كرم سعيد

توجه المستشار الألماني أولاف شولتز إلى تركيا في 19 أكتوبر 2024. وتُعد تلك الزيارة هي الثانية له منذ توليه منصبه؛ فقد جاءت الزيارة الأولى في منتصف فبراير 2022. وشهدت هذه الزيارة التي تزامنت مع الذكرى المئوية لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، مُناقشة العديد من الملفات؛ فبالإضافة إلى التعاون الدفاعي، تُعتبر ألمانيا الشريك التجاري الأكثر أهميةً بالنسبة إلى تركيا، كما أنها أهم مستثمر أجنبي في البلاد، ناهيك عن وجود نحو ثلاثة ملايين تركي يعيشون في ألمانيا، كما امتدت المباحثات إلى القضايا الإقليمية الساخنة، وفي الصدارة منها الأزمة الأوكرانية، وتطورات الأوضاع في الشرق الأوسط، وخاصة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وجنوب لبنان، كما تناولت المحادثات بين أردوغان والمستشار الألماني قضايا الهجرة، خاصةً في ظل تململ أوروبا من تدفق عمليات الهجرة غير الشرعية.سياقات محفزةجاءت زيارة المستشار الألماني إلى تركيا في ظل سياقات إقليمية وثنائية ألقت بظلالها على العلاقة بين أنقرة وبرلين، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:1– تزايد اللقاءات الدبلوماسية بين تركيا وألمانيا: شهدت الشهور الماضية تحسناً ملحوظاً في العلاقات بين تركيا وألمانيا؛ إذ كثف الرئيس التركي جهوده الدبلوماسية لخفض التصعيد مع برلين، من خلال الزيارات واللقاءات المتبادلة مع السياسيين الألمان؛ حيث زار برلين في نوفمبر 2023 ويوليو 2024، كما التقى المستشار الألماني شولتز على هامش أعمال الدورة الـ79 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، في سبتمبر 2024. وناقش اللقاء إزالة القيود المفروضة على صادرات الأسلحة، وتعزيز التعاون الثنائي بين البلدين.2– موافقة برلين على صفقات دفاعية لتركيا: في الأسابيع الأخيرة، شهدت العلاقات بين أنقرة وبرلين نقلة نوعية إلى حد ما، بعد موافقة الأخيرة، في 10 أكتوبر 2024، على تمرير صفقة دفاعية مع تركيا هي الأولى من نوعها منذ عام 2019. وشملت الصفقة، التي صادق عليها المجلس الفيدرالي الأمني في برلين، توريد أسلحة ثقيلة، منها تسليم 28 طوربيداً من نوع "سي هيك"، ونحو 100 صاروخ موجه، فضلاً عن توريد معدات لتحديث غواصات من طراز "يو 209"، وقطع غيار لمحركات الكورفيتات والفرقاطات التابعة للبحرية التركية. وتُقدر قيمة الصفقة بنحو 368 مليون دولار.3– إعادة تقييم صفقة "يوروفايتر تايفون": تزامنت زيارة شولتز مع انفتاح ألماني بشأن الموافقة على منح تركيا 20 طائرة من طراز "يوروفايتر تايفون" التي تشترك في تصنيعها وتطويرها ألمانيا وبريطانيا المتحدة وإسبانيا وإيطاليا، وتعد واحدة من الطائرات المقاتلة المتعددة الأدوار والأكثر تقدماً. وعلى الرغم من موافقة الشركاء الثلاثة، فإن برلين أبدت اعتراضاً قوياً بسبب السياسات العسكرية التي انتهجتها تركيا في الإقليم، وبخاصة تجاه اليونان، بيد أنه في التوقيت الحالي، وبحسب مجلة "دير شبيجل"، بدأت ألمانيا تعيد النظر بشأن حصول تركيا على صفقة الــ"يوروفايتر"، التي تُقدر بنحو 5,6 مليار دولار. وقد اتخذت برلين هذا القرار، بحسب بعض التقديرات، نظراً إلى رغبتها منذ فترة في إعادة صياغة علاقاتها مع أنقرة ضمن إطار استراتيجي جديد. وتجدر الإشارة إلى أن وزير الخارجية التركي كان قد أكد، في تصريحات متلفزة في منتصف أكتوبر 2024، أن هناك إشارات إيجابية من الجانب الألماني لبدء المفاوضات الفنية حول مقاتلات "يوروفايتر تايفون". وتمثل صفقة يوروفايتر أولوية استراتيجية لتركيا، خاصة بعد استبعادها من برنامج مقاتلات إف–35 الأمريكية.4– خصوصية الدور التركي في الأزمة الأوكرانية: جاءت زيارة المستشار الألماني إلى تركيا في ظل قناعة برلين بخصوصية الدور التركي بشأن حل الأزمة الأوكرانية؛ إذ إن تركيا في الرؤية الألمانية لعبت دوراً أساسياً في إعادة تمكين إمدادات الحبوب الأوكرانية من الوصول إلى السوق العالمية عبر البحر الأسود، بالإضافة إلى دورها كمركز لإعادة تدفقات الطاقة في ظل استمرار العقوبات الغربية على قطاع النفط الروسي، كما تعي برلين الأهمية الاستراتيجية لدور وموقع تركيا في دعم الجهود الأوروبية لوقف الحرب الأوكرانية، خاصةً في ظل محاولات تقودها ألمانيا لتشكيل مجموعة اتصال دولية للبحث عن سبل لإنهاء الأزمة الأوكرانية.5– تطور التبادلات التجارية بين برلين وأنقرة: برغم الملفات الشائكة في العلاقات بين برلين وأنقرة، فإن حجم التجارة شهد تطوراً لافتاً؛ حيث وصل إلى 55 مليار دولار بنهاية النصف الأول من عام 2024. ويهدف البلدان إلى الارتقاء بحجم المبادلات إلى نحو 60 مليار دولار بنهاية عام 2024. وشهدت الأشهر الأخيرة تعاون البلدين في إنشاء مراكز إنتاج وسلاسل توريد جديدة، خاصةً مع مساعي الشركات العالمية للبحث عن أسواق موثوقة بعد تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط واستمرار الأزمة الأوكرانية. بالتوازي مع ذلك. وبحسب بيانات هيئة الإحصاء التركية، تحتل ألمانيا المركز الأول بين الدول التي تصدر إليها تركيا، كما يعمل في السوق التركية نحو 7250 شركة ألمانية، ناهيك عن توقيع البلدين مذكرة تفاهم بشأن إنتاج الهيدروجين الأخضر.6– ضبط ملف اللجوء والهجرة غير الشرعية: لا تنفصل زيارة شولتز إلى تركيا في التوقيت الحالي عن رغبة بلاده في دعم التعاون مع أنقرة لمعالجة الارتدادات السلبية التي أفرزتها عمليات اللجوء والهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، بالإضافة إلى رغبة ألمانيا في إقناع تركيا بعودة آلاف المواطنين الأتراك الذين رُفضت طلباتهم للجوء السياسي إلى ألمانيا. ووفقاً لبيانات الوكالة الأوروبية للجوء، وصل عدد طلبات اللجوء للمواطنين الأتراك إلى ألمانيا إلى أكثر من 28 ألفاً خلال النصف الأول من عام 2024، وهو رقم يوازي طلبات اللجوء التي تقدم بها الأتراك لدى دول الاتحاد الأوروبي جميعها في عام 2023. ويشار إلى أن ألمانيا باتت أكثر تشدداً تجاه ملف اللجوء، وهو ما تجلى في موافقة البرلمان الألماني في منتصف أكتوبر 2024 على الحد من المنافع الممنوحة لطالبي اللجوء.تحديات قائمةعلى الرغم من نجاحات زيارة شولتز في تفكيك جانب من القضايا الخلافية مع أنقرة، فإن ثمة تحديات تنعكس على مسار العلاقة بين البلدين، ويتمثل أبرزها فيما يلي:1– التوجهات العدائية الألمانية إزاء تركيا: يمكن الوقوف على أبرز تلك التوجهات من خلال الانتقادات الألمانية للأوضاع الحقوقية في الداخل التركي، ورفض ما تسميه الممارسات السلطوية للرئيس أردوغان، كما تجلى ذلك، على سبيل المثال، في الأزمة الدبلوماسية بين البلدين في يوليو 2024، على خلفية رفع لاعب تركي شعار "الذئاب الرمادية"، الذي يرمز إلى التيار القومي التركي المتشدد، خلال مباراة كرة قدم ضمن فعاليات بطولة أوروبا "يورو 2024"، وهو ما أثار غضب برلين؛ حيث استدعت الخارجية الألمانية السفير التركي في برلين. وتشي هذه التوجهات بأن ألمانيا تنظر إلى تركيا باعتبارها خصماً سياسياً برغم التعاون والمصالح المتقاطعة بين البلدين.2– احتمال صعود اليمين المتطرف في ألمانيا: وفقاً للعديد من التقديرات، فإن صعود اليمين المتطرف على الساحة الألمانية قد يشكل تحدياً جديداً في مسارات العلاقات بين برلين وأنقرة، خاصةً في ظل النظرة العدائية لليمين المتطرف نحو المهاجرين واللاجئين. وهنا، يمكن تفسير قلق الجالية التركية في ألمانيا من زيادة عدد الأصوات التي نالها حزب "البديل من أجل ألمانيا" المعادي للاجئين في الانتخابات الإقليمية التي أجريت في مطلع سبتمبر 2024. وتجدر الإشارة إلى أن حزب البديل يكثف ضغوطه في التوقيت الحالي على حكومة شولتز لإعادة آلاف المواطنين الأتراك الذين رُفضت طلباتهم للجوء السياسي إلى ألمانيا.3– تباين الرؤى في بعض الملفات الإقليمية: لا تقف التباينات السياسية بين أنقرة وبرلين عند حدود الأزمة الأوكرانية، خاصةً في ظل استمرار مطالب الأخيرة بضرورة انضمام تركيا إلى العقوبات الغربية على موسكو؛ إذ إن ثمة خلافات عميقة بشأن تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط، وخصوصاً الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة؛ فبينما ترى تركيا المقاومة الفلسطينية حركة تحرر وطني، تعتبر برلين "حماس" حركة إرهابية، ناهيك عن دعم برلين العسكري والسياسي لإسرائيل، وهو ما ساعد على ترسيخ الخلاف بين البلدين.4– معارضة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي: على الرغم من تلويح تركيا بالانضمام إلى مجموعة الـ"بريكس"، وترحيب الرئيس الروسي بالتصريحات التركية، فإن دول الاتحاد الأوروبي، وخاصة برلين، تُعارِض لحاق تركيا بعضوية الاتحاد، وهو ما ظهر مثلاً في رفض المستشار الألماني في يوليو 2023 محاولات الرئيس التركي ربط قضية انضمام السويد إلى حلف الناتو بانضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي. وتعتبر برلين أن أنقرة غير مؤهلة لعضوية الاتحاد، وما زالت بحاجة إلى مزيد من الإصلاحات السياسية.5– عدم الاستجابة لمطالب أنقرة بشأن الأكراد: يمثل ملف الأكراد إحدى الإشكاليات الرئيسية في العلاقة بين أنقرة وبرلين، بالنظر إلى الدعم الألماني للإدارة الذاتية الكردية شمال شرق سوريا، ورفضها العمليات العسكرية التركية في مناطق الشمال السوري ضد الأكراد. وبالتوازي، ترفض برلين مطالب تركية بشأن تمرير تعديلات دستورية وقانونية تحظر أنشطة الكيانات الكردية في الداخل الألماني، وهي الكيانات التي تصنفها أنقرة "إرهابية". وفي هذا السياق، شهدت علاقات أنقرة وبرلين مظاهر توتر على خلفية اتهامات باستضافة ألمانيا عناصر كردية، فضلاً عن سماح حكومات ولايات ألمانية من حين إلى آخر للأكراد المقيمين فيها بتنظيم تظاهرات ضد تركيا.تفكيك الخلافاتختاماً، يمكن القول إن زيارة المستشار الألماني إلى تركيا كشفت عن حرص بلاده على التمسك بمصالحها مع تركيا، والرغبة في توفير بيئة مواتية لتفكيك جانب من القضايا الخلافية مع تركيا، فضلاً عن دعم سياسة الحوار بين البلدين، وهو ما يعد أمراً ضرورياً في ظل السياقات الإقليمية والدولية المعقدة التي تؤثر على مصالح ونفوذ البلدين، بيد أن ذلك لا ينفي أن ثمة تحديات تؤثر على طبيعة العلاقة بين البلدين، وربما تعيق بناء علاقة أكثر استقراراً وتعاوناً.

ما أبعاد زيارة المستشار الألماني إلى تركيا؟