د. صدفة محمد محمود

شهدت كولومبيا، في 21 أبريل الجاري، تنظيم قطاعات واسعة من المعارضة والجمعيات الطبية واتحاد سائقي الشاحنات، احتجاجات حاشدة ضمَّت مئات الآلاف من الأشخاص، ولم تتركز فقط في المدن الرئيسية، مثل بوجوتا وميديلين وكالي، ولكن أيضاً في العديد من البلديات، وهو ما يُعَد اختباراً لمدى شعبية الرئيس الكولومبي "جوستافو بترو". وتعكس المشاركة الواسعة في الاحتجاجات، قلقاً مجتمعياً بشأن مخاطر مقترحاته الإصلاحية.على الجانب الآخر، تدَّعي الحكومة أن هذه الاحتجاجات مدفوعة من قبل عناصر محافِظة تقاوم التغيير وترغب في الحفاظ على مزاياها. وبعض النظر عن هذا الجدل، فإن هذه الاحتجاجات تأتي في ظل احتدام الخلافات بين الرئيس الكولومبي وبعض الأحزاب والقوى السياسية داخل الكونجرس حول مقترحات الإصلاح التي تسعى الحكومة إلى إقرارها، في ظل تصاعد التحديات الاقتصادية والأمنية التي تواجهها كولومبيا، التي تُعاني من تنامي حالة الاستقطاب السياسي.عوامل متعددةتنوعت الدوافع التي حرَّكت الاحتجاجات التي شهدتها كولومبيا مؤخراً، ومن بينها:1– الجدل حول إصلاح القطاع الصحي: منذ إقرار إصلاحات ضريبية تصاعدية في ديسمبر 2022، كافح بترو من أجل تمرير قوانين جديدة لوعوده الأساسية من خلال الكونجرس، خاصةً ما يتعلق بإصلاح قوانين الصحة والمعاشات التقاعدية والعمل. وتهدف هذه الإصلاحات إلى الحد من أوجه عدم المساواة. ويشجع بترو على تقليل مشاركة القطاع الخاص والمزيد من السيطرة الحكومية، بجانب مزايا أفضل للعمال. ومع ذلك، يُجادل معارضو الرئيس بأن مثل هذه التغييرات قد تهز الأسس الاقتصادية لكولومبيا؛ ما يزيد الأخطار على الاقتصاد الضعيف بالفعل.وتسبَّب مقترح الإصلاح الصحي في بدء حدوث تصدع في الائتلاف الحاكم الذي يضم ليبراليين ومحافظين ووسطيين؛ بسبب رفض الحكومة إجراء تغييرات عليه؛ ما أدى إلى رفضه في أبريل الجاري، من قِبل لجنة بالكونجرس. ويهدف مقترح الإصلاح الصحي إلى إنشاء وكالة حكومية من شأنها أن تركز المدفوعات لضمان الصرف السريع للعيادات والمستشفيات، التي كثيراً ما تشكو من تأخير الدفع، في حين حذر المنتقدون من أن خطة الإصلاح تستهدف تعزيز سيطرة الدولة على قطاع الرعاية الصحية؛ ما سيفتح الباب أمام الفساد وعدم الكفاءة.ورداً على الهزيمة التشريعية في الكونجرس، سعت حكومة بترو، خلال الشهر الجاري، إلى إيجاد طرق أخرى لتعزيز نفوذ الدولة، من خلال فرص سيطرتها على شركتَي تأمين رئيسيتَين لديهما نحو 16 مليون شخص مُؤمَّن عليهم، بزعم أنهما فشلتا في توفير الرعاية الكافية. وانتقدت المعارضة هذه الخطوة، قائلةً إنها ستمنح الحكومة سيطرةً أكبر على نظام الرعاية الصحية، كما أثارت القلق بين شركات التأمين الصحي الخاصة الكبرى في البلاد.2– التفاوض مع الحركات المسلحة: باعتباره مقاتلاً سابقاً في حركة (M–19) المتمردة، أطلق بترو سياسة "السلام التام" الطامحة، التي تقترح التفاوض مع الجماعات المسلحة لإنهاء ستة عقود من الصراع المسلح. ومع ذلك، تعاني سياسة "السلام التام" التي تنتهجها الحكومة من نكسات. ويرفض المنتقدون التنازلات التي تتلقَّاها الجماعات المسلحة في خضم مفاوضات السلام، على الرغم من الانتهاكات المتكررة للاتفاق والقليل من علامات الاستعداد لإلقاء أسلحتها. وعانت المفاوضات مع متمردي جيش التحرير الوطني (ELN) والمنشقين عن القوات المسلحة الثورية الكولومبية (FARC) من عدة أزمات؛ بسبب استمرار عملية الاغتيالات والاختطاف والهجمات على قوات الأمن وابتزاز الشركات المحلية. والجدير بالذكر أنه سبق أن صوَّت الكولومبيون في استفتاء عام 2016 ضد خطة للسلام بين الحكومة الكولومبية ومتمردي القوات المسلحة الثورية الكولومبية.3– أسلوب بترو في الحكم: انتُخب بترو في أغسطس 2022 بصفته أول رئيس يساري في تاريخ كولومبيا الحديث، ومثَّل بالنسبة إلى الكثيرين أملاً في التغيير، وحصل خلال الشهور الأولى لحكمه على معدلات تأييد مرتفعة، بنسبة 62% تقريباً، مقارنةً بسلفه اليميني "إيفان دوكي" الذي أنهى ولايته الرئاسية بنسبة تأييد بلغت نحو %33. ومع ذلك، حاول الرئيس الكولومبي تجاوز المؤسسات الديمقراطية المنتخبة، وخاصةً الكونجرس، من خلال إصدار المراسم الرئاسية. وقد تزايدت المخاوف بشأن نهج بترو السلطوي، خاصةً مع دعوته في مارس الماضي إلى تشكيل جمعية تأسيسية، وهي الدعوة التي جاءت رداً على رفض الكونجرس إصلاح قانون الرعاية الصحية. وواجهت معظم مقترحاته الأخرى – بما في ذلك إصلاحات العمل – تحديات مماثلة في الكونجرس.وانتقد بعض معارضي بترو الدعوة إلى تشكيل جمعية تأسيسية باعتبارها محاولة منه للالتفاف على الشكوك التي تشوب تمويل حملته الانتخابية للرئاسة لعام 2022، لكنه أصر على أن الجمعية التأسيسية التي اقترحها، ستتناول من بين مواضيع أخرى، تنفيذ اتفاقيات السلام لعام 2016، والإصلاح القضائي، وإعادة تنظيم الأراضي وتغير المناخ، ولكن ليس إعادة انتخاب محتملة.دلالات مهمةتكشف الاحتجاجات التي شهدتها كولومبيا عن عدة مؤشرات ودلالات مهمة، من بينها:1– عمق الاستقطاب السياسي: وصل بترو إلى السلطة عقب موجة من السخط الشعبي الناتج عن عدم المساواة المنهجية التي أدت إلى تفاقم وباء كوفيد–19. وعلى الرغم من عقود من النمو واستقرار الاقتصاد الكلي، أصبحت كولومبيا ثاني أكثر البلدان تفاوتاً في أمريكا اللاتينية. وفي السنوات الـ20 الماضية، شهدت النخب الحضرية والطبقة الوسطى تحسينات كبيرة في نوعية حياتهم، لكنها تركت وراءها سكان المناطق الريفية ومجتمعات السكان الأصليين والمنحدرين من أصل أفريقي.لذلك أثارت مساعي بترو إلى إجراء تغييرات اقتصادية واجتماعية هيكلية من شأنها أن تمنح الحكومة دوراً أكبر في توفير خدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم والنقل العام، قلقاً بين القطاعات المحافظة والنخب التقليدية، التي تمتعت تاريخياً بنفوذ سياسي واقتصادي مهيمن في كولومبيا. وباللجوء إلى خطاب عاطفي "مناهض للعولمة" والشيوعية، احتشد قادة اليمين في الشوارع ضد الرئيس حتى بعد أسابيع فقط من توليه منصبه. لم تَسْعَ هذه التظاهرات المبكرة إلى معارضة سياسات معينة، بل أرادت نزع الشرعية عن الحكومة المنتخبة ديمقراطياً.ومع استمرار دفع بترو نحو تمرير إصلاحاته المقترحة، بدأت النبرة الاستقطابية تزداد حدتها. وأثار أسلوب الرئيس الكولومبي في ممارسة السياسة والحكم، ردود فعل ناقدة من قبل قطاعات مختلفة في المجتمع، خاصةً مع ابتعاده عن الخطاب التصالحي الذي تبناه في الشهور الأولى لرئاسته، واعتماده المتزايد على خطاب شعبوي. عادةً ما تكون تصريحاته على تويتر أو في التظاهرات العامة عدوانيةً تجاه خصومه، وتهدد باستخدام سلطات الطوارئ أو الشارع للتغلب على العقبات التي يضعها "الآخرون" في طريق أجندة الحكومة.وتزداد حدة الاستقطاب مع اتهام بترو للمعارضة بالتخطيط لقتله ومحاولة الإطاحة بـ"حكومة التغيير"، عبر "انقلاب ناعم"، وهي الاتهامات التي وجدت لها صدى بالفعل في التظاهرات والمسيرات التي نُظِّمت مؤخراً مع دعوة بعض المحتجين إلى تبني نموذج بيرو في الإطاحة بالرئيس "بيدرو كاستيلو"، الذي قام الكونجرس البيروفي بعزله من منصبه واعتقاله عام 2022. ورفع بعض المشاركين في التظاهرات شعارات "بترو.. اخرج"، كما شبَّهه بعض منتقديه بالرؤساء الشعبويين الاستبداديين في أمريكا اللاتينية، واتهموه بالسعي لتدمير كولومبيا "مثل فنزويلا وكوبا وجميع الدول اليسارية".2– تنامي قوة المعارضة اليمينية: خلال الاحتجاجات الأخيرة، نجحت المعارضة اليمينية، على نطاق واسع، في تعبئة المواطنين، وقُدِّر عدد المشاركين في العاصمة الكولومبية وحدها بنحو 70 ألف متظاهر، على الرغم من محاولة بترو التقليل من هذا العدد. لم يكن المشاركون في الاحتجاجات منتمين إلى أحزاب اليمين فقط، وفي مقدمتها حزب المركز الديمقراطي بقيادة الرئيس السابق ألفارو أوريبي، بل جذبت "مسيرة المعاطف البيضاء"، التي روجت لها الجمعية الكولومبية للجراحة، قوة خاصة، مع مشاركة العديد من المنظمات المهتمة بتسليط الضوء على احتياجات وحقوق القطاع الصحي، بالإضافة إلى نجاح المعارضة في حشد سائقي الشاحنات للمشاركة في الاحتجاجات بذريعة تضرُّرهم من السياسات الاقتصادية للحكومة، خاصةً ما يتعلق بالتقليص التدريجي لدعم البنزين.وسبق أن حقق مرشحو المعارضة فوزاً كاسحاً في جميع المدن الرئيسية في كولومبيا، بما في ذلك العاصمة بوجوتا وكذلك ميديلين ثاني أكبر مدينة في كولومبيا ومعقل المعارضة، في انتخابات رئاسة المحافظات والبلديات التي أُجرِيت في 30 أكتوبر 2023، في حين انتخبت مقاطعتان صغيرتان فقط من أصل 32 مقاطعة حكاماً مدعومين من ائتلاف الميثاق التاريخي اليساري الحاكم. وفي كالي؛ المدينة التي قادت احتجاجات كبيرة ضد عدم المساواة في عام 2021 وصوتت بكثافة لصالح بترو في الانتخابات الرئاسية الأخيرة؛ حصل مرشح الميثاق التاريخي على 10% فقط من الأصوات في سباق رئاسة البلدية. وفاز أليخاندرو إيدر – وهو رجل أعمال من يمين الوسط مرتبط بصناعة قصب السكر في المدينة – بنسبة 40%. وكانت نتائج هذه الانتخابات بمنزلة تصويت احتجاجي من قِبل المواطنين على سياسات حكومة بترو، وعلامة واضحة على الاستياء المتزايد من بعض الإصلاحات التي وعدت بها.3– تراجع معدل تأييد بترو: وفقاً لأحدث استطلاع أجرته Invamer Poll ونُشِرت نتائجه في شهر أبريل 2024، حصل الرئيس بترو على نسبة رفض بلغت %60، بينما كانت نسبة تأييده 34% فقط. وهذا يشير إلى أن رفض الرئيس ارتفع نقطتين؛ حيث بلغت النسبة في فبراير الماضي %58.سؤال آخر هو إذا ما كان أولئك الذين استُطلِعت آراؤهم يوافقون على الإصلاحات التي اقترحها الرئيس أم لا. قالت نسبة 34% إنها توافق على ذلك، وقالت نسبة 58% إنها لا توافق. وبالمثل، يعتقد 70% أن الأمور في كولومبيا تزداد سوءاً، ويرى 21% أنها تتحسن. ويعكس هذا الاتجاه الشواغل السائدة لدى السكان، التي تركز أساساً على القانون والنظام والأمن والبطالة والاقتصاد.4– ملاحقة الاتهامات الرئيس الكولومبي: يواجه بترو فضيحة بسبب اتهامات بالتمويل غير القانوني المزعوم خلال حملته الانتخابية، واعتُقل ابنه نيكولاس – وهو سياسي أيضاً – بتهمة غسل الأموال وسط تحقيق في الشؤون المالية للحملة الرئاسية، كما اهتزت الحكومة بسبب فضيحةٍ تورَّط فيها كبير موظفي بترو السابق ومدير الحملة السابق بسبب مزاعم بالتنصت على مربية سابقة. وينفي مسؤولو بترو السابقون ارتكاب أي مخالفات. مع ذلك، فإن حجم المشاركة الشعبية في المسيرة المؤيدة للحكومة، التي دعا إليها الرئيس الكولومبي في الأول من مايو القادم، يمكن أن تمثل مؤشراً على حجم الدعم الذي لا يزال يحظى به بين المواطنين.من جملة ما سبق، يمكن القول إن حكومة بترو تواجه العديد من التحديات التي كانت الاحتجاجات التي شهدتها أحدثَ تعبير عن مخاوف المواطنين بشأنها. ويتوقف مستقبل حكومة الرئيس بترو، الذي من المقرر أن تنتهي ولايته الرئاسية عام 2026، بشكل كبير، على قدرتها على استيعاب مطالب المحتجين، والقرارات التي ستَّتخذها بناءً على ذلك، وهو الأمر الذي يفسر مسارعة الرئيس بترو إلى عقد اجتماع للجنة حكومية الرفيعة المستوى، في 22 أبريل الجاري، لتحليل الاستراتيجيات السياسية للاستماع إلى مطالب قطاع واسع من المواطنين الذين يعارضون الإصلاحات الاجتماعية المثيرة للجدل؛ حيث أكد المشاركون في الاجتماع ضرورة احترام رسالة المحتجينن وإعادة النظر في كيفية إدارة الحكومة لشؤون البلاد، خاصةً أن المناقشات ونتائج مقترحات الإصلاحات ستؤثر على كولومبيا في السنوات القادمة.

أبعاد اندلاع الاحتجاجات في كولومبيا