إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

نظمت الجزائر في الأول من نوفمبر 2024 استعراضاً عسكرياً غير مسبوق، ويعد الأول من نوعه منذ استقلال البلاد، وذلك بمناسبة الذكرى السبعين لثورة التحرير في مطلع نوفمبر 1954. ويُعتبر العرض في جانب منه استعراضاً للقوة من خلال تقديم صورة واضحة عن الأدوات الصلبة للدولة الجزائرية، وإظهار قدرة الجزائر على تأمين نفوذها الإقليمي والتصدي لأي تهديدات محتملة. وقد تم تنظيم الاستعراض العسكري في الواجهة البحرية للعاصمة، بمشاركة مختلف الأسلحة والقطاعات البرية والبحرية والجوية، كما تم خلاله الكشف عن جانب من ترسانة التسليح الحديثة المملوكة للجيش الجزائري.سمات رئيسيةتميز العرض العسكري الجزائري بمجموعة من السمات والخصائص، التي يمكن بيانها على النحو التالي:1- مشاركة كافة أفرع القوات المسلحة: شارك في هذا العرض العسكري، مختلف قوات الدفاع الوطني، وتجلى ذلك في انخراط الفرق العسكرية البحرية والبرية والجوية في الاستعراض. كما شهد العرض مشاركة أكثر من 100 طائرة مقاتلة، وطائرات مسيرة، ومئات الدبابات من المخزون الجزائري.2- الكشف عن امتلاك أسلحة جديدة: إلى جانب كشف الجزائر في افتتاح العرض العسكري الأخير عن موازنتها الدفاعية، والتي قُدرت بنحو 25 مليار دولار للعام المالي 2025، بزيادة قدرها نحو 3 ملايين دولار عن ميزانية العام 2024، أزاح الجيش الجزائري الستار عن جانب من قدراته العسكرية، حيث أظهر امتلاكه منظومة الصواريخ الباليستية "إسكندر E" الروسية، ويبلغ مدها 280 كم، وهي قادرة على "تدمير أهداف دقيقة ذات قيمة كبيرة".كما كشف عن حيازته منظومة الدفاع الصاروخية إس-300، إلى جانب الطائرات المسيرة "الجزائر 54". وكذلك تم استعراض منظومة صواريخ إس-300، وسرية من قاذفات الصواريخ "هاوتزر دي-30" إلى جانب منظومة مزودة بصواريخ "برق"، ومضادة للدبابات والمدرعات مختصة في تدمير الأهداف المعادية المتحركة بصورة دقيقة.3- حضور خارجي لافت في العرض: شهد العرض العسكري حضور رؤساء دول وحكومات وضيوف شرف من الخارج، منهم الرئيس التونسي، و"إبراهيم غالي" رئيس "الجمهورية العربية الصحراوية"، والرئيس الموريتاني "محمد ولد الغزواني"، ورئيس المجلس الرئاسي الليبي "محمد يونس المنفي"، وشخصيات عربية وإسلامية وأجنبية، بالإضافة إلى بعض ممثلي الدول الأجنبية في الجزائر، وذلك في محاولة للتأكيد على الأهمية الاستراتيجية للجزائر عالمياً وإقليمياً.سياقات ضاغطةجاء العرض العسكري الجزائري في ظل سياقات محلية وإقليمية غير مسبوقة، يتمثل أبرزها فيما يلي:1- تراجع دعم الخارج لمقاربة الجزائر في قضية الصحراء: جاء الاستعراض العسكري للجيش الجزائري في ظل تراجع لافت للمقاربة الجزائرية بخصوص قضية الصحراء الغربية مقابل دعم إقليمي ودولي بارز للطرح المغربي، وظهر ذلك في تأكيد الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" في خطابه أمام البرلمان المغربي نهاية أكتوبر 2024 على مقترح الحكم الذاتي لحل قضية الصحراء المغربية. كما انضمت فنلندا، في أغسطس 2024، رسمياً لمواقف دول الاتحاد الأوروبي، التي اعترفت بمغربية الصحراء، وبمبادرة الحكم الذاتي تحت سيادة المغرب.2- تصاعد سباق التسلح بين الجزائر والمغرب: يأتي الاستعراض العسكري للجيش الجزائري في ظل سباق تسلح متصاعد مع المملكة المغربية، وسعي البلدين لتعزيز قدراتهما العسكرية، خصوصاً مع استمرار القضايا الخلافية، ووصول التوتر بينهما إلى مستويات غير مسبوقة في الآونة الأخيرة.وفي ضوء ذلك، فإن استعراض الجزائر لتقنياتها العسكرية، جاء مرتبطاً بالرغبة في الرد على المغرب الذي وقع في 22 سبتمبر 2024 اتفاقية جديدة للتعاون العسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية، تضمنت موافقة "البنتاجون" على تزويد مقاتلات إف-16 المملوكة للمغرب بـ40 صاروخاً موجهاً من طراز AGM-154C JSOW. كما وقع المغرب اتفاقية دفاعية مع الهند في 27 سبتمبر 2024، تتضمن تأسيس شركة "تاتا" الهندية للصناعات الدفاعية مصنعاً هو الأول من نوعه في المغرب وأفريقيا لإنتاج المركبات العسكرية.3- تزايد الاضطرابات الأمنية الإقليمية: تزامن الاستعراض العسكري مع تصاعد الاضطرابات الأمنية في الحزام الإقليمي للجزائر، وظهر ذلك في تحركات قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير "خليفة حفتر" باتجاه الحدود الجزائرية في أغسطس 2024، بالإضافة إلى اقتراب الجيش المالي من الحدود مع الجزائر، ومحاولته اختراقها في إطار جهود مكافحة التنظيمات المسلحة. وقد أثارت هذه التحركات قلق الجزائر، خصوصاً أنها بحسب مراقبين كشفت عن إمكانية تهديد الأجهزة الأمنية في الجزائر.كما تتصاعد المخاوف الإقليمية للجزائر مع تطورات الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان، وذلك بفعل ارتداداتها السلبية على المنطقة، والتحولات الجيوسياسية التي قد تفرزها على الإقليم. وعلى ضوء ذلك، فإن هذا الاستعراض يشير في جانب منه إلى جاهزية الجيش لأداء مهامه الوطنية في الحفاظ على الأمن القومي، كما يعكس قدرته على تجسيد سياسة البلاد العسكرية، سواء كانت استراتيجية دفاعية أو ردعية أو هجومية.4- تنامي الاستقطاب في الداخل الجزائري: يأتي الاستعراض العسكري في ظل تنامي حالة الاستقطاب في الداخل الجزائري، والتي تعمقت بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة في سبتمبر 2024، على خلفية حالة من الجدل الواسع بشأن نتائجها، حيث لم يكن الفائز "عبد المجيد تبون" بمنأى عن الانتقادات والشكوك التي أحاطت بنتائج الاقتراع. كما تعاني الجزائر من تراجع لافت في مؤشرات الاقتصاد، حيث وصل معدل البطالة إلى نحو 13.1% بنهاية النصف الأول من العام 2024، بالإضافة إلى وصول التضخم إلى نحو 8%، ناهيك عن التراجع الحاصل في مستويات المعيشة بسبب الارتفاع في الأسعار.وبحسب&nbsp;تقرير الاستثمار العالمي 2024 الصادر عن منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "الأونكتاد"، انخفضت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الجزائر خلال السنوات الخمس الماضية، لتسجل في عام 2023 نحو 84 مليون دولار فقط. كما تشير توقعات البنك الدولي إلى احتمال تراجع نمو الناتج الإجمالي الحقيقي للجزائر بنهاية العام 2024 لتصل إلى 3.8% مقابل 3.1% بنهاية العام 2025. وعلى ضوء ذلك، فإن هذا الاستعراض يستهدف رفع معنويات المجتمع الجزائري، وتطوير الصورة الذهنية للقيادة السياسية.أهداف متنوعةسعت الجزائر من خلال الاستعراض العسكري الأخير في ذكرى ثورة نوفمبر إلى إيصال مجموعة من الرسائل، التي يمكن بيانها على النحو التالي: 1- تأكيد الزعامة العسكرية في المحيط الإقليمي: تواجه الجزائر، بحسب العديد من التقديرات، اتهامات بتراجع دورها الإقليمي، وتأزم دبلوماسيتها، الأمر الذي زاد من عزلتها على الساحة الإقليمية والدولية، ولذلك سعت الجزائر عبر هذا الاستعراض إلى إثبات زعامتها العسكرية في محيطها الإقليمي، وذلك من خلال إظهار حيازتها أنماطاً مختلفة من التسليح، فضلاً عن إثبات القدرة على تحشيد كافة الأفرع العسكرية، والتنسيق السريع فيما بينها، في توقيت واحد.2- تعزيز الحضور الجزائري في العمق الأفريقي: مع تصاعد الحديث عن تراجع حضور الجزائر في مناطق نفوذها التقليدي، وبخاصة في العمق الأفريقي، لمصلحة أدوار إقليمية ودولية أخرى، سعت الجزائر إلى توظيف الاستعراض العسكري للتأكيد على أنها رقم صعب في معادلة التوازنات الإقليمية، ولا يمكن تجاوزها، وكذلك التأكيد على أنها لا تزال حاضرة بقوة في منطقة الساحل والصحراء. وفي ضوء ذلك، تستهدف الجزائر إيصال رسالة مفادها أنها تمتلك القوة الدفاعية والردعية لحماية أمنها ومصالحها في المنطقة، في ظل محاولات تجاوز دورها ونفوذها في غرب أفريقيا.3- ردع الخصوم الإقليميين: بحسب العديد من التحليلات، استهدفت الجزائر من خلال هذا الاستعراض العسكري الأهم والأكبر من نوعه، توجيه رسالة إلى خصومها الإقليميين، وبخاصة المغرب، مفادها أنها تمتلك القدرة على الردع. وتبدو هذه الرسالة ذات أولوية في التوقيت الحالي، بعد تحقيق المغرب اختراقاً واسعاً في تحديث وتطوير بنيته التسليحية باعتبار ذلك إحدى آليات حسم قضية الصحراء الغربية. بالتوازي، وبالنظر إلى تصاعد التوتر في الآونة الأخيرة بين الجزائر وجوارها الجغرافي، وبخاصة مالي وبعض دول غرب أفريقيا التي تتمتع بدعم روسي، فهي تهدف أيضاً من خلال هذا الاستعراض إلى ردع الخصوم الدوليين من خلال إثبات قدرتها القتالية الفعلية، فضلاً عن إظهار قدرتها على قلب موازين القوة في الإقليم.4- تحسين شعبية المؤسسة العسكرية بالداخل: يحمل الاستعراض العسكري في جانب معتبر منه الرغبة في تلميع صورة المؤسسة العسكرية الجزائرية في الأوساط الشعبية، وهو ما تجلى في البث المباشر من كافة وسائل الإعلام الجزائرية للاستعراض العسكري، ودعوة الرئاسة الجزائرية للشعب الجزائري لمتابعة الاستعراض. واللافت أن مشاركة كافة تشكيلات الجيش في الجزائر تشير إلى محاولة النظام الحاكم إعلاء قيمة المؤسسة العسكرية في الداخل، والتأكيد على فاعلية دورها في حماية الأمن القومي للبلاد.تحديات عديدة ختاماً، يمكن القول إن حرص الجزائر على توظيف دبلوماسية الاستعراضات العسكرية، يأتي في سياق الرغبة في إيصال مجموعة من الرسائل المحلية والإقليمية، مفادها أنها قادرة ليس فقط على تأمين الجبهة الداخلية، وإنما تعزيز السيطرة والهيمنة الإقليمية من خلال ردع الخصوم. بيد أن ذلك لا ينفي أن ثمة تحديات عديدة تواجه الجزائر، وبخاصة تراجع مؤشرات الاقتصاد، بالإضافة إلى الأزمات التي تواجه دورها على الصعيد الإقليمي، وارتباك علاقاتها مع القوى الدولية، خصوصاً أوروبا وواشنطن.

ما رسائل العرض العسكري الضخم للجيش الجزائري؟