إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

قال الدفاع المدني السوري، في 6 يناير 2025، إن 32 شخصاً قُتلوا في سوريا بسب الألغام ومخلفات الحرب، وأوضح الدفاع المدني أن هذه المخلفات هي "موت مؤجل للسوريين زرعه نظام الأسد في المناطق السورية، كخطر طويل الأمد يهدد الحياة ويقوِّض سبل العيش"؛ حيث تمثل الألغام والعبوات الناسفة والذخائر غير المتفجرة المنتشرة في عموم المحافظات السورية، أحد التحديات غير المرئية التي تواجه أمن واستقرار سوريا، بل تواجه عمليات إعادة الإعمار في البلاد بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024. وبحسب اتجاهات عديدة، فإن الألغام الأرضية التي زرعها النظام السوري السابق، أسفرت عن خسائر بشرية ومادية كبيرة، بالنظر إلى انتشارها بشكل هائل، وتنوعها ما بين المضادة للأفراد والمركبات، فضلاً عن ذخائر غير منفجرة تنتشر نتيجة الاشتباكات التي كانت تدور بالمدن وعلى الطرق وفي القرى؛ ما يجعل عملية إزالتها معقدة، وتحتاج إلى جهود كبيرة ومنسقة.تحديات قائمةثمة مجموعة من التحديات المحتملة أمام جهود إزالة الألغام في سوريا، ويتمثل أبرزها فيما يلي:1– غياب خرائط دقيقة لأماكن زراعة الألغام: يتمثل أحد التحديات التي تواجه محاولات نزع الألغام في سوريا، في عدم وجود قاعدة بيانات مكتملة ودقيقة عن أماكن هذه الألغام؛ لأنه كان يتم في بعض الأحيان زرع الألغام بشكل عشوائي أو على عمق يتراوح بين 5 و17 سنتيمتراً تحت الأرض؛ الأمر الذي يجعل عملية نزعها أو اكتشافها والتخلص منها صعبة للغاية، كما تبدو المعضلة أكبر في بعض مناطق الشمال السوري، بالنظر إلى الصراع الحالي بين وحدات حماية الشعب الكردية والفصائل الموالية لتركيا، وقيام طرفي الصراع باستيراد أو تصنيع الألغام بشكل مستمر في جبهات القتال ومداخل القرى والمدن التي تمثل ساحات محتملة للمعارك؛ لإلحاق خسائر بشرية ومادية بالخصم، وهو ما يمثل أعباء إضافية على عملية إزالة الألغام.2– كثافة انتشار الألغام في عموم الجغرافيا السورية: تشير العديد من التقديرات إلى أن ثمة كميات هائلة من الألغام تنتشر في عموم الجغرافيا السورية، خصوصاً الألغام المنخفضة التكلفة من حيث التصنيع، كما لغَّم جيش الأسد مساحات شاسعة من البلاد، وكان لافتاً هنا، وجود نسب كبيرة من الألغام والذخائر العنقودية في عدد واسع من المحافظات السورية، من أهمها حلب وإدلب وحماة وحمص والرقة ودير الزر والحسكة، بالإضافة إلى دمشق واللاذقية. في هذا السياق، كشفت منظمة "هالو تراست" البريطانية في ديسمبر 2024 أن هذه الألغام منتشرة في الحقول والقرى والمدن.كما أكدت وجود حاجة ماسة إلى بذل جهد دولي للتخلص من ملايين الذخائر غير المنفجرة لحماية حياة مئات آلاف السوريين الذين عادوا إلى ديارهم بعد سقوط الأسد، كما كشفت الأمم المتحدة في ديسمبر 2024 عن أن شركاء الأمم المتحدة حددوا أكثر من 50 حقل ألغام خلال الأيام العشرة الأولى من ديسمبر 2024. وتجدر الإشارة إلى أن الألغام في سوريا أدت إلى مقتل 933 شخصاً بنهاية عام 2023، لتحل بذلك في المرتبة الثانية بعد بورما التي حازت المرتبة الأولى بتسجيلها 1003 ضحايا، وفق مرصد الألغام.3– تعقيدات "الانتقال السياسي" عقب سقوط الأسد: على الرغم من حالة الترحيب لدى قطاعات سورية واسعة بسقوط الأسد، وموافقة الفصائل السورية المسلحة على الاندماج ضمن وزارة الدفاع السورية الجديدة، فإن ثمة قوى سورية مسلحة لا تزال تُبدي شكوكاً أو تخوفات من الإدارة الانتقالية الجديدة، وهو ما يجعلها أكثر حرصاً على الإبقاء على الألغام المزروعة بمناطق نفوذها الجغرافي؛ فعلى سبيل المثال، رفض اللواء الثامن بقيادة "أحمد العودة" في محافظة درعا تسليم سلاحه إلى الإدارة السورية بقيادة هيئة تحرير الشام، كما رفضت محافظة السويداء تسليم أسلحتها أو دخول عناصر الإدارة الانتقالية الجديدة إليها.4– معضلة توفير المخصصات المالية لإزالة الألغام: يظل العامل المالي أحد المعوقات الرئيسية التي يرجح أن تواجه الإدارة الانتقالية الجديدة في سوريا لإزالة الألغام من بعض المناطق، بالنظر إلى تأزم الأوضاع الاقتصادية، بالإضافة إلى استمرار العقوبات الدولية المفروضة على الاقتصاد السوري، كما أن قوى اقتصادية إقليمية ودولية لا تزال تستكشف ملامح توجهات الإدارة السورية الجديدة، ومن ثم تفضل التأني بشأن ضخ استثمارات مالية في عصب الاقتصاد السوري، وهو ما يعني التأثير على مدى قدرة الإدارة الجديدة بشأن توفير المخصصات المالية للمنظمات المحلية المنوطة بها إزالة الألغام.5– الاحتياج إلى فترة زمنية طويلة لإزالة آثار الألغام: يمثل عامل الوقت أحد التحديات الرئيسية أمام أي جهود قد ترتبط بإزالة الألغام في سوريا وتطهير أراضيها؛ إذ إن هذه العملية حال البدء فيها قد تستغرق فترة طويلة من الزمن، خصوصاً أن سهولة تصنيع الألغام وكلفتها المنخفضة جعلت أطراف الصراع المحلية في سوريا توظفها كأداة عسكرية، من دون الاكتراث للإعلان عن مواقعها أو إزالة آثارها.ارتدادات عكسيةتشير العديد من التقديرات إلى أن ثمة ارتدادات عكسية لانتشار الألغام في الجغرافيا السورية على عملية إعادة الإعمار في البلاد، ويمكن بيان ذلك على النحو التالي: 1– تعطيل عمليات التنمية الاقتصادية: يعيق انتشار الألغام أي مشاريع تعمل على تنمية المجتمعات المحلية السورية، خصوصاً في ظل رفض كثير من ممولي المشروعات التنموية الاستثمار في المناطق الملوثة بالذخائر غير المتفجرة والألغام الأرضية. وعلى ضوء ذلك، من المرجح تجميد عمليات إعادة الإعمار أو على الأقل تأخير الجهود التنموية في قطاعات واسعة من الجغرافيا السورية بسبب انتشار الألغام، وبخاصة القطاع الزراعي الذي يمثل العمود الفقري للاقتصاد السوري؛ إذ إن أغلب حقول الألغام توجد بمناطق تعتمد على الزراعة.2– صعوبة تنمية المناطق الحدودية: تشير العديد من التقديرات المحلية إلى صعوبة إعادة إعمار المناطق الحدودية السورية خلال المرحلة المقبلة، بالنظر إلى قيام النظام السوري السابق منذ نهاية عام 2011 حتى الأشهر القليلة الماضية بزراعة الألغام على طول الحدود السورية، خصوصاً مع لبنان وتركيا والأردن والعراق؛ وذلك دون توفير تحذيرات ملائمة، ويبرز ذلك بوضح في عدد الضحايا المدنيين بفعل الألغام في المناطق الحدودية.3– التأثير سلباً على استقرار المجتمعات المحلية: تشكل الألغام الأرضية عائقاً كبيراً أمام عودة المدنيين إلى المجتمعات المحلية في ظل شيوع حالة من القلق والخوف لدى بعض المجتمعات المحلية من جرَّاء انتشار الألغام؛ ما يدفعهم للتنقل إلى مناطق أكثر أمناً، ومن ثم تزيد حالات النزوح الجماعي داخلياً، وهو ما قد يشكل بدوره ضغطاً كبيراً على عمليات التنمية الاقتصادية، والبنية التحتية.4– إعاقة مشروعات إعادة الإعمار في سوريا: من المرجح أن يدفع الانتشار الهائل للألغام في الجغرافيا السورية الاقتصاديات الكبرى للتردد أو على الأقل التأني في ضخ استثمارات مالية في مشروعات إعادة الإعمار؛ إذ تثير الذخائر غير المتفجرة قلق القوى الاقتصادية، باعتبار أنها تمثل تهديداً كبيراً لجهود إعادة الإعمار والتنمية. ولعل الزيارات التي أجرتها وفود أجنبية وعربية لم تسفر عن الالتزام بوعود واضحة بشأن ملف إعادة الإعمار، بالإضافة إلى غياب التسابق الإقليمي والدولي على الفوز بعقود لإعادة الإعمار. وبالتوازي، وبحسب بعض الاتجاهات، فإن كثافة انتشار الألغام في الجغرافيا السورية، ربما تؤثر على تحركات التحالفات الاقتصادية، سواء كانت شركات أو أفراداً، لإعادة النظر في المشاركة في عمليات إعادة الإعمار.ختاماً، يمكن القول إن ثمة ارتدادات عكسية للألغام والذخائر غير المتفجرة في الجغرافيا السورية على الجهود المحتملة لإعادة إعمار البلاد، وعلى ضوء ذلك، فإن ملف مكافحة الألغام، بات يتطلب بجانب الموارد المالية الضخمة، استخدام مداخل غير تقليدية لاكتشاف ونزع الألغام، مثل الطائرات المسيرة، خصوصاً أن هناك مجموعة من التحديات تعوق الوصول إلى الألغام وتفكيكها، أبرزها صعوبة تحديد الأماكن المليئة بالألغام وبقايا مُخلَّفات الصراع المحلي، علاوةً على استمرار العنف في بعض مناطق الداخل السوري، وبخاصة في شمال البلاد؛ الأمر الذي يثير مخاوف الشركات والمنظمات المعنية بشأن المشاركة في جهود إعادة الإعمار على الساحة السورية.

كيف يؤثر انتشار الألغام على جهود إعادة الإعمار في سوريا؟