كرم سعيد

تسعى تركيا في ظل التطورات العسكرية والسياسية التي تشهدها الساحة السورية لإعادة ملف التقارب بين أنقرة ودمشق إلى دائرة الاهتمام، بعد أن كان قد تجمد خلال الأشهر الماضية بسبب صعوبة تجاوز القضايا الخلافية بين البلدين، وذلك من خلال محاولة إعادة تفعيل مبادرة رئيس الوزراء العراقي "محمد شياع السوداني" للوساطة مع سوريا، وتسهيل عقد اجتماع الرئيسين "رجب طيب أردوغان" و"بشار الأسد". إذ كشف وزير الخارجية التركي "هاكان فيدان"، في 23 نوفمبر 2024، في تصريحات لممثلي وسائل الإعلام التركية، عن تقدير بلاده لجهود بغداد للوساطة بين أنقرة ودمشق، قائلاً: "نقدر جهود بغداد، التي أبدت نية في هذا الصدد، وتركيا منفتحة على مبادرة مثل هذه في حال رغب العراق في استضافتها على أراضيه"، وأضاف: "إن تركيا وسوريا والعراق دول جارة تشترك في حدود برية، ويجب على الدول الثلاث أن تجتمع كما في الماضي لبحث قضايا مهمة بطريقة أكثر هيكلية ومنهجية".عوامل محفزةترتبط المحاولات التركية لدفع عملية تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق بجملة من الدوافع، التي يتمثل أبرزها فيما يلي:1- تفوق "قسد" الميداني على الفصائل الموالية لأنقرة: تمكنت قوات سوريا الديمقراطية "قسد" من خلال تكتيك التسلل الليلي غير المرئي في عملياتها العسكرية، من استنزاف موارد الفصائل المسلحة الموالية لتركيا في شمال شرق سوريا، وآخرها قتل ما لا يقل عن 15 مقاتلاً من عناصر حركة "التحرير والبناء" الموالية لتركيا في 24 نوفمبر 2024 على محور "الدغلباش" في ريف حلب. وخلال الأشهر الماضية، كثفت "قسد" من عمليات التسلل الليلية، مما أسفر عن وقوع خسائر بشرية ومادية في صفوف المقاتلين الموالين لتركيا، وهو ما قلل من قدرة هذه الفصائل على شن هجمات أو تأمين مناطق نفوذها. كما عززت انتصارات "قسد" الأخيرة من ثقة مقاتليها في تحقيق الأهداف الميدانية.2- تزايد الأعباء على القوات التركية في شمال العراق: تحولت العمليات العسكرية في شمال العراق ضد حزب العمال الكردستاني إلى عبء على تركيا، بعدما تجاوزت المدة الزمنية التي كانت مقررة لحسم المعركة، وهو ما منح حزب العمال الكردستاني فرصاً أكبر لاستعادة توازنه وتطوير وسائله القتالية باستدراج الجيش التركي إلى حرب استنزاف لم يكن مستعداً لها، خصوصاً بعد توسيع الأخير خلال الأشهر الماضية من نطاق عملياته، والتي امتدت إلى مناطق جبلية وعرة يجيد مقاتلو الحزب فنون القتال داخلها. وتصاعدت مخاوف تركيا من نشاط الحزب بعد تعرض نقاطها العسكرية في إقليم كردستان العراق لثلاث هجمات مفاجئة بالمسيرات منذ بداية نوفمبر 2024، بالإضافة إلى توسع الحزب في حرب العصابات ضد القوات التركية.3- تراجع روسيا عن دعم التقارب التركي-السوري: تراجعت روسيا عن دورها الداعم للتقارب التركي- السوري، حيث أبدت موسكو دعماً لموقف دمشق القائم على التمسك بالانسحاب العسكري التركي من شمال سوريا قبل الحديث عن أي مفاوضات. وفي 14 نوفمبر 2024، اعتبر مبعوث الرئيس الروسي إلى سوريا "ألكسندر لافرنتييف" أن تركيا تتصرف "كدولة احتلال" في سوريا.والملاحظ أن روسيا قللت من الاهتمام بدفع هذا الملف، وهو ما ظهر في معارضة موسكو تهديدات أنقرة بشن عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا، بالإضافة إلى دعمها قدرات الجيش السوري في مواجهة الفصائل المسلحة الموالية لتركيا في الداخل السوري. ووفقاً للعديد من التقديرات، فإنّ التحول اللافت في موقف موسكو يعود إلى استيائها من الدعم التركي لأوكرانيا، فضلاً عن قلق موسكو من توجُّه تركيا لتعزيز وجودها العسكري في سوريا، خاصةً بعد الإعلان عن فوز "ترامب".4- تصاعد التوترات المتنامية بين تركيا وإسرائيل: لا يمكن فصل تصريحات وزير الخارجية التركي "هاكان فيدان"، في 23 نوفمبر 2024، بشأن حرص بلاده على إعادة تفعيل الدور العراقي للتقارب مع دمشق، عن تصاعد المخاوف التركية من الارتدادات العكسية للحرب الإسرائيلية الحالية في الإقليم. وقد دخلت العلاقات بين تركيا وإسرائيل مرحلة جديدة من التوتر في الآونة الأخيرة بعد إعلان تركيا قطع العلاقات التجارية مع إسرائيل، ومنعها في 17 نوفمبر 2024 عبور طائرة الرئيس الإسرائيلي "إسحاق هرتسوج" الأجواء التركية. يُضاف إلى ذلك تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي "جدعون ساعر" في 10 نوفمبر 2024 التي أشار فيها إلى أهمية توثيق التحالف بين إسرائيل والمجتمعات الكردية. وفي ضوء ذلك، تعي تركيا أن تأمين حدودها مع سوريا، ودعم العلاقات مع دمشق، يوفر بيئة خصبة لتوفير أوراق رابحة في مواجهة التهديدات الإسرائيلية لتركيا.5- تعثر مبادرات حل الصراع مع حزب العمال الكردستاني: ترتبط محاولات تركيا لإحياء جهود الوساطة العراقية بتراجع فرص حل المسألة الكردية، وعدم نجاح مبادرة زعيم حزب "الحركة القومية"، "دولت بهتشلي"، لحلحلة الملف الكردي، وهو ما تجلى في قرار الحكومة التركية في 20 نوفمبر 2024 بمنع الزيارات لزعيم حزب العمال الكردستاني "عبد الله أوجلان" لمدة 6 أشهر. كما أقالت وزارة الداخلية التركية، في 4 نوفمبر 2024، ثلاثة رؤساء بلديات منتخبين جنوب شرق تركيا بعد اتهامهم بدعم منظمات إرهابية.6- استباق تحركات الخصوم والمعارضة المحلية بتركيا: تسعى أنقرة عبر إعادة توظيف الوساطة العراقية للتقارب مع دمشق إلى قطع الطريق على المعارضة المحلية في تركيا، والتي تسعى إلى انتزاع زمام المبادرة لحسم ملف التطبيع مع سوريا، وهو ما أثار قلق الحزب الحاكم، خصوصاً بعد إعلان نائب حزب "الشعب الجمهوري"، "إلهان أوزكال"، في 12 أكتوبر 2024، عن إرسال حزبه رسالة رسمية إلى القيادة السورية يعبر فيها عن رغبته في زيارة دمشق، وإجراء مباحثات مع المسؤولين السوريين، وتأكيده على أن رد الحكومة السورية "لم يكن سلبياً".مسارات محتملةفي ضوء المتغيرات السابقة، ثمة مسارات محتملة بشأن مساعي تركيا لإحياء الوساطة العراقية للتقارب مع دمشق، تتضح عبر ما يلي:1- مسارعة بغداد لدعم التقارب بين أنقرة ودمشق: يتمثل المسار الأول في دعم العراق للتقارب بين أنقرة ودمشق ومسارعته للوساطة، حيث تعكس مؤشرات عدة وجود دعم عراقي للتطلعات التركية لحسم التطبيع مع دمشق، والوصول إلى تسوية للملفات العالقة بين البلدين، باعتبار أن ذلك يبقى أولوية استراتيجية في ظل تصاعد التهديدات الإسرائيلية للعراق، واتهام إسرائيل حكومة "محمد شياع السوداني" بتحمل المسؤولية عن هجمات المليشيات المسلحة الموالية لإيران في الداخل العراقي على أهداف إسرائيلية. كما أن ثمة قناعة عراقية بأن دعم الرؤية التركية للعلاقة مع سوريا، يوفر بيئة خصبة لدفع تركيا لاتخاذ مزيد من خطوات تفكيك القضايا العالقة مع العراق، وخاصةً ملف المياه، وصادرات النفط العراقي عبر ميناء "جيهان التركي". وفي هذا الإطار، يبدو أن التحول الأخير في موقف الحكومة التركية للتطبيع مع دمشق يتسق مع الموقف العراقي بالأساس من هذا الملف؛ إذ إن ثمة حرصاً عراقياً على تطوير العلاقات السورية-التركية، باعتبار ذلك يحقق جملة من المكاسب العراقية من بينها تعزيز دور العراق كوسيط إقليمي، بالإضافة إلى قناعة بغداد بأن هذا التقارب يُسهم في معالجة التحديات الأمنية على طول الحدود العراقية مع سوريا والعراق، خاصةً مع عودة النشاط العملياتي لتنظيم "داعش".2- تأجيل استجابة العراق للوساطة بين تركيا وسوريا: يتعلق المسار الثاني بتأجيل استجابة العراق لممارسة دور الوسيط، فعلى الرغم من حرص العراق على تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، فإن ثمة ترجيحات تُشير إلى إمكانية تأجيل العراق العودة لدور الوسيط، خصوصاً في ظل انشغال بغداد بمواجهة التهديدات الإسرائيلية، بالإضافة إلى ضغوط النخب الشيعية الموالية لإيران لتعطيل حراك حكومة "السوداني" لجهة الوساطة بين أنقرة ودمشق، إذ إن إيران لا ترغب في التطبيع بين البلدين في التوقيت الحالي، وتسعى إلى الحد من النفوذ التركي على الساحة السورية.وقد تعرضت حكومة "السوداني" في الآونة الأخيرة لضغوط سياسية داخلية من الأحزاب والفصائل المناهضة للنفوذ التركي في العراق، خاصةً مع إطالة أمد العملية العسكرية التركية في شمال العراق، وهو ما أسفر عن تداعيات سلبية على مصالح العراق وسيادته.3- فشل بغداد في استعادة دور الوسيط بين أنقرة ودمشق: ينصرف المسار الثالث إلى فشل استعادة دور الوسيط، في ظل قناعة العراق بأن التنافس الإقليمي والدولي الحالي على الساحة السورية قد يتسبب في تعثر الوساطة، ويفقدها زخمها، خاصةً بعد دعوة موسكو لضرورة خروج تركيا من سوريا، ووصفها بـ"دولة احتلال". كما أن سوريا قد لا تُبدي تجاوباً مع مساعي العراق حالياً بسبب تجدد الصراع بين الفصائل الموالية لتركيا وقوات الجيش السوري.تحديات مغايرةختاماً، يمكن القول إن دعوة تركيا لإحياء دور الوسيط العراقي لدفع عملية التطبيع مع سوريا تأتي في توقيت ضاغط على أنقرة، بيد أن ثمة تحديات مغايرة ربما تدفع العراق لعدم التجاوب مع الدعوة التركية، أو على الأقل ترحيلها إلى وقت آخر، ومن أبرز هذه التحديات هو انشغال حكومة "السوداني" في مواجهة التهديدات الإسرائيلية المحتملة. علاوةً على ذلك، يرتبط العراق بعلاقات وثيقة مع إيران، التي تعتبر حليفاً رئيسياً لسوريا، وقد يؤدي دفع بغداد إلى خطوات متسارعة نحو التطبيع بين دمشق وأنقرة إلى إحداث توتر في هذه العلاقة الاستراتيجية. كما أن الضغوط الدولية والإقليمية قد تدفع العراق إلى تبني موقف أكثر تحفظاً حيال هذا الملف.

لماذا تسعى تركيا لاستعادة الوساطة العراقية للتقارب مع دمشق؟