد. وهو ما يفسّر اهتمام تركيا بإطلاق "Türksat 6A" الذي يُعد محطة تقوية فائقة القوة مصممة لتوفير خدمات اتصالات متقدمة. كما سبق هذه الخطوة إطلاق تركيا في الفترة من 2013م وحتى 2021م ثلاثة أقمار مُخصصة لخدمات الاتصال ونقل البيانات، ما ترك أثراً إيجابياً على الصناعات التقنية والاتصالات والإنترنت في تركيا.7- تحقيق الاستقلال التقني في مجال الفضاء: تنطلق تركيا في مجال علوم وتقنيات الفضاء من رؤية مركزية مفادها زيادة القدرات المحلية، وتحقيق الاستقلال التقني في مجال الفضاء، ومنافسة القوى العالمية الكبرى مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة وغيرها. ولذلك تُبدي تركيا حرصها على توفير البيئة المناسبة لتأسيس المنصة الفضائية في الصومال خلال المرحلة المقبلة.وفي الرؤية التركية، أصبح الاستقلال التكنولوجي، وبخاصة في علوم الفضاء، ضرورة ملحة للبلاد، في ظل التقدم الحاصل بقطاع الفضاء، وتوظيف الدول الكبرى لتقنيتها في علوم الفضاء من أجل التأثير على التحولات الإقليمية والعالمية، بالإضافة إلى تأثير الملفات الخلافية لتركيا مع عدد من القوى الإقليمية والدولية، وانعكاسات هذا التوتر على العلاقات المشتركة.تحديات ضاغطةوختاماً، تجدر الإشارة إلى أنه رغم توجُّه تركيا لتعظيم استثماراتها في قطاع الفضاء، من خلال بدء خطوات عملية لتأسيس قاعدة فضائية في الصومال، باعتبارها ستكون انعكاساً للمكانة الاستراتيجية لتركيا؛ إلا أن ثمة تحديات قد تُلقي بظلالها على مشروع المنصة التركية في الصومال، فبالإضافة إلى الصراعات الأفريقية المعقدة والمتشابكة وطويلة الأمد، فإن تركيا تعاني من نقص الخبرة في العديد من المجالات، بما في ذلك الهندسة والفيزياء وتحليل البيانات التي تمثل أولوية للتقدُّم في علوم الفضاء، بالإضافة إلى القيود التمويلية، خاصة في ظل معاناة الاقتصاد التركي من أزمات هيكلية مركبة.

لماذا تسعى تركيا نحو تأسيس محطة فضائية في الصومال؟