د. يوسف داوود


        
<p>على الرغم من أن فوز الرئيس إيمانويل ماكرون في الانتخابات الفرنسية 2022 كان أمراً متوقعاً، فإن رصد الاتجاهات العامة للجولة الثانية من تلك الانتخابات تكشف عن وجود عوامل استمرارية، وتغيُّرات معتبرة عن المشهد السياسي في الجولة الثانية لانتخابات 2017. وقد جاءت عوامل الاستمرارية التي أدت إلى فوز "ماكرون" بفترة رئاسية ثانية في 2022 لتكون بمنزلة النواة الصلبة للمزاج الانتخابي الفرنسي على مدار خمسة أعوام مضت، وتمثلت في تصويت ناخبي يسار ويمين الوسط لصالح "ماكرون"، واتجاه ناخبي الأحزاب اليمينية الراديكالية إلى التصويت لصالح "لوبان"، وارتفاع نسب التغيُّب عن الفعاليات التصويتية الفرنسية، وتشابه نمط تصويت الفئات المختلفة مع انتخابات 2017. ومع ذلك فإن هناك العديد من التغيُّرات التي كشفت عنها نتيجة انتخابات 2022، والتي قد يكون لها تداعيات مؤثرة في الفعاليات الانتخابية في المستقبل، ومن أبرزها احتمالية فقدان الرئيس الأغلبية البرلمانية، وتوحيد أكبر لجبهة اليمين المتطرف في الانتخابات القادمة، مع اختلاف القضايا الجوهرية المؤثرة في نمط تصويت الناخبين الفرنسيين.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">اتجاهات مستمرة</span></strong></p>



<div style="height:12px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>تُعتبَر عوامل الاستمرارية التي أدَّت إلى فوز "ماكرون" بفترة رئاسية ثانية في 2022 هي النواة الصلبة للمزاج الانتخابي الفرنسي على مدار خمسة أعوام، وهي لا تعني وجود تماثل تام بين هذه العوامل في 2017 ومثيلتها في 2022، بل تعني أن هذه العوامل من حيث كونها اتجاهاً عامّاً، لم تتغير وإن طرأت عليها بعض أوجه التباين الطفيفة التي لم تؤدِّ بدورها إلى تغيير جذري يمكن رصده. هذا ويمكن إجمالها في العناصر التالية:</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– تصويت ناخبي يسار ويمين الوسط لصالح "ماكرون": </strong>تشير نتائج الجولة الثانية إلى تصويت كتلة معتبرة من الناخبين الذين سبق أنا اختاروا أحد مرشحي يمين أو يسار الوسط، بكل تياراته في الجولة الأولى لصالح "ماكرون". وفي التقدير، فإن نسبة كبيرة من أصوات ناخبي فاليري بيكراس مرشحة حزب الجمهوريين (بلغوا مليوناً و679 ألف صوت) ويانيك جادو مرشح حزب الخضر (بلغوا مليوناً و628 ألف صوت)، وفابيان روسال مرشح حزب الاشتراكيين (بلغوا نحو 802 ألف صوت)، وآن هيدالجو مرشحة الحزب الاشتراكي (بلغوا نحو 617 ألف صوت) قد ذهبت تلقائياً إلى "ماكرون" نتيجة استحالة قبولهم بوصول "لوبان" إلى سدة الحكم، وكذلك لإدراكهم في الوقت نفسه تراجع شعبية مرشحيهم أو التيارات المنتمين إليها بصورة عامة؛ ما يجعلهم أكثر قبولاً لفكرة التصويت المفيد. من جهة أخرى، رغم توقُّع اتجاه كتلة كبيرة من ناخبي "ميلنشون" مرشح حزب فرنسا الأبية والحصان الأسود بالانتخابات (بحصوله على 7 ملايين و715 ألف صوت) للتصويت لصالح "ماكرون"، فإنه يُتوقَّع أن تكون كتلة كبيرة منهم أيضاً قد أحجمت عن التصويت في الجولة الثانية؛ وذلك لأن مرشحهم لم يَدْعُ صراحةً إلى التصويت لصالح "ماكرون" رغم تحذيره علانيةً من التصويت لصالح "لوبان"، وكذلك أيضاً لشعور أكثرهم بالإحباط نتيجة اقتراب مرشحهم من المرور إلى الجولة الثانية بعد طفرة غير مسبوقة، وهو ما لم يتحقق.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– اتجاه ناخبي الأحزاب اليمينية الراديكالية إلى التصويت لصالح "لوبان":</strong> على غرار انتخابات 2017، من المحتمل جدّاً أن يكون ناخبو مرشحي اليمين المتطرف الآخرون قد صوَّتوا لصالح "لوبان"؛ وذلك بعد أن دعاهم مرشحوهم صراحةً إلى القيام بذلك، وخاصةً إيريك زمور مرشح حزب الاستعادة (حصل في الجولة الأولى على قرابة مليونين و485 ألف صوت)، ونيكولا ديبون أنيون مرشح حزب "انهضي يا فرنسا" (حصل في الجولة الأولى على قرابة 725 ألف صوت). رغم ذلك، يتوقع أن يكون ناخبو المرشَّحَين المُشَار إليهما أقل حماسة في التصويت المكثف لصالح "لوبان" – وهو ما يتضح من النتائج – مقارنةً بناخبي المرشحين الآخرين الذين صوتوا لصالح "ماكرون"؛ وذلك لأن أكثرهم تشدُّداً قد بنى تأييده السياسي لمرشحي اليمين المتطرف الآخرين على أساس التمايز عن لوبان وإعادة إحياء الراديكالية اليمينية المفقودة، وهو ما أبقى للمرشحة الكتلة الأقل تشددًا التي يتقاسمها اليمين المعتدل مع التيار المتطرف.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– ارتفاع نسب التغيب عن الفعاليات التصويتية الفرنسية: </strong>بلغت نسبة التغيب عن التصويت 25.4% في انتخابات 2017 باعتبارها أكبر نسبة تغيب في الجولة الثانية من الانتخابات منذ عام 1969. أما في الجولة الحالية، فبلغت نسبة التغيب نحو 28% في مؤشرٍ على استمرار نسب التغيب في الارتفاع في الانتخابات الرئاسية الفرنسية. وفي حقيقة الأمر، لا يعزو هذا النهج المستمر في التغيب إلى الأسباب التي أدت إلى تحقيق معدلات قياسية من التغيب في الانتخابات الإقليمية قبل أقل من عام (ارتفاع نسب الإصابة بفيروس كورونا وعدم وجود زخم عام للانتخابات الإقليمية يضاهي زخم الانتخابات الرئاسية)، بل يعود في الأساس إلى توجهات المرشحين الفائزين في الجولة الأولى؛ حيث يغيب عن "ماكرون" السياسة العقائدية الواضحة التي تسهم في حشد المؤمنين بها بكثافة عالية، بينما تنتمي "لوبان" إلى منظومة فكرية واضحة المعالم، لكنها غير ذات انتشار أفقي في المجتمع الفرنسي؛ لطبيعتها الفئوية في الأساس.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>4– تشابه نمط تصويت الفئات المختلفة مع انتخابات 2017:</strong> إذا تم النظر إلى التصويت وفقاً للفئات المجتمعية، فإن الجولة الثانية لانتخابات 2022 جاءت مقارِبةً إلى حد كبير لمثيلتها في 2017 من حيث نمط التصويت الفئوي؛ حيث صوَّت أغلب العاطلين لصالح ماكرون (53% لماكرون مقابل 47% للوبان)، وكذلك العاملون (54% مقابل 46%)، والكوادر (82% مقابل 18%)، والأكثر تعليماً (81% مقابل 19%)، والمتقاعدون (75% مقابل 25%) والأكثر غنًى (74% مقابل 26%). بينما تفوَّقت لوبان في أصوات العمال (56% مقابل 44%) وأصحاب الدخول المنزلية (69% مقابل 31%). هذا وتعكس هذه النتائج نمطاً تصويتيّاً فئويّاً مُشابِهاً جدّاً لانتخابات 2017 من حيث استئثار "ماكرون" بالسواد الأعظم من أصوات المتعلمين والشباب والمتقاعدين والأكثر غنى، في حين استأثرت "لوبان" بأغلبية أصوات العمال والأكثر عسراً، مع اقتراب نتائجهما في الفئات الأخرى.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong><span class="has-inline-color has-vivid-red-color">تغيرات معتبرة</span></strong></p>



<div style="height:12px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p>لا تعني النتيجة النهائية المتماثلة، رغم تحقيق لوبان عدد أصوات أكبر (42% مقابل 33% في انتخابات 2017)، أن المشهد السياسي الفرنسي لا يحوي في داخله عوامل التغير المستقبلية، وهي التي يسهم رصدها في التعرف على اختلافات المشهد السياسي الحالية عما كان عليه في 2017 وتحديد العناصر التي يمكن أن تسهم في قلب الطاولة في السنوات القليلة القادمة، ويمكن رصدها على النحو الآتي:</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>1– احتمالية فقدان الرئيس الأغلبية البرلمانية:</strong> على عكس انتخابات 2017، فإن حظوظ حزب "الجمهورية إلى الأمام" الذي يترأسه الرئيس الحالي تتقلَّص تدريجيّاً للفوز بالأغلبية البرلمانية؛ وذلك في ظل فوز اليمين المتطرف – ممثلاً في "لوبان" في الجولة الثانية – بعدد أصوات أكبر، وكذلك اليسار المتطرف – ممثلاً في ميلنشون في الجولة الأولى – الذي حقَّق طفرة تصويتية معتبرة. لذلك، وبعد ظهور نتائج الجولة الثانية، دعا جان لوك ميلنشون الناخبين الفرنسيين إلى التعبير عن تناقص دعمهم لـ"ماكرون" بإعطاء الأغلبية لتياره في البرلمان؛ ما يُفرِز نظام "التعايش cohabitation"؛ حيث تكون فيه الأغلبية البرلمانية من حزب مختلف عن حزب الرئيس، وتتسم فيه القرارات التنفيذية بقدر من العرقلة؛ ما ينبئ بحدوث تغير وشيك في المزاج العام الانتخابي قُبيل الانتخابات التالية.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>2– توحيد أكبر لجبهة اليمين المتطرف في الانتخابات القادمة:</strong> على عكس انتخابات 2017 التي أفرزت نوعاً من التشرذم داخل تيار اليمين المتطرف – وهو ما انعكس في النهاية في ترشح إيريك زيمور في مواجهة مارين لوبان – فمن المتوقع أن تسهم نتائج انتخابات 2022 في توحيد جبهة اليمين المتطرف داخليّاً للاستفادة من الدعم المتزايد الذي حظِيت به "لوبان" لحصد أصوات أكبر في الانتخابات التشريعية. في ذات السياق، دعت ماريون مارشال لوبان الداعمة لـ"زيمور"، مارين لوبان إلى الجلوس مع "زيمور" والاتفاق على توحيد الصفوف؛ للاستفادة من المؤشرات التي تراها إيجابية من وجهة نظرها. وُيرجِّح هذا الاتجاهَ، بَدءُ اصطفاف مرشحي اليسار بالفعل حول "ميلنشون"، وهو ما لا يرغب فيه مرشحو اليمين رغم اختلافاتهم الداخلية العميقة.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>3– اختلاف القضايا الجوهرية المؤثرة في نمط تصويت الناخبين: </strong>في 2017، ساهم كل من تراجع مستويات الدخول في فرنسا، وموجات الإرهاب العنيفة، وصعود الخطاب الشعبوي بوجه عام في رسم ملامح الخريطة الانتخابية في فرنسا. هذا، ورغم استمرار لعب هذه العوامل دوراً مفصليّاً في توجيه نمط تصويت الناخبين في الانتخابات الحالية، فإن بعض القضايا الجوهرية قد طرأت على الساحة الداخلية والعالمية التي أسهمت في رسم ملامح نتائج الجولة الثانية، وعلى رأسها سياسات ماكرون المُنتقَدة أثناء فترة الجائحة، وحرب أوكرانيا التي اتهمت فيها حكومات الناتو بفشلها في منع الحرب، وأخيراً تزايد حدة الاحتجاجات الرافضة لبعض الأوضاع الاقتصادية الداخلية، في ظل عدم نجاح ماكرون في تحقيق حلول جذرية بها.</p>



<div style="height:18px" aria-hidden="true" class="wp-block-spacer"></div>



<p><strong>وختاماً، فإنه لا يمكن اعتبار فوز ماكرون في انتخابات 2022 إعادة إنتاج للمشهد الانتخابي – أو السياسي – الفرنسي؛ فرغم تشابه بعض العوامل بين انتخابات 2017 و2022 فإن تحليل نتائج الجولتَيْن الأولى والثانية، يشير إلى صعود عوامل التغير التي تنبئ إلى حد كبير بميل كفة المشهد السياسي لصالح اليمين أو اليسار – بالابتعاد عن الوسط – خلال السنوات القليلة القادمة، كما تجدر الإشارة إلى أن أحد العوامل المساعدة المُرجِّحة لهذا الاحتمال، هو عدم إمكانية ترشُّح ماكرون لفترة رئاسية ثالثة حسب الدستور، وعدم ظهور كوادر ذات شعبية داخل أوساط حزب "الجمهورية إلى الأمام" – المُعتمِد جوهريّاً ووجوديّاً على شعبية الرئيس الحالي منذ إنشائه في 2017 – وهو ما يُستبعَد معه احتفاظ الحزب بأي مكانة سياسية تُذكَر بعد أفول نجم "ماكرون"؛ وذلك ما لم يطرأ تغير جوهري من شأنه تصعيد شخصيات أخرى على السطح، وإن كان الأمر غير مُرجَّح في المشهد السياسي الفرنسي في ظل معطياته الحالية.</strong><strong></strong></p>

      

عوامل الاستمرار والتغير في الانتخابات الرئاسية الفرنسية 2022