كرم سعيد

رغم أن العلاقات مع موسكو تكتسب في التوقيت الحالي أهمية خاصة بالنسبة إلى تركيا – لا سيما بعد اقتراح الرئيس فلاديمير بوتين في نوفمبر الماضي، تحويل تركيا إلى مركز إقليمي للغاز الطبيعي، بالإضافة إلى السماح لأنقرة بتسديد جانب من مدفوعات وارداتها من الغاز الروسي بالروبل، ناهيك عن أن العلاقة مع موسكو تمثل أحد المتغيرات الأساسية التي يمكن أن تساعدها في مواجهة الضغوط الغربية التي تتعرض لها، والتي تصاعدت حدتها بعد رفض الموافقة على انضمام السويد إلى حلف الناتو – فإن ذلك لم يكن يعني دخول العلاقة مرحلة التحالف الاستراتيجي؛ فثمة توتر مكتوم بين البلدين انعكس مؤخراً في التحركات التركية لمنع نقل البضائع الخاضعة للعقوبات الغربية إلى روسيا، وهو ما يُفسِّر الزيارة المقررة لوزير الخارجية الروسي لافروف إلى تركيا في 6 و7 أبريل الجاري؛ لوضع حد لهذه الأزمة، وتفكيك القضايا الخلافية التي ظهرت لتوها بين البلدين، ويمكن أن تؤدي في النهاية إلى إحداث فتور في العلاقة بين موسكو وأنقرة.منغصات متعددةشهدت العلاقات التركية الروسية عدة تطورات مهمة خلال الفترة الأخيرة، وهي التطورات التي يمكن أن تؤثر على الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، ويمكن عرضها على النحو التالي:1– التضييق على نقل البضائع الروسية إلى تركيا: تشهد عمليات نقل البضائع والمنتجات التي تستوردها موسكو وتمر عبر تركيا، أزمة كبرى في التوقيت الراهن، بعد أن أوقفت أنقرة، منذ مارس الماضي، نقل البضائع التي تخضع لعقوبات غربية إلى روسيا. وسلَّمت الحكومة التركية – بحسب "سيتين تيكديلي أوغلو"، رئيس اتحاد مُصدِّري المعادن الحديدية وغير الحديدية في إسطنبول – الشركات قائمةً بالسلع الأجنبية المحظورة، وأصدرت تعليمات لها بعدم نقلها إلى روسيا. ويبدو أن هذا التحرك نحو محاصرة تمرير البضائع إلى روسيا جاء في سياق مساعي تركيا لجَسْر الفجوة مع القوى الغربية، التي اتسعت في الفترة الأخيرة بعد تحذير واشنطن وعدد من الدول الأوروبية، تركيا من مخاطر تحويل أنقرة إلى ممر لتمرير المواد الكيميائية والرقائق الدقيقة وغيرهما من المنتجات التي يمكن أن تستخدمها روسيا في صناعاتها العسكرية، بالإضافة إلى استهداف الإدارة الأمريكية البنوك التركية التي اندمجت في نظام "مير" الروسي للمدفوعات. وهنا يمكن فهم إشارة أنقرة على أنها تُعارِض العقوبات من حيث المبدأ، لكنها أكدت أنه لن يتم التحايل عليها في تركيا، وأن البضائع المنقولة لن يكون بإمكان الجيش الروسي استخدامها.2– إمكانية التخلي التركي عن صفقة S400 الروسية: لا ينفصل التوتر المكتوم بين أنقرة وموسكو عن صفقة منظومة الدفاع الصاروخية إس 400، وتلميح تركيا إلى إمكانية التخلي عن الصفقة أو على الأقل عدم الحصول على دفعة ثانية منها؛ حيث أعلنت شركة الصناعات الدفاعية التركية "أسيلسان" في 15 مارس الماضي، أن تركيا ربما لا تحتاج منظومة الدفاع الجوي الصاروخية الروسية "S–400" لحماية نفسها. وأضافت الشركة على لسان رئيس مجلس إدارتها "هالوك جورجون"، أن معداتها المحلية تقوم بهذا الدور على نحو متزايد، وهي التصريحات التي أثارت توتر موسكو، وعزَّزت مخاوفها بشأن إمكانية حدوث استدارة تركية شاملة تجاه الغرب.3– الموافقة على عضوية فنلندا في حلف الناتو: تصاعد التوتر المستتر بين أنقرة وموسكو مؤخراً بعد موافقة البرلمان التركي في 31 مارس الماضي على تمرير مشروع قانون يسمح لفنلندا بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو". ويشار إلى أن موسكو ثمَّنت في البداية معارضة تركيا انضمامَ فنلندا والسويد إلى الناتو، غير أن التحول الحادث في الموقف التركي، والموافقة على عضوية فنلندا، فضلاً عن إبداء أنقرة مرونة نوعية تجاه عضوية السويد؛ كل ذلك قد يُنذِر بتداعيات سلبية على العلاقات التركية الروسية، وربما يؤدي إلى صدام بين أنقرة وموسكو مستقبلاً إذا تمدََّدت الحرب الروسية الأوكرانية. وبحسب تقديرات روسية، فإن الموافقة التركية على عضوية فنلندا في الناتو، لم تأخذ في الحسبان المصالح الاستراتيجية لموسكو التي تعتبر أن دمج فنلندا – التي تربطها حدود برية تصل إلى نحو 1300 كم مع روسيا – في حلف الناتو يمثل تهديداً وجودياً للأمن القومي الروسي.4– دعم موسكو تشدد "الأسد" تجاه أنقرة: على الرغم من أن موسكو تلعب دوراً مهماً في كسر حدة التوتر بين أنقرة ودمشق، تمهيداً لتطبيع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، فإن التحول الحادث في موقف الرئيس السوري بشار الأسد عشية زيارته إلى موسكو في منتصف مارس الماضي، وإبداءه المزيد من التشدد بشأن المصالحة مع أنقرة، زاد من تعقيد العلاقة بين موسكو وأنقرة؛ إذ إن ثمة تقديرات تركية تعتقد بأن موسكو لا تريد هذه المصالحة دون ثمن حقيقي يتمثل في ضمان عدم انعطافة أنقرة تجاه الغرب، والحفاظ على حيادها الإيجابي تجاه الأزمة في أوكرانيا. كما ترى أن تشدد الأسد تجاه أنقرة لا ينفصل عن حسابات موسكو حيال تركيا، وسعيها إلى الرد على التوجهات التركية الأخيرة، التي تتعارض مع المصالح الروسية، وأهمها تشديد القيود على عبور البضائع التي تستوردها روسيا من الخارج، فضلاً عن موافقتها الأخيرة على لحاق فنلندا بعضوية الناتو.5– التنافس في مناطق النفوذ المشتركة بين البلدين: يرتبط التوتر المستتر بين أنقرة وموسكو في جانبٍ منه، بمحاولة كلٍّ منهما إضعافَ حضور الأخرى في مناطق النفوذ المشتركة. وتجلى ذلك في سعي تركيا إلى توظيف الانشغال الروسي بالحرب الأوكرانية لتعزيز حضورها في منطقة القوقاز، وبخاصة الجمهوريات الناطقة بالتركية، بالإضافة إلى توسيع حضورها الميداني على الساحة السورية. وفي التحول المقبل، ثمة مساعٍ روسية لتجذير نفوذها، ومزاحمة النفوذ التركي في ليبيا ومناطق غرب أفريقيا.تداعيات محتملةمن دون شك، فإن التوتر المستتر بين أنقرة وموسكو قد يفرض تداعيات عديدة، ومنها ما يلي:1– تشديد قيود أنقرة على واردات روسيا: يرتبط أهم التداعيات بتصاعد التوتُّر بين البلدين، ونقله إلى مستوى العلانية؛ فقد تؤدي التحركات التركية بشأن تشديد القيود على عبور واردات روسيا من الخارج عبر أراضيها، في ضوء خضوع بعض البضائع الروسية المستوردة للعقوبات الغربية، إلى تصاعد التوتر بين أنقرة وموسكو؛ إذ تعتبر الأخيرة هذا السلوك التركي تعاوناً مع الغرب ضد المصالح الروسية، رغم المصالح المشتركة التي تجمع موسكو وأنقرة.2– احتمالية تراجع "بوتين" عن زيارته المقررة إلى تركيا: يُتوقَّع أن تؤدي هذه الأزمة إلى تراجع الرئيس الروسي عن زيارته التي كانت مقررةً إلى تركيا أواخر أبريل الجاري. وكان الرئيس التركي أعلن، في نهاية مارس الفائت، أن نظيره الروسي قد يزور تركيا في 27 أبريل؛ لتدشين أول مفاعل للطاقة النووية في البلاد، الذي شيَّدته شركة "روساتوم" الروسية الحكومية للطاقة النووية.3– ممارسة موسكو مزيداً من الضغوط على أنقرة: يُتوقع أن تتجه موسكو إلى ممارسة مزيد من الضغوط على تركيا؛ من أجل تليين مواقفها بشأن السماح لعبور الواردات الروسية عبر أراضيها. وهنا فإن اتجاهات عديدة ترى أن موسكو قد تحاول استثمار تعويل تركيا على الغاز الروسي باعتبار ذلك آليةً لممارسة ضغوط عليها. لكن في المقابل، فإن الإجراءات التركية الأخيرة نحو موسكو، قد تُسهِم في التحايل على القضايا الخلافية بين أنقرة والغرب؛ حيث يمكن أن تُلقى هذه الإجراءات التي اتخذتها تركيا – ومنها تجميد تمرير البضائع الروسية الخاضعة للعقوبات الغربية – من جديد على السياسة التي تتبنَّاها تركيا حيال خفض التوتر مع الغرب، باعتبار أن أحد أهداف القوى الغربية في التوقيت الحالي هو تعزيز الضغوط على موسكو، وتقويض قوتها في مواجهة أوكرانيا. وبمعنى آخر، فإن التحركات والتوجهات التركية الأخيرة حيال موسكو، يمكن أن تُمثِّل إشارات إيجابية للغرب، وأن تدفعه نحو تجاوز الملفات الشائكة مع تركيا.4– بحث النظام التركي عن مقاربة أكثر برجماتيةً: خلف ما سبق، فإن التوترات الأخيرة بين أنقرة وموسكو، قد تدفع أنقرة إلى تغيير سياستها إزاء العلاقات مع موسكو؛ إذ إن التطورات التي أنتجتها الأزمة الأوكرانية، وعجز موسكو عن تحقيق انتصار لافت، واستمرار الدعم الغربي لحكومة كييف؛ كل ذلك يطرح دلالة مهمة تتمثل في أن مجريات الأزمة الأوكرانية، وانعكاساتها على الارتباطات المصلحية بين الغرب وأنقرة، قد تدفع الأخيرة نحو تغيير محتمل في مواقفها حيال الأزمة الأوكرانية. وهنا فإن هذا التغيير المحتمل قد يساهم في اقتراب تركيا من السياسة الغربية، خاصةً أن واشنطن برَّرت خلافاتها مع تركيا، ومنها استبعاد أنقرة من منظومة إنتاج طائرات إف 35، بتعزيز انعطافاتها تجاه الشرق، وبخاصةٍ موسكو وبكين.ختاماً، يمكن القول إن التوتر المستتر بين البلدين في عدد واسع من الملفات، قد يؤثر على التعاون الاستراتيجي بين البلدين، وقد يحمل ارتدادات سلبية على مستقبل العلاقة بين أنقرة وموسكو، غير أن ذلك لا يعني الوصول إلى حد القطيعة؛ إذ إن ثمة اعتبارات برجماتية تمثل جداراً صلباً تدفعهما نحو الحفاظ على علاقاتهما؛ ففي الوقت الذي لا تزال تركيا تعاني فيه من الضغوط الغربية في العديد من القضايا الخلافية، فإن الرئيس أردوغان يبدو بحاجة إلى استثمار دوره باعتباره وسيطاً في الأزمة الأوكرانية، وخاصة في قضية كقضية الحبوب؛ لإثبات موقعه على الساحة الدولية، واستثمار هذا الموقع في العملية الانتخابية المقبلة. ومن جانبه، فإن الرئيس بوتين رغم سأمه من بعض التوجهات التركية المتعارضة مع المصالح التركية، يبدو بحاجة إلى تركيا لمواجهة الاستهداف الغربي لبلاده.

ما أبعاد التوتر المكتوم بين أنقرة وموسكو؟