كرم سعيد

فرضت التطورات السياسية والأمنية التي تشهدها الساحة السورية بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، وصعود هيئة تحرير الشام الموالية لتركيا إلى صدارة المشهد، ضغوطاً عديدة على القوى الكردية في الإقليم، دفعت حزب العمال الكردستاني في 7 فبراير إلى تجميد جانب من نشاطه العملياتي؛ حيث أعلن مراد كارايلان، الذي يقود الحزب من جبل قنديل في شمال العراق، وقف العمليات العسكرية للحزب في تركيا، وهو ما دفع اتجاهات عديدة إلى ترجيح وجود رغبة لدى الأطراف الكردية في توفير بيئة خصبة لدعوات تفكيك الأزمة الكردية، وفتح الباب أمام المفاوضات المحتملة مع الحكومة التركية، خاصة في ظل الجهود التي تبذلها قوى حزبية تركية، منها حزب الحركة القومية وحزب الديمقراطية ومساواة، الشعوب لتعزيز هذا المسار.سياقات مغايرةيأتي قرار حزب العمال الكردستاني في ظل مجموعة من السياقات المحفزة على تبني هذه المقاربة في التوقيت الحالي، ويتمثل أبرزها فيما يلي:1– دعوة أوجلان المرتقبة إلى السلام والتخلي عن السلاح: جاء قرار حزب العمال الكردستاني بوقف نشاطه العملياتي في تركيا، بالتزامن مع الدعوة المحتملة التي سيطلقها عبد الله أوجلان الزعيم التاريخي للكردستاني في منتصف فبراير 2025، والتي يدعو فيها أعضاء حزبه إلى التخلي عن السلاح، وإطلاق مبادرة تاريخية من أجل حل دائم للقضية الكردية.2– مبادرات الأحزاب التركية لتفكيك القضية الكردية: لا ينفصل قرار حزب العمال الكردستاني بشأن وقف النشاط العسكري في تركيا عن السعي للاستفادة من المبادرات التي طرحتها بعض الأحزاب التركية بشأن تفكيك القضية الكردية، وفي الصدارة منها حزب الحركة القومية بقيادة دوللت بهجلي الذي أشار في أكتوبر 2024 إلى احتمال منح أوجلان "حق الأمل" إذا تم تفكيك الكردستاني، وأضاف في تصريحات له أن "تركيا ليس لديها معضلة عرقية أو طائفية، وليس لديها مشكلة كردية"، وأكد أنه "إذا كان هناك تركي لا يحب الأكراد فهو ليس تركياً، وإذا كان هناك كردي لا يحب الأتراك فهو ليس كردياً.. الأتراك والأكراد يواجهون عدواً مشتركاً". ومن جهته، قال تونجر باكيرهان الرئيس المشارك لـ"حزب المساواة والديمقراطية للشعوب" في 4 فبراير 2025: "إننا مستعدون لحل دائم وجذري، ونولي أهمية لدعوة أوجلان إلى السلام ونؤيدها".3– تأثيرات تراجع نفوذ إيران في الإقليم: ترتبط مبادرة الكردستاني في جانب منها بتراجع نفوذ إيران في الإقليم، بفعل سقوط النظام السوري، وتهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالعودة إلى سياسات الضغوط القصوى ضد طهران خلال المرحلة المقبلة. وفي رؤية الكردستاني أن تفكيك التوتر مع تركيا في التوقيت الحالي قد يمثل أولوية استراتيجية، خصوصاً بعد نجاحات أنقرة في تعزيز نفوذها في سوريا وملء الفراغ الذي تركته إيران، بالإضافة إلى الضغوط التركية على الحكومة العراقية التي أسفرت عن تصنيف بغداد حزب العمال الكردستاني منظمة محظورة في عام 2024. ويشار إلى أن ثمة مخاوف متصاعدة لدى الكردستاني من استجابة بغداد للضغوط التركية، وكان آخرها تأكيد وزير الخارجية التركي خلال زيارته إلى العراق في يناير 2025 أنه نقل مجدداً توقعات تركيا من العراق بشأن تصنيف حزب العمال الكردستاني "منظمة إرهابية" رسمياً. ومن شأن هذا أن يدفع أنقرة إلى توسيع عملياتها العسكرية ضد القوى الكردية في الإقليم؛ ما يزيد من تعرض الكردستاني لضغوط غير مسبوقة.4– فشل مبادرة الانسحاب من سوريا: جاءت مبادرة حزب العمال الكردستاني بشأن وقف الهجوم على تركيا بعد فشل مبادرته التي طرحها في 17 يناير 2025، والتي تضمنت وقف التصعيد الدائر في شمال شرق سوريا بين الفصائل الموالية لتركيا وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" مقابل مغادرة قواته من مناطق الإدارة الذاتية الكردية في الشمال السوري، وتطبيق صيغة الحكم الفيدرالي في شمال سوريا.5– توقعات بإبعاد واشنطن نفسها عن حسابات "قسد": يأتي قرار الكردستاني بوقف الهجمات على تركيا في ظل التطور الحاصل للسياسات الأمريكية تجاه الأوضاع في شمال سوريا، وهو ما عبر عنه دونالد ترامب في 14 ديسمبر 2024؛ إذ يبدو أنه قرر النأي بالنفس عن سوريا، وتجميد الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية؛ حيث قال: "سوريا (ليست صديقتنا) وما يجري فيها (ليس معركتنا)"، كما قال في تصريحات له في نهاية يناير 2025 إن الولايات المتحدة ليست منخرطة في سوريا التي لديها مشاكلها الخاصة وما يكفي من الفوضى، وإنه لا حاجة إلى تدخل بلاده هناك.وعلى ضوء ذلك، فإن ثمة تقديرات تشير إلى أن التحول اللافت في موقف الكردستاني بشأن تركيا، يأتي في سياق إدراك جديد، مفاده أن الوجود الأمريكي في سوريا حتى حال بقائه، فإن لن يلتفت إلى دعم قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، بل ستقتصر مهمته الأساسية في إطار القضاء على قادة داعش والجماعات الإرهابية الأخرى الموالية للقاعدة، وهو ما كشف عنه الإعلان الأمريكي في 31 يناير 2025 عن مقتل "محمد صلاح" القيادي في تنظيم "حراس الدين" بالإضافة إلى تأكيد القيادة الوسطى الأمريكية "سنتكوم" عشية مقتل "صلاح"، أن تحركاتها العسكرية في سوريا تعد جزءاً من جهد مستمر لتعطيل وإضعاف الجماعات المسلحة في المنطقة.أهداف متنوعةثمة جملة من الأهداف التي تقف وراء قرار حزب العمال الكردستاني وقف نشاطه العملياتي في الداخل التركي خلال المرحلة المقبلة، وهي الأهداف التي يمكن بيانها على النحو التالي:1– إرباك أنقرة والفصائل الموالية لها في شمال شرق سوريا: لا يمكن استبعاد أن يكون حزب العمال الكردستاني تعمد اتخاذ تلك الخطوة لإرباك تركيا والفصائل الموالية لها في شمال شرق سوريا، وفي الوقت نفسه توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامه للتعامل مع التطورات الطارئة على الساحتين السياسية والأمنية في سوريا، خصوصاً مع تقدم النشاط العملياتي للمجموعات المسلحة الموالية لتركيا، وسيطرتها على بعض المدن الكردية، وخاصة مدينة منبج الاستراتيجية.2– تعزيز فرص التفاوض بين تركيا والقوى الكردية: لا يستبعد حزب العمال الكردستاني أن يدخل بالفعل في مفاوضات مع تركيا من أجل وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب الدائرة منذ ثمانينيات القرن الماضي، خصوصاً مع استعداد أوجلان لإطلاق خطاب تاريخي في منتصف فبراير 2025. ومن ثم ربما يستهدف الكردستاني من وراء قراره الأخير إلى تعزيز فرص التفاوض بين تركيا والتيارات الكردية، وقطع الطريق على الاستمرار في عسكرة الأزمة بين تركيا والقوى الكردية.3– تقويض الاتهامات التركية لحزب العمال الكردستاني: تتهم أنقرة حزب العمال الكردستاني بقيادة تمرد ضد الدولة التركية، وتهديد الأمن القومي في العراق وسوريا. وخلال الأسابيع الأخيرة كثفت تركيا اتهاماتها الرسمية للكردستاني، خصوصاً بعد اتهامه بالتورط في مقتل عنصرين من حرس الحدود العراقي في 26 يناير 2025. وعلى ضوء ذلك، فإن هذه الاتهامات التركية تشكل أحد المحركات الجوهرية لمبادرة الكردستاني، وخصوصاً أن الكردستاني رفض أكثر من مرة الاتهامات التركية في هذا الشأن، ويعتبر أن الاتهامات التركية حيلة لتبرير هجمات الجيش التركي على العناصر الكردية في سوريا والعراق.4– محاولة تهدئة الأوضاع في شمال شرق سوريا: يحتمل أن إعلان الكردستاني بشأن وقف هجومه على تركيا، تحمل في طياتها رسالة بشأن تطورات الأوضاع شمال شرق سوريا، مفادها أن الكردستاني يمكن أن يستمر في التخلي عن القوة ضد تركيا، ويدفع نحو تجاوب الأطراف الكردية مع مقترحات الإدارة السورية الجديدة شريطة وقف التدخلات التركية ضد "قسد" شمال شرق سوريا. وقبل أيام، عبر حزب العمال الكردستاني عن دعمه مبادرة الوساطة بين أنقرة و"قسد"، التي يقودها مسعود بارزاني رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني شمال العراق القريب من تركيا.5– تأمين قنوات التواصل مع الخارج: ثمة تقديرات تشير إلى أن قرار حزب العمال الكردستاني بوقف الهجوم في الداخل التركي لا ينفصل عن رغبته في تأمين قنوات الاتصال بين القوى الحزبية والمدنية المحسوبة على الكردستاني في شمال سوريا والعراق والداخل التركي مع القوى الخارجية التي لديها تفاهمات مع الأكراد، ومن ثم تقليص التحركات التركية المتسارعة في التوقيت الحالي لتوظيف حالة العنف في شمال سوريا والعراق لإقناع القوى الإقليمية والدولية، وخاصةً واشنطن، بأهمية عدم معارضة مساعي أنقرة إلى قضم جذور المشروع الكردي في الإقليم.6– تقليص الضغوط التركية على شمال العراق: يحاول حزب العمال الكردستاني، عبر الإعلان عن وقف الهجوم على تركيا، تقليص حدة الضغوط التي يتعرض لها والتي فرضتها الضربات العسكرية المتتالية التي تشنها تركيا على شمال العراق ضد قادتها ومواقعها، فضلاً عن أنه يريد توجيه رسائل بأنه قد يُجري تغييرات في سياسته، خاصة ما يتعلق بدعم مبادرة الزعيم التاريخي للحزب عبد الله أوجلان، التي تستهدف معالجة جذرية للقضية الكردية.7– تخوف حزب العمال الكردستاني من بناء تحالف بين بغداد ودمشق وأنقرة: بعد مرور نحو شهرين على سيطرة الإدارة السورية الجديدة على مفاصل المشهد السوري بدعم تركي لا محدود، بات المشهد أكثر تعقيداً؛ فالهوة التي كانت بين دمشق وأنقرة خلال عهد نظام الأسد، والتي كان الكردستاني كان يراهن عليها، انتهت، وأصبحت أنقرة الحليف الاستراتيجي لسوريا، بالإضافة إلى مساعي أنقرة إلى تقريب المسافات بين بغداد والإدارة السورية الجديدة، وهو ما ظهر في تحول الموقف العراقي بشأن الإدارة السورية، ودعوة رئيس وزراء العراق محمد شياع السوداني في 7 فبراير 2025 إلى أهمية التعاون مع دمشق فيما يخص ضبط الحدود ومكافحة الإرهاب. وبطبيعة الحال، فإن هذا السيناريو يشكل هاجساً كبيراً بالنسبة إلى حزب العمال الكردستاني؛ لأن العراق برغم استجابته للضغوط التركية لا يزال يمثل ملاذاً آمناً لنفوذ وتحركات الكردستاني.خيارات متعددةختاماً، يمكن القول إن قرار حزب العمال الكردستاني يرتبط في جانب معتبر منه بتوفير بيئة خصبة لدفع فرص التقارب مع تركيا، وتوفير خيارات متعددة في تعامله مع التطورات السياسية والأمنية التي تشهدها سوريا والعراق، والتي خصمت من قدرته ونفوذه السياسي والميداني.

لماذا أعلن حزب العمال الكردستاني عن وقف مهاجمة تركيا؟