عقد إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية حلقة نقاشية بعنوان "معضلة برلين: مستقبل الاضطرابات السياسية في ألمانيا" وكان المتحدث الرئيسي: د. سينزيا بيانكو، زميل المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR) برلين – ألمانيا. وقد تناولت الحلقة الملامح الرئيسية للمشهد السياسي في ألمانيا وتأثيرات الأزمة القائمة بعد انهيار حكومة شولتز.

ملامح الأزمة

طرحت المتحدثة الرئيسية عدداً من المحفزات الرئيسية للاضطرابات السياسية في ألمانيا، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:

1- استمرار التداعيات السلبية لأزمة كوفيد–19: تشير د. بيانكو إلى أن وباء كوفيد–19 مثل محفزاً رئيسياً للأزمة السياسية القائمة في ألمانيا، حيث باتت الحكومة الجديدة مطالبة بتمويل حزمة إغاثية للشركات التي عانت من عمليات الإغلاق، وتعويض الناس عن الأموال التي فقدوها. وقد توقع المواطنون الألمان الحصول على هذا النوع من الرعاية الاجتماعية السخية، لذلك لم يكن أمام الحكومة خيار سوى محاولة العثور على الموارد اللازمة لحزمة سخية تسمى حزمة إغاثة كوفيد، ولكن توفير المخصصات المالية لهذه الخطط أفضى إلى وجود خلافات بين أعضاء الحكومة.

2- تفاقم الجدل بشأن سياسات حزب الخضر: تمكن حزب الخضر من تحقيق نتائج إيجابية في انتخابات 2021، ودخل في تشكيل الحكومة الألمانية، ولكن سياسات وأفكار الحزب ساهمت في تعميق الخلافات داخل المكون الحكومي، حيث كان معروفاً عن الحزب تركيز أجندته على قضايا الدفاع عن البيئة، ودعم الحزب الطاقة الخضراء، وعارض استخدام الوقود الأحفوري معارضة قوية، وهو الأمر الذي لعب دوراً كبيراً جداً في تعميق الأزمة السياسية داخل ألمانيا.

وفي سياق متصل، تزايد الاستياء الشعبي تجاه سياسات الحزب، ففي وقت تفاقم أزمة الطاقة في ألمانيا عقب الحرب الأوكرانية، أصبح حزب الخضر غير محبوب لأنه كان يدفع بقوة لاستثمار المزيد من الأموال في تحديث أنظمة الطاقة والانتقال إلى الطاقة الخضراء. لذا فإن ما يسمى برد الفعل الأخضر، والذي كان واضحاً جداً في الانتخابات الإقليمية المحلية الأخيرة، يعني أن حزب الخضر، الذي حقق أداءً جيداً للغاية في عام 2021، أصبح الآن يحقق أداءً ضعيفاً للغاية في استطلاعات الرأي، ومن المتوقع أن يؤدي أداءً سيئاً للغاية في انتخابات فبراير القادمة في ألمانيا.

3- ضغط الحرب الأوكرانية على الموارد المالية الألمانية: في فبراير 2022 هاجمت روسيا أوكرانيا، ما ضغط على المالية العامة في ألمانيا بمطالب أخرى. وكان على الائتلاف أن يخصص أموالاً في الميزانية لدعم أوكرانيا وتقديمها كمساعدات. ثم دعم اللاجئين الأوكرانيين. كما بدأت ألمانيا التفكير في إعادة تسليحها مرة أخرى وتجاوز الإرث التاريخي بعد الحرب العالمية الثانية، حيث قررت ألمانيا بإرادتها، وتحت ضغط من الحلفاء الغربيين، وخاصة الولايات المتحدة، نزع السلاح. لذا فإن الإنفاق العسكري الذي كان يذهب كل عام إلى وزارة الدفاع والجيش كان منخفضاً، مقارنة بكل الدول الأوروبية الأخرى. ولكن دفعت الحرب الأوكرانية برلين إلى التوجه نحو تعزيز إنفاقها العسكري.

4- تصاعد الاستياء الشعبي من ارتفاع أسعار الطاقة: كان للحرب الأوكرانية، بحسب المتحدثة الرئيسية، تأثير على وضع الطاقة في ألمانيا، حيث حاولت برلين بعد الحرب تقليل الاعتماد على الغاز الروسي. وقد مرّت ألمانيا بوقت عصيب للغاية عندما توقفت عن استيراد الغاز الروسي بسبب احتياجاتها من الطاقة، خاصة بالنسبة للصناعة، ولكن أيضاً بالنسبة للمستهلكين. وفي هذا الصدد، كان على ألمانيا إيجاد مصادر بديلة، وهو ما تم من خلال توقيع عقود مع عدد من الدول وفي مقدمتها قطر والإمارات والسعودية.

وأضافت د. بيانكو أن ألمانيا باتت مطالبة بدفع سعر أعلى بكثير لهذه العقود. لذا، حاولت تقاسم التكاليف بين الدولة والمستهلكين، لكن هذا يخلق مشكلة كبيرة لدى الناخبين، لأن الناس فجأة سيضطرون إلى دفع فواتير طاقة أعلى بكثير، لدرجة أن الناس مضطرون لدفع أسعار طاقة في أوقات الشتاء حتى 10 أضعاف أسعار الطاقة عن العام السابق.

وفي هذا السياق، تَوَلّد نوع من الاستياء لدى الناخبين تجاه الحكومة الألمانية، ولكن أيضاً على وجه التحديد مع حزب الخضر، لأنه في سياق أزمة الطاقة، كان حزب الخضر لا يزال يدفع كثيراً لقلة الاعتماد على الوقود الأحفوري والاستثمار في الطاقة الخضراء، والتي تتطلب مرة أخرى الكثير من الاستثمار الأولي من الدولة.

5- تزايد العجز والركود الاقتصادي: أفضت الضغوط المتعددة والمتزامنة على الموارد المالية الألمانية إلى تزايد العجز في الميزانية، وهو ما تزامن أيضاً مع ركود اقتصادي في ألمانيا. وفي هذا السياق، تُشير المتحدثة الرئيسية إلى أن الحكومة حاولت العثور على المال اللازم لمواجهة تداعيات كوفيد–19 وكذلك تداعيات حرب أوكرانيا بطريقتين مختلفتين. الأولى كانت عن طريق نقل الأموال التي خصصوها في البداية لشيء ما نحو شيء آخر. لذا كانت حجتهم أنهم وضعوا هذه الأموال جانباً لاستثمار جديد لكنهم الآن بحاجة إليها لحزم الإغاثة من كوفيد، ولكن في ألمانيا يمثل ذلك الأمر مشكلة كبيرة في الواقع، لأنه لا يُسمح للحكومة بموجب القانون بإعادة تخصيص الأموال مرة أخرى بعد حصولها على موافقة البرلمان.

ولهذا السبب، قضت المحكمة الدستورية الفيدرالية في نوفمبر 2023 بأن ما كانت الحكومة تحاول القيام به بنقل الأموال أمر غير دستوري لأنها لم تقدم حجة قوية بما يكفي لإجراء الطوارئ، بل حاولت نقل الأموال مرة أخرى دون الذهاب إلى البرلمان. وبالرغم من أن الحكومة لم يكن لديها وقت للذهاب إلى البرلمان، فإن المحكمة الدستورية قضت بضرورة الذهاب إلى البرلمان.

وكان قرار المحكمة الدستورية يعني أن بعض الأموال التي تم الوعد بها، على سبيل المثال، للصناعات والشركات لإعادة تشغيل أعمالها وإنتاجها بعد كوفيد-19 لن تخصص لهذا الغرض، وهذا جعل الركود الاقتصادي أسوأ، مع توقع البنك المركزي أداءً ضعيفاً حتى عام 2025.

6- تزايد الضغوط التي تتعرض لها أنشطة الشركات الألمانية: أشارت المتحدثة الرئيسية إلى أن الشركات الألمانية تعرضت لضغوط متصاعدة خلال السنوات الأخيرة. فعلى سبيل المثال، العلامة التجارية الألمانية الشهيرة للسيارات، فولكس فاجن، قررت نقل الإنتاج من ألمانيا، ما أدى إلى خلق مشكلة بطالة كبيرة، وهذه مشكلة ضخمة للسياسيين الألمان بالطبع، وخاصة في تلك الولايات التي تعد فيها فولكس فاجن هي صاحب العمل الرئيسي. تلقت فولكس فاجن الكثير من المزايا الحكومية على مر السنين، لكنها تقول إنها لم تعد قادرة على التعامل مع الأمر، وأنها اتخذت هذا القرار بنقل مقرها. وبطبيعة الحال حاولت الحكومة معالجة هذه القضايا عبر إيجاد موارد جديدة لميزانية الدولة الطموحة والمتطلبة.

7- الخلافات داخل حكومة شولتز حول السياسات الاقتصادية: لقد قررت الحكومة الألمانية إصدار المزيد من الديون والتوجه إلى الأسواق للحصول على المزيد من التمويل، وهذا ما حدث في نوفمبر الماضي، حيث أراد الحزب الديمقراطي الاجتماعي أن يناقش مسألة تخفيض الديون، لكن الحزب الديمقراطي الحر، وهو الحزب الليبرالي المؤيد لانفتاح بيئة الأعمال، لم يرغب مطلقاً في مناقشة مسألة تخفيض الديون، وهذا الأمر خلق تبايناً كبيراً داخل الائتلاف. وقد أفضى ذلك إلى استقالة وزير المالية "كريستيان ليندنر".

وبعد ذلك قرر البرلمان الألماني، يوم 16 ديسمبر 2024، سحب الثقة من المستشار أولاف شولتز، مما مهد الطريق أمام إجراء انتخابات جديدة "مبكرة" في 23 فبراير المقبل، وصوت حينها 207 نواب لصالح شولتز، فيما صوت 394 نائباً ضده، وامتنع 116 نائباً عن التصويت. وهذا الأمر جعل ألمانيا في حالة من عدم اليقين والترقب لما سيحدث في انتخابات 2025.

8- توسع نطاق التوترات المجتمعية المتعلقة بالهجرة: منذ فبراير 2022، رحبت ألمانيا بعدد كبير من اللاجئين الأوكرانيين، وهذا وضع الكثير من الضغوط على الميزانية، وكذلك على المجتمع، وخاصة أن ألمانيا لا تزال تستقبل أعداداً كبيرة من اللاجئين من بلدان أخرى، ومن الشرق الأوسط، وأفريقيا، وبالتالي نشأت الكثير من التوترات الاجتماعية، وقد غذى ذلك الأحزاب المتطرفة، وخاصة حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف، وحزب سارة فاغنكنيشت وهو حزب يساري صغير لكنه حزب متنامٍ.

9- تراجع حضور النخب القيادية في السياسة الألمانية: ترتبط الأزمة السياسية في ألمانيا، في جانب منها، بتراجع النخب القيادية القادرة على إدارة الدولة بعد رحيل أنجيلا ميركل. وبحسب المتحدثة الرئيسية يبدو أنه لا توجد قيادة على المستوى المحلي، هناك أفراد يحاولون الظهور كقادة ولكن في الحقيقة لم يظهر أحد حقاً كزعيم. أولاف شولتز لديه شخصية لكنه ليس على نفس الشهرة التي كانت عليها ميركل. كما أن فريدريش ميرتس، الزعيم الجديد لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، لا يُنظر إليه على أنه فرد يتمتع بالكاريزما أو بشخصية قوية أو قدرات قيادية واضحة. والقيادة في حزب الخضر أدّت بشكل سيئ للغاية في الانتخابات المحلية الأخيرة، بسبب التغيير في قيادة الحزب، والتي لم تكن قوية بما فيه الكفاية.

تحولات الداخل

تطرقت المتحدثة الرئيسية إلى انعكاسات الاضطرابات السياسية على الداخل الألماني، وذلك على النحو التالي:

1- التراجع في مكانة الأحزاب المكونة لحكومة شولتز: أوضحت د. بيانكو أن الاضطرابات السياسية القائمة، وسحب الثقة من حكومة شولتز، سيفضي إلى تراجع مكانة الأحزاب المكونة لحكومة شولتز: الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD)، وحزب الخضر، والحزب الديمقراطي الحر (FDP). فأغلب استطلاعات الرأي لا تدعم الأحزاب الثلاثة في الانتخابات القادمة، كما أن الانتخابات المحلية الأخيرة عكست تراجعاً ملحوظاً في مكانة الأحزاب الثلاثة. وفي الغالب سيكون الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي يقوده شولتز خارج الحكومة.

2- تصاعد فرص حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي: من المرجح أن تتصاعد فرص حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في الانتخابات القادمة. فالحزب الآن تحت قيادة فريدريش ميرتس، وبحسب استطلاعات الرأي يحظى الحزب بدعم يتجاوز 30%، وهذا يعني أننا نتوقع منه أداءً جيداً للغاية في الانتخابات الجديدة المقررة في فبراير 2025. ومع ذلك يرجح نمط الائتلافات الحكومية في ألمانيا.

3- مواصلة تأثير القوى المتطرفة في ألمانيا: لن تتراجع مكانة وتأثير القوى والأحزاب المتطرفة في ألمانيا خلال عام 2025، فالأحزاب المتطرفة، وخاصة حزب البديل من أجل ألمانيا وحزب سارة فاغنكنيشت يمتلكان حضوراً سياسياً، وخطابهما يحظى بقبول من جانب فئات مختلفة.

واعتبرت المتحدثة الرئيسية أن هذا الصعود للأحزاب المتطرفة، وخاصة اليمينية، سواء في ألمانيا أو غيرها كان ناجماً عن فشل الأحزاب اليسارية واليسارية المعتدلة. كما ترفع الأحزاب المتطرفة في ألمانيا شعارات غير مواتية للأعمال التجارية على الإطلاق، فهي أحزاب متشككة للغاية في الأعمال والصناعة.

وفي سياق متصل، يحتمل بصورة كبيرة أن يتصاعد الخطاب المناهض للهجرة داخل ألمانيا خلال الفترة القادمة، وبالنظر إلى مقاطع الفيديو الخاصة بالقوى والأحزاب المتطرفة يبدو أن مشكلتهم لا تقتصر على المهاجرين فحسب، بل وأيضاً على المواطنين الألمان الذين يأتون من خلفيات مختلفة.

4- تزايد المطالب الشعبية بإجراء إصلاحات اقتصادية: في ظل التحديات الاقتصادية الواسعة التي تواجهها ألمانيا، وتفاقم التحديات التي يعاني منها عدد من الشركات الرئيسية في ألمانيا، من المرجح أن تتزايد المطالب الشعبية بإجراء الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة للتعافي. وفي هذا الصدد، ستكون الحكومة الجديدة مطالبة بالتعامل مع ملف الديون، وكيفية الحصول على المزيد من التمويل من أجل دعم قدرة الدولة التنافسية، وإحداث المزيد من الإنعاش الاقتصادي لتجاوز الركود والتأزم الاقتصادي.

5- احتمالية توسيع الصلات الخارجية للأحزاب المتطرفة في ألمانيا: من المرجح أن تحصل الأحزاب المتطرفة في ألمانيا على المزيد من الدعم الخارجي خلال الفترة القادمة، فعلى سبيل المثال، أظهر إيلون ماسك دعماً ملحوظاً لحزب البديل من أجل ألمانيا، ويبدو أن ماسك يدعم هذا الحزب لأنه الحزب الذي يحقق أفضل أداء بين الأحزاب المتطرفة، ويعتقد ماسك أنه إذا دعم هذا النوع من الأحزاب، فسيكونون أكثر تقبلاً له ولمطالبه.

6- صعوبة تحالف الأحزاب الرئيسية مع حزب البديل: تشير د. بيانكو إلى أن الأحزاب الرئيسية في ألمانيا ترفض حزب البديل من أجل ألمانيا، لأن الإرث التاريخي اليميني في ألمانيا لا يزال قوياً للغاية، لذا فإن حقيقة أن هذا الحزب قد تم تعريفه وأظهر علامات على أنه حزب نازي جديد تعني أن الأحزاب الرئيسية لا يمكنها أن تخاطر بخسارة الكثير من الأصوات بالسماح لنفسها بتشكيل ائتلاف مع تلك الأحزاب.

ارتدادات خارجية

انتقلت المتحدثة الرئيسية بعد ذلك إلى الارتدادات الخارجية للاضطرابات السياسية في ألمانيا، وذلك على النحو التالي:

1- استمرار التشكك الألماني في الموقف الأمريكي تجاه أمن أوروبا: من المرجح أن يستمر التشكك الألماني في الموقف الأمريكي تجاه أمن أوروبا، فمع الهجوم الروسي على أوكرانيا لم تعد ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية واثقة بصورة مطلقة في إمكانية الاعتماد على واشنطن في تأمينها ضد المخاطر الخارجية. كما أن أفكار وتصريحات الرئيس الأمريكي "ترامب" عززت من هذه المخاوف والشكوك، وبالتالي اتجهت الدول الأوروبية نحو تعزيز إنفاقها العسكري.

2- التأثير على استقرار الاتحاد الأوروبي: قد ينعكس عدم الاستقرار في ألمانيا على المستوى الأوروبي بقوة لأنه على مستوى الاتحاد الأوروبي هناك الكثير من الأمور والقرارات التي يجب الموافقة عليها بالإجماع. لذا، يتعين على كل حكومة من حكومات الدول السبع والعشرين أن تتفق. أما إذا كانت لديك حكومة غير مستقرة، فمن الصعب جداً أن تكون قادرة على اتخاذ موقف قوي، وخاصة بعض القضايا التي تمثل تغييرات كبيرة، وجميع القضايا المطروحة الآن على مستوى الاتحاد الأوروبي أصبحت قضايا كبيرة، وهناك عدد قليل جداً من القضايا الصغيرة التي يمكن للحكومة أن توافق عليها دون حتى التفكير فيها.

3- المخاوف المستمرة من تأثير صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا: من المتوقع أن يؤثر صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في الانتخابات ليس فقط على سلوك الحكومات تجاه الهجرة والتكامل، ولكن أيضاً على نهج الاتحاد الأوروبي نفسه الذي تحول بالفعل على مدار السنوات الماضية نحو نهج أقوى وأكثر صرامة تجاه قضية الهجرة، لذا من المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه لأن الأحزاب اليمينية المتطرفة ستستمر على الأرجح في الأداء بشكل أفضل وأقوى في الانتخابات.

وتشير المتحدثة الرئيسية في الحلقة إلى أن صعود الأحزاب المتطرفة يؤدي إلى المزيد من الإرباك في السياسات الأوروبية، فحزب البديل من أجل ألمانيا ليس من الأحزاب الصديقة للأعمال التجارية على الإطلاق، وهو حزب متشكك للغاية في الأعمال والصناعة. أما الأحزاب اليمينية الإيطالية فلا تؤيد صندوق النقد الدولي مثلاً، بل يؤيدون أن تكون الشركات الضخمة أقرب إلى العمال، وأن تعيدهم إلى المكانة التي كانوا فيها، وتدعو بقوة إلى فرض ضرائب أعلى بكثير على شركات مثل فيسبوك أو أمازون.

4- تزايد المراهنة على دور المفوضية الأوروبية في ظل أزمات ألمانيا وفرنسا: لن تكون ألمانيا وفرنسا، في ظل الأزمات الداخلية التي تواجهها الدولتان، في وضع يسمح لهما بأن تكونا قائدتين وتدفعان نحو التغيير وتقدمان أفكاراً وسياسات جديدة وتقنعان الآخرين بدعمها، وهو ما يحدث عادة في الاتحاد الأوروبي. هذه المعطيات تعني عدم وجود دولة تدفع نحو الأشياء الجديدة الكبرى ما لم تتولَّ المفوضية الأوروبية نفسها هذا الدور، لذا فقد تحصل المفوضية على دور أقوى بكثير من المعتاد لأنها عادة ما تكون منسقة أكثر من كونها قائدة بشكل واضح، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الكبرى، ولكن قد يكون ذلك في المدى القريب إلى المتوسط.

5- صعوبة تراجع الموقف الألماني من روسيا: صحيح أن طبيعة الحكومة الألمانية الجديدة سيكون لها تأثير على السياسة الألمانية تجاه روسيا، ففي حال تشكيل حكومة من أحد الأحزاب الرئيسية، مثل الحزب الديمقراطي المسيحي بالتحالف مع حزب الخضر، يرجح أن يتواصل الخطاب الألماني التصعيدي تجاه روسيا، وربما يتم تعزيز مسار الإنفاق الدفاعي الألماني، والعكس سيحدث في حال صعود القوى اليمينية المتطرفة، خاصة أن هذه الأحزاب تدفع نحو المزيد من التهدئة مع موسكو.

ولكن مع ذلك يصعب القول إن العلاقات بين الطرفين ستعود إلى وضعها الطبيعي وخاصة في ظل الموقف الأوروبي العام الذي ينظر إلى روسيا كتهديد أمني كبير، وليس من المتوقع أن يتراجع هذا الموقف كثيراً لأن بولندا تدفع بقوة في هذا الاتجاه، وفرنسا تتخذ مواقف واضحة جداً بشأن الأزمة الأوكرانية، وإيطاليا تواصل دعم كييف.

6- استمرار محاولات التأثير الأوروبية على خطة ترامب تجاه الصراع الأوكراني: سوف تستمر محاولات التأثير الأوروبية على خطة ترامب تجاه الصراع الأوكراني، بصرف النظر عن الحكومة الجديدة في ألمانيا، وسوف تواصل أوروبا هنا استخدام أداة العقوبات تجاه روسيا، لذا فمن المتوقع، بحسب المتحدثة الرئيسية، أن تحاول أوروبا إشراك ترامب ودعم خطته لوقف إطلاق النار في أوكرانيا إذا دفعت الخطة روسيا نحو نتائج تحقق المصالح الأوروبية، وفي المقابل يمكن عرض التعاون من خلال تخفيف بعض العقوبات. لذا يُعتقد أن الاتحاد الأوروبي بدلاً من التأثر بالأزمة السياسية الألمانية، سيستخدم حزمة العقوبات كأداة تفاوضية تجاه ترامب ومحاولة تعزيز النفوذ الأوروبي في خطة التوصل إلى وقف إطلاق النار في أوكرانيا.

7- مواصلة ألمانيا والدول الأوروبية رسم شراكات جديدة في مجال الطاقة بعيداً عن روسيا: من غير المرجح أن تتراجع ألمانيا والدول الأوروبية عن سياسة صياغة شراكات جديدة في مجال الطاقة، مع أطراف عديدة بما فيها دول الشرق الأوسط بعيداً عن روسيا، لأنه لا يوجد أحزاب معتدلة في ألمانيا تدفع نحو العودة إلى استيراد الغاز الروسي، ومن غير المرجح أن يكونوا في أي موقف يسمح لهم باتباع هذه السياسة. الإجماع في ألمانيا والعديد من الدول الأوروبية الأخرى وبالتأكيد في بروكسل هو أن روسيا مورد غير موثوق به للطاقة، وأن الأمر سيستغرق عقوداً قبل أن تتمكن بالفعل من إقامة مثل هذه العلاقة الاستراتيجية مع روسيا لتغطية احتياجات الطاقة الأساسية للبلاد مرة أخرى.

وهذا لا ينفي أن هناك بعض الأحزاب على الهامش التي ليست في الحكومة، وليست أحزاباً رئيسية في دول أوروبية مختلفة، تريد إعادة استيراد الغاز الروسي، لكن ذلك لإسعاد الناخبين فقط، وإعادة شراء الطاقة الرخيصة من روسيا.

8- الارتباك في الموقف الألماني تجاه التنافس الأمريكي الصيني: تشير المتحدثة الرئيسية إلى أن العلاقة التي تربط ألمانيا بالولايات المتحدة أقرب بكثير من أي دولة أوروبية، وهذا يترجم أيضاً إلى روابط شخصية بين القادة والسياسيين وقادة الأعمال، هناك الكثير من الأعمال المشتركة بين ألمانيا والولايات المتحدة ليس فقط التصدير أو الاستيراد.

واللافت أن الارتباط بالولايات المتحدة كان في نفس الوقت الذي برزت فيه الصين خلال السنوات العشر إلى الخمس عشرة الماضية باعتبارها السوق الأهم بالنسبة لألمانيا لتصريف منتجاتها وبضائعها، خاصة السيارات الألمانية. والصين سوق ضخمة وهي الآن سوق أكثر أهمية من الولايات المتحدة بالنسبة لألمانيا. وفي ظل هذا الوضع والمخاوف من سياسات ترامب، يبدو أن ألمانيا ستكون في قلب هذه التحديات العالمية، وخاصة التوترات بين الولايات المتحدة والصين والتي ستشمل الاتحاد الأوروبي بأكمله.

وفي هذا السياق المعقد، يبدو أن ألمانيا في وضع صعب للغاية. ومما يزيد من هذه الصعوبة أن يستمر عدم الاستقرار الداخلي في ألمانيا، أو أن يتم تشكيل حكومة ضعيفة، وهذا يعني أنها ستكون غير قادرة على التعامل مع هذه الضغوط المزدوجة من الولايات المتحدة ودونالد ترامب من جهة ومن الصين من جهة أخرى، لذلك هناك الكثير من القلق في برلين والكثير من النظر في كيفية تعامل ألمانيا مع هذه التوترات.

خلاصة القول، تشكل الاضطرابات السياسية وحالة عدم الاستقرار الداخلي في ألمانيا معضلة أمام السياسات الألمانية. فعلى مستوى الداخل، تتراجع الأحزاب المكونة لحكومة شولتز، وذلك في مقابل صعود قوى منافسة، وإن كان التحدي الأكبر يتعلق بصعود الأحزاب المتطرفة والتي قد تعيد تشكيل المشهد داخل ألمانيا، وتدفع نحو المزيد من السياسات المتطرفة، وخاصة على مستوى قضية الهجرة. وعلى المستوى الخارجي، سيكون للاضطرابات السياسية في ألمانيا انعكاسات سلبية على استقرار الاتحاد الأوروبي وقدرته على التعامل مع القضايا الكبرى.

مستقبل الاضطرابات السياسية في ألمانيا (حلقة نقاشية)