أحمد عليبة


        
<p><strong>كشفت المرحلة الماضية عن وجود أزمة ثقة متصاعدة في الداخل الليبي، خاصةً في ظل وصول التنازع السياسي بين حكومتيّ الدبيبة وباشاغا إلى حدّ المواجهة المسلحة، وبما يؤزم أيّة مسارات محتملة لحلحلة الوضع السياسي الليبي في المدى المنظور، وفي ضوء هذا، فقد كشف تقرير لموقع "أفريقيا إنتلجنس" الفرنسي الاستخباري، أن واشنطن تخطط لتشكيل لجنة خاصة تابعة لمجموعة العمل الاقتصادية حول ليبيا للإشراف والرقابة على عوائد النفط، بحيث تضمن مصداقية إنفاق عائدات الطاقة التي تحققها المؤسسة الوطنية للنفط، على الاحتياجات العامة الأساسية، مثل الرواتب وواردات الأغذية والأدوية. وأبرز التقرير أن تلك الخطوة تأتي في ظل عملية تسييس القطاع النفطي، وانحياز المؤسسة إلى حكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة؛ ما دفع خصوم الحكومة في شرق البلاد إلى إغلاق الحقول النفطية.</strong></p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">سياقات دافعة</span></strong></p>



<p><strong>يمكن توضيح أبرز ملابسات الاقتراح الأمريكي الأخير انطلاقاً من الوضع الداخلي الليبي المعقد؛ وذلك على النحو الآتي:</strong><strong></strong></p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– تجميد أموال النفط في المصرف المركزي:</strong> يأتي الاقتراح الأمريكي بتشكيل لجنة إشراف ورقابة على إنفاق عوائد النفط، بعد أقل من ثلاثة أشهر على تجميد أموال تلك العوائد في حساب المصرف المركزي بالفعل؛ وذلك في إطار طلب رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح من رئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله، تجميد تلك العوائد في حساب المصرف الخارجي الليبي، على أن يُعتمَد الأمر من تاريخ 24 مارس الفائت.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– تنازع قائم بين حكومتين منذ عدة أشهر:</strong> بحسب التقديرات، كان في حساب المصرف آنداك مبلغ يُقدَّر بما بين 3–4 مليارات دولار؛ وذلك بعد أن حول "صنع الله" فعلياً 6 مليارات دولار إلى مالية حكومة "الدبيبة" قبل أن يصدر قرار "عقيلة" بثلاثة أيام تقريباً. وفُسِّر هذا الاتجاه حينها بأن عقيلة يسعى إلى قطع الطريق على رئيس حكومة الوحدة في التصرف فيما تبقَّى من أموال بما يخدم أجندته الدعائية، بالإضافة إلى أن مجلس النواب كان قد اعتمد حكومة فتحي باشاغا حكومةً بديلةً لحكومة الدبيبة المُقالَة.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– عدم التزام المصرف المركزي بقرار مجلس النواب: </strong>في منتصف أبريل الفائت، كُشف عن تلاعب بالمصرف المركزي يؤكد عدم الالتزام بقرار التجميد، وطلب مجلس النواب رسمياً من المصرف الالتزام بالقرار، وعدم إحالة أموال إلى المالية إلا بطلب من المجلس، غير أن الصديق الكبير لم يلتزم بالقرار، ورفض لقاء عقيلة صالح الذي وجَّه إليه الدعوة أكثر من مرة للقاء للتشاور حول ضرورة الالتزام بالقرار، بناءً على إيقاف البرلمان ميزانية حكومة الدبيبة التي كانت تُصرَف بواقع 1/12 من ميزانية عام 2020.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4– إغلاق بعض منابع النفط للتضييق على "الدبيبة":</strong> رداً على عدم استجابة الكبير لقرار النواب، جرى إغلاق منابع النفط للتضييق على الدبيبة، وللضغط على المركزي، وفشلت كافة الوساطات التي قام بها السفراء، لا سيما الأمريكي والبريطاني، لإنهاء عملية تسييس ملف النفط من الجانبَين، خاصةً مع تفاقم أزمة الطاقة العالمية، وارتفاع الأسعار من جراء الحرب الروسية على أوكرانيا، لكن باءت تلك المحاولات بالفشل.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">واقع مأزوم</span></strong></p>



<p><strong>يبدو أن التوجه الأمريكي ظهر نتيجة عدم القدرة على السيطرة على الأوضاع، وفشل الوساطات بين القوى الليبية لإنهاء الأزمة التي وصلت إلى طريق مسدود، وهو ما يطرح عدداً من الدلالات الرئيسية يمكن توضيحها على النحو الآتي:</strong><strong></strong></p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– لعب واشنطن دوراً في عدم تسييس ملف النفط</strong>: في ظل الانقسام السياسي، بالنظر إلى حالة تسييس ملف النفط – الذي يُشكِّل المصدر الرئيسي للاقتصاد الليبي –بين القوى السياسية المتنافسة والمتصارعة على السلطة؛ أطلق الدبيبة عدداً من البرامج الاقتصادية، ومنها – على سبيل المثال – منح الزواج الخاصة بالشباب، بينما حُجبت الرواتب لفترة عن العسكريين التابعين للقيادة العامة في شرق البلاد، ولم يتم الإفراج عنها إلا بعد ضغوط هائلة. واعتبر مراقبون أن أوجه الإنفاق تلك عملية دعائية يهدف الدبيبة من ورائها إلى استقطاب الجماهير في غرب البلاد، كما اتهمته القيادة العامة بأنه يعمل على تمويل الميليشيات لتأمين بقاء حكومته المُقالَة من البرلمان في غرب البلاد.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>كذلك من غير الواضح كيفية منح حكومة باشاغا في سرت أموالاً في ظل غياب الآليات المصرفية والرقابية هناك على نحو مقصود، في ظل الخلاف بين رئيس مجلس النواب ورئيس المصرف المركزي الصديق الكبير منذ فترة طويلة، وهو ما تأكد مع غياب الكبير عن الاجتماع الذي دعا إليه صالح بعد نقل جلسات البرلمان إلى سرت، وبدء عمل الحكومة منها. ومن ثم، فإن الخطة الأمريكية تعني الهيمنة على أموال النفط كإطار ناعم لفرض عقوبات على كافة الأطراف السياسية، ولغلِّ يدها عن التصرف في تلك الأموال وفق رغبات وأهواء اللاعبين السياسيين.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– تأكيد غياب الثقة بالمؤسسات الليبية:</strong> وهو ما ينطبق في الأساس على تلك المؤسسات المعنية بإدارة أموال النفط، من جهة، كالمصرف المركزي، والمؤسسة الوطنية للنفط نفسها؛ فعلى سبيل المثال، كان من المفترض إنهاء وتسوية الخلافات داخل المصرف المركزي، التي تحولت إلى قطبَين مصرفيَّين بين طرابلس وبنغازي، وهي الصيغة التي أكدها رئيس المصرف في بنغازي خلال الأسبوع الماضي، التي رفض فيها التبعية للمصرف المركزي في طرابلس، على إثر رفض الأخير تقريراً حول عمليات مصرفية صادرة عن مصرف بنغازي.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>ويبدو أنها تشكك في إدارة المصرف المركزي للعملية المصرفية؛ وذلك على الرغم من أن الولايات المتحدة قادت وساطة لإنهاء الانقسام بين الطرفين، وكان متوقعاً إنجازها، كما أشرفت شركة Deloitte الأمريكية على هذه العملية، إلا أن الخلاف الأخير كاشف عن فشل تلك الخطوة. واللافت للانتباه أن تلك الشركة تعد من الشركات المرشحة للقيام بدور في اللجنة التي تقترحها واشنطن للإشراف على عملية الإنفاق الليبي.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– محاولة البحث عن آلية بديلة للإنفاق في ليبيا:</strong> عملية تشكيل لجنة خاصة يعني في المقام الأول إنهاء كافة المخرجات التي كانت قد توصلت إليها جولات العمل في إطار المسار الاقتصادي في القاهرة قبل نحو عامين، والتي سمحت بحرية التصرف وفق آليات تقليدية، عبر الجهات الرسمية التي تضم البرلمان والمصرف المركزي والمؤسسة الرقابية ومؤسسة النفط ووزارة المالية، في إطار إقرار التوصل إلى المرحلة الانتقالية التي بدأت في أبريل 2021 بعد منح حكومة الدبيبة الثقة. وبما أن هناك توجهاً لمنع هذه المؤسسات من الوصول إلى الأموال والتصرف فيها، فإن عملية تشكيل اللجنة تمثل آلية بديلة للإنفاق في ليبيا.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4– خطوة استباقية قبل انتهاء المرحلة الانتقالية: </strong>من المتصور أن الولايات المتحدة ستتجه إلى هذه الخطة أو غيرها من البدائل الأخرى في السياق نفسه بعد 22 يونيو الجاري (موعد انتهاء المرحلة الانتقالية رسمياً). ومن ثم، تمثل خطوة لعدم الاعتراف بشرعية أي مؤسسة أو جهة حكومية؛ فحكومة الدبيبة ستكون قد انتهت رسمياً، كما أن الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية لم تعترف رسمياً بحكومة باشاغا، ومن ثم تستبق واشنطن الموعد بفرض تلك الخطة كأمر واقع، تعتبر فيه أن هناك حالة من الفراغ السياسي رسمياً، وأن البعثة الأممية مخولة – وفق البند السابع – بإدارة الأمور على هذا النحو، ويحق لها تشكيل تلك الآلية بغض النظر عن مواقف القوى السياسية.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">تحديات ضاغطة</span></strong></p>



<p><strong>في المقابل فإن من المتصور أن هذا القرار ستواجهه عدد من التحديات، يمكن تناولها على النحو الآتي:</strong></p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– معضلة تحديد أوجه الإنفاق:</strong> ستواجه اللجنة صعوبة في تحديد بنود الإنفاق، بمعنى أنها لن تنفق وفق أوجه الصرف التي سيحددها البرلمان في الموازنة التي يسعي إلى وضعها لحكومة باشاغا. صحيح أن الشركات الأمريكية المقترحة للقيام بدور لوجستي، لا سيما Deloitte، على اطلاع بتفاصيل المصرفين (مركزي طرابلس – مركزي بنغازي) على اعتبار أنها التي تتولى عملية توحيدهما، فإنها لم تُدِرْ العملية في إطار حالة طوارئ وفراغ سياسي. ومن ثم، ستظل هناك أزمة في تحديد أوجه الإنفاق.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– التشكيك في جدوى الخطة:</strong> الهدف من الخطة هو وقف الفساد المنظم، والضغط على الأطراف السياسية المتصارعة، إلا أن حكومة الدبيبة لديها أرصدة تكفي لإدارة قطاع الغرب حتى شهر سبتمبر المقبل، ناهيك عن وجود أرصدة مالية يمكنها الوصول إليها في مالطا ستكون تحت تصرفها، وهو ما يعني أن الورقة المالية لن تشكل عامل ضغط فورياً.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– توقف ضخ الإيرادات النفطية:</strong> مع إغلاق الحقول وموانئ التصدير، تقل الأرصدة في المصرف المركزي، وستتحول العملية إلى أزمة تتطلب التفاوض بين مختلف الأطراف؛ ما سيفرض على واشنطن الوصول إلى حل وسط بحيث يتم فتح الحقول النفطية ولو بالتدريج، حتى يتم ضخ أموال فيها، على أن يتم تحويل الأموال إلى المصارف عبر اللجنة لا عبر الآليات الحكومية. ويُعتقَد أن هذا المسار سيكون إجبارياً على حكومة الشرق أو بالأحرى القوى السياسية هناك؛ حيث ستكون المتضرر الأكبر من استمرار عملية الإغلاق.</p>



<div style="height:16px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>مسارات مفتوحة</strong></p>



<p>خلاصة القول: إذا استمرت حالة الانسداد السياسي في ليبيا وغاب أفق لعملية سياسية، فالمتصور أن ليبيا ستتحول تدريجياً إلى ما يشبه خطة (النفط مقابل الغذاء والدواء والرواتب)، وهو سيناريو يرشحه الكثير من المراقبين في الحالة الليبية، ثم يلي ذلك مرحلة انفراجة تسمح بتخفيف تلك القيود في إطار ترتيبات سياسية تفرض على الأطراف الليبية اعتماد أقصر الطرق للانتخابات، وتشكيل مؤسسات منتخبة، لكن في حال حدوث انفراجة سياسية مبكرة في ضوء المسار الدستوري في القاهرة، فقد تختصر تلك القوى الوقت وتصل إلى الانتخابات إجبارياً لتفادي المرور بالسيناريو الأول.</p>

      

لماذا تتدخل واشنطن للرقابة على عوائد النفط الليبي؟