د. محمد عباس ناجي

لم تتضح بعد نتائج الهجمات العسكرية التي شنتها إسرائيل ضد إيران، في 26 أكتوبر 2024. إذ ما زالت الرواية الإيرانية تعمد إلى "التهوين" من تلك النتائج، في مقابل الرواية الإسرائيلية التي تحرص على "التهويل" منها. وحتى مع إدلاء المرشد الأعلى للجمهورية "علي خامنئي" بأول تصريح حول تلك الهجمات، فإنه لم يشر إلى حدود أو مدى هذه النتائج، حيث اكتفى بتبني موقف متوازن دعا فيه إلى عدم "التضخيم أو التقليل من أثر الضربة".لكن اللافت في موقف الاتجاه الذي يؤكد أن هذه الضربة كانت محدودة ولم تنتج تداعيات ذات أثر كبير على إيران، أنه ما زال مصراً على أنه من الضروري على إيران أن ترد عسكرياً عليها. فتحت عنوان "لقد رأينا أمطارك فانتظر طوفاننا"، كتب "حسين شريعتمداري" رئيس تحرير صحيفة "كيهان" افتتاحية الصحيفة في 27 أكتوبر 2024، قال فيها إنه رغم أن الهجمات العسكرية التي شنتها إسرائيل كانت ضعيفة وتصدت لها الدفاعات الجوية الإيرانية، إلا أنها لا ينبغي أن تمر من دون رد يجب أن يكون أكثر قوة من عملية "الوعد الصادق 2"، في إشارة إلى الهجمات التي شنتها إيران بواسطة 200 صاروخ من طراز "فتاح" الفرط صوتي ضد إسرائيل في أول أكتوبر 2024. كما دعت صحيفة "جوان" التابعة للحرس الثوري إلى ضرورة الرد، حيث كتبت المانشيت الرئيسي تحت عنوان "حق الرد القوي على الهجوم الضعيف".وبدأ بعض المسؤولين الإيرانيين في التماهي مع الاتجاه الداعي إلى ضرورة الرد عسكرياً على الهجمات الإسرائيلية وعدم الاكتفاء بالضربة التي وجهتها إيران في بداية شهر أبريل 2024. إذ قال رئيس مجلس الشورى الإسلامي "محمد باقر قاليباف"، خلال الجلسة التي عقدها المجلس لمناقشة الهجمات العسكرية الإسرائيلية في 27 أكتوبر 2024، إن "إيران ترى نفسها محقة في الدفاع عن نفسها، وأن الرد على هذا العدوان حتمي مع مراعاة الظروف المناسبة". فيما قال وزير الخارجية "عباس عراقجي" إن "إيران ليس لديها أي حدود في الدفاع عن مصالحها وسلامة أراضيها".دوافع عديدةلا يمكن القول إن إيران استقرت على موقف واحد إزاء الرد على الهجمات العسكرية الإسرائيلية. بل إن هناك مؤشرات تُوحي بأن طهران لا تبدو معنية بالرد عسكرياً من جديد، وأنها قد تتجنب هذا الخيار منعاً لتوسيع نطاق التصعيد الحالي، الذي قد يتحول إلى حرب واسعة النطاق تبدو غير مستعدة لها على الأقل في المرحلة الحالية.ومع ذلك، فإن الاتجاه الذي يتبناه تيار المحافظين الأصوليين المتشددين يرى أن كُلفة الرد عسكرياً على إسرائيل قد تكون أقل من كُلفة عدم الرد، حيث يرى أن هناك اعتبارات عديدة تفرض ضرورة تبني هذا الخيار خلال المرحلة القادمة، ويتمثل أبرزها في:1- ردع تل أبيب وواشنطن عن استهداف إيران مجدداً: يرى هذا الاتجاه أنه ما لم ترد إيران الآن على الهجمات التي شنتها إسرائيل وبشكل أقوى من عملية "الوعد الصادق 2" التي نُفذت في أول أكتوبر 2024، فإنها تغامر بالتعرض لهجوم عسكري جديد وربما يكون أوسع نطاقاً من جانب إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية.وبمعنى آخر، فإن هذا الاتجاه يرى أن إسرائيل لم تكن تهدف فقط من الهجمات التي شنتها في 26 أكتوبر 2024، إلى الرد على عملية "الوعد الصادق 2"، التي استخدمت فيها إيران صواريخ باليستية فرط صوتية وصل بعضها إلى القواعد العسكرية الإسرائيلية، وإنما أيضاً إلى استخدامها كـ"بالون اختبار"، لتقييم رد الفعل الإيراني ومدى قدرة إيران على الرد عسكرياً مرة أخرى وسط الظروف التي تشهدها المنطقة بشكل عام. ولذا، فإن هذا الاتجاه يحذر من أن عدم الرد عسكرياً معناه منح إشارة إلى تل أبيب، وربما واشنطن، بإمكانية توجيه ضربة عسكرية جديدة قد تكون أكثر قوة واتساعاً من تلك التي نُفذت في 26 أكتوبر 2024.2- تعمد الجانب الإسرائيلي استهداف العاصمة طهران: كان لافتاً أن معظم الهجمات الإسرائيلية ركزت -وفقاً للرواية الإيرانية- على محافظات في غرب إيران مثل الأحواز وإيلام، إلا أنها لم تستثن العاصمة طهران، وهي إشارة كان لها مغزى سياسي، مفادها أن إسرائيل لا تستهدف فقط منشآت تصنيع الصواريخ الباليستية أو منظومات الدفاع الجوي من طراز "إس 300"، وإنما تستهدف أيضاً هيبة الدولة والنظام، خاصةً أن بعض هذه الهجمات اقتربت من ضريح مؤسس الجمهورية الإسلامية "روح الله الخميني"، وهي رسالة أخرى إلى إيران مفادها أن إسرائيل قد تضع ضمن بنك أهدافها القادم في أي مواجهة محتملة قد تندلع في المستقبل القيادات الرئيسية في النظام، ولا سيما المرشد الأعلى للجمهورية "علي خامنئي".لكن اللافت في هذا السياق أن إسرائيل بدأت تشير إلى أن هجماتها لم تقتصر على المحافظات الثلاث التي أعلنت السلطات الإيرانية أنها تعرضت لتلك الهجمات. بل إن تقارير عديدة بدأت تكشف أن إسرائيل استهدفت نحو 23 هدفاً وليس 20 فقط كما كان معلناً من قبل، منها منشأة تصنيع الصواريخ الباليستية في خجير، إلى جانب منشأة بارشين العسكرية في العاصمة طهران.3- وقوع خسائر بشرية في صفوف القوات المسلحة الإيرانية: أعلن الجيش والحرس الثوري الإيراني عن مقتل 4 من عناصر القوات المسلحة، وتحديداً من قوات الدفاع الجوي، خلال الهجمات التي شنتها إسرائيل. وهنا، فإن ذلك قد يفرض مزيداً من الضغوط على دوائر صنع القرار في طهران من أجل الرد عسكرياً على إسرائيل، خاصةً أن الهجمات السابقة التي شنتها إيران ضد الأخيرة كانت بسبب العمليات التي نفذتها وأسفرت عن مقتل قياديين من الحرس الثوري والمليشيات الموالية لإيران.فعلى سبيل المثال، كان العنوان الرئيسي للهجمات التي شنتها إيران ضد إسرائيل، في أول أكتوبر 2024، باستخدام 200 صاروخ فرط صوتي من طراز "فتاح"، هو الرد على قيام إسرائيل باغتيال كل من الأمين العام لحزب الله اللبناني "حسن نصر الله" في 27 سبتمبر 2024، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس "إسماعيل هنية" في طهران في 31 يوليو 2024، ونائب قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري "عباس نيلفروشان" الذي قُتل برفقة "نصر الله".4- إثبات محدودية التوقعات الإسرائيلية من الهجوم: يرى هذا الاتجاه أن الرد عسكرياً على الهجمات التي شنتها إسرائيل من شأنه أن يضع التوقعات الإسرائيلية الخاصة بالنتائج التي فرضتها تلك الهجمات أمام إشكاليات حقيقية. إذ اعتبر بعض المسؤولين الإسرائيليين أن هذه النتائج سوف تقلص من قوة وتأثير أي رد عسكري قد تقوم به إيران في المستقبل. وهنا، فإن هذا الاتجاه يعتبر أن الرد على هذه "الادعاءات" يتطلب خطوة عملية تتمثل في شن عملية "الوعد الصادق 3"، لإثبات أن الهجمات لم تؤثر على القدرات "الهجومية" لإيران بقدر ما أثرت على القدرات "الدفاعية".رؤى متباينةعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن دوائر صنع القرار في طهران سوف تشهد مزيداً من الانقسام حول طبيعة الرد على الهجمات الإسرائيلية والمدى الذي يمكن أن يصل إليه هذا الرد. إذ لا يبدو أن القيادة العليا في طهران ممثلة في المرشد "علي خامنئي" حسمت أمرها بضرورة الرد عسكرياً، في ظل وجود متغيرات عديدة سوف يكون لها دور في صياغة الموقف الإيراني النهائي، ومنها طبيعة رد الفعل الإسرائيلي المحتمل، ومدى تأثير ذلك في مجمله على الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سوف تجري في 5 نوفمبر 2024.

لماذا يطالب المتشددون في إيران بالرد على الهجوم الإسرائيلي؟