تمر العلاقات بين جنوب السودان وأوغندا الواقعتين في إطار إقليم شرق أفريقيا، بمرحلة من تصاعد منحنى التوترات الحدودية بين الجانبين خلال الآونة الأخيرة. وآخر مظاهر ذلك إفادة السلطات المحلية في منطقة "بوجي" الواقعة في إطار مقاطعة "ماجوي" بولاية شرق الاستوائية في جنوب السودان بحدوث تعديات كبيرة من جانب قوات الدفاع الشعبية الأوغندية في سبتمبر 2024، كما تحرك جنود أوغنديون إلى مقاطعة "راجا" بولاية "غرب بحر الغزال" من أجل استخراج رواسب الذهب؛ ما أدى إلى تهجير بعض المجتمعات المحلية وإنشاء العديد من المستوطنات في مناطق منها "كاتوكو" و"جوتليلا" و"أرامبيل" و"أدودي" و"باراجادوانيا"، كما أقامت قوات الدفاع الشعبية الأوغندية أكثر من ثماني ثكنات جديدة على طول الحدود، ونشرت قوات دورية إضافية. وقد أدت هذه الأوضاع المتسارعة في مجملها إلى تفاقم حدة التوتر بين الطرفَين، وهو التوتر الذي صاحبه العديد من التداعيات المحتملة.

اعتبارات مؤثرة

ثمة العديد من الاعتبارات المؤثرة والحاكمة بشأن وتيرة ومستقبل الصراع القائم بين جنوب السودان وأوغندا خلال الآونة الأخيرة، وهي الاعتبارات المتمثلة فيما يلي:

1– ترجيح جنوب السودان نهج التهدئة لتسوية الخلافات مع أوغندا: تبلور ذلك من خلال الموقف الرسمي الذي تبنَّاه البرلمان الانتقالي في جنوب السودان في 13 أغسطس 2024، الذي دعا إلى حل عاجل لقضية توغل الجيش الأوغندي في أراضي جنوب السودان على حدود ولايتَي "شرق الاستوائية" و"وسط الاستوائية"، كما أكدت رئيسة البرلمان "جيما نونو كومبا" في هذا الصدد أن مسألة الحدود هامة للغاية، بيد أن السياسة الخارجية لجنوب السودان تتطلب حلولاً سلميةً لقضايا الصراع، مع الإشارة إلى مناقشة الأمر بشكل دقيق مع الوزراء المعنيين في الحكومة. وعلى الرغم مما سبق، وجَّه بعض أعضاء البرلمان اتهامات إلى أوغندا بالتدخل في شؤون جنوب السودان؛ حيث اتهم البرلماني وعضو الحركة الشعبية لتحرير السودان "جون أقانج دينق" الجيش الأوغندي بالتوغل داخل أراضي دولته، وقتل (17) شخصاً في مقاطعة "كاجو كيجي"، منهم (7) نساء، كما شدد على ضرورة حماية السلامة الإقليمية لجنوب السودان.

ويضاف إلى ما سبق تفضيل جيش جنوب السودان الحل السلمي لهذه التوترات الحدودية مع أوغندا، وهو ما تبلور من خلال التصريح الرسمي الذي أدلى به المتحدث الرسمي باسم جيش جنوب السودان "لول رواي كوانج" في أواخر سبتمبر 2024؛ حيث أكد أهمية حل النزاع الحدودي بين أوغندا وجنوب السودان من خلال المفاوضات عبر القنوات الدبلوماسية، كما أشار إلى أنه من الجيد إدارة القضية من خلال لجنة الحدود الفنية المشتركة المعنية بترسيم الحدود بين الطرفَين. ويأتي هذا التصريح بعد أن نددت سلطات مقاطعة "كاجو كيجي" الواقعة في أقصى جنوب ولاية وسط الاستوائية بانتهاك قوات الجيش الأوغندي أراضي جنوب السودان؛ حيث كان سيتم إنشاء معسكر للجيش الأوغندي.

2– حرص النظام الحاكم في جنوب السودان على استقرار العلاقات مع أوغندا: يمكن القول إن النظام في جنوب السودان يتجنَّب التصعيد مع أوغندا في ضوء التنسيق والتعاون المشترك بينهما؛ فعلى سبيل المثال، قامت قوات الدفاع الشعبية الأوغندية بحماية عاصمة جنوب السودان "جوبا" من هجوم شنه الجيش الشعبي لتحرير السودان (SPLA–IO) – وهي الجماعة المتمردة الرئيسية في البلاد – في بداية الحرب الأهلية في جنوب السودان في الفترة (2013–2018)، كما استمر العمل المشترك والتعاون البيني القائم بين الجيشَين بعد ذلك. وآخر مظاهر ذلك انضمام قوات الدفاع الشعبي الأوغندية، وقوات الدفاع الشعبي لجنوب السودان، إلى قوات من جمهورية أفريقيا الوسطى لمهاجمة ثلاثة معسكرات تابعة لحركة "جيش الرب للمقاومة" في جمهورية أفريقيا الوسطى في أغسطس 2024.

وعلاوةً على ذلك، ورد أن قوات الدفاع الشعبي الأوغندية انتشرت أيضاً حول عاصمة جنوب السودان "جوبا" عندما كان رئيس جنوب السودان "سلفا كير" خارج البلاد في أواخر عام 2023؛ وذلك كإجراء وقائي ضد الانقلاب العسكري المحتمل، وهو ما يجعل الدعم الأوغندي فعالاً في بقاء نظام حكم الرئيس "سلفا كير".

3– تشابك الأهداف والمصالح البينية بين الدولتين: ومن مظاهر ما رصدته بعض التقارير الدولية، وصول نحو (90) جندياً من قوات الدفاع الشعبي لأوغندا إلى مدينة "واو" عاصمة ولاية "غرب بحر الغزال" برفقة أعضاء من جهاز الأمن الوطني في جنوب السودان في 7 أغسطس 2024، كما كان برفقتهم نحو (13) مهندساً: سبعةٌ صينيون وأربعةٌ أوغنديون واثنان من جنوب السودان. وقد انتقلت هذه المجموعة إلى بلدة "بورو ميدينا" القريبة من الحدود مع جمهورية أفريقيا الوسطى؛ حيث يُزعم أن الأوغنديين يقومون بأنشطة التعدين تحت حماية قوات الدفاع الشعبي لجنوب السودان وجهاز الأمن الوطني. وعلى الجانب الآخر، نجد أن أوغندا تستضيف أكبر عدد من اللاجئين وطالبي اللجوء في أفريقيا؛ حيث إن لديها ما يقرب من نحو (1.7) مليون شخص معظمهم من جنوب السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية.

4– تغاضي جنوب السودان عن الاختراقات الأوغندية السابقة لحدودها: يرتبط ذلك بعدم تبني النظام الحاكم في جنوب السودان أي إجراءات حاسمة لوضع حل جذري لمشكلة التوترات الحدودية، التي ارتبطت بالتوترات القائمة على الحدود بين مقاطعة "كاجو كيجي" الواقعة في جنوب السودان ومنطقة "مويو" الواقعة في أوغندا؛ حيث تعرضت هذه الحدود للعبور والاختراق خلال فترات الحروب الأهلية السودانية التي سبقت اتفاق السلام الشامل الموقع في عام 2005. وقد استمرت هذه التوترات الحدودية عقب الاتفاق أيضاً وحصول جنوب السودان على استقلاله في عام 2011، ولا سيما فيما يتعلق بالسيطرة على منطقة "سونيو"، كما تفاقمت التوترات بين مجتمع "كوكو" ومجتمع "مادي" على الحدود بين الدولتين. وقد شهدت هذه التوترات تزايداً كبيراً في عام 2014؛ حيث قُتِل خلالها ما لا يقل عن (20) شخصاً.

وقد تكررت التوترات الحدودية على طول النقاط الحدودية بين مقاطعة "ماجوي" بجنوب السودان ومنطقة "لامو" بأوغندا؛ حيث دخلت قوات الدفاع الشعبية لأوغندا حدود جنوب السودان، وهاجمت القرى وشرَّدت المدنيين في عام 2015، كما حدثت المزيد من التوغلات الأوغندية في مقاطعة "إيكوتوس" في ولاية "شرق الاستوائية" في عام 2022. وقد استمرت هذه التوترات على الرغم من توقيع الطرفين مذكرة تفاهم لتخفيف التوترات الحدودية وإتمام ترسيم الحدود المتنازع عليها في أواخر عام 2015. ويلاحظ عدم تحقيق أي تقدم ملموس في هذا الشأن منذ التوقيع على هذه المذكرة.

تداعيات محتملة

ثمة العديد من التداعيات المحتملة بشأن توترات الحدود القائمة بين جنوب السودان وأوغندا خلال الآونة الأخيرة، وهي التداعيات المتمثلة فيما يلي:

1– تصاعد وتيرة السخط ضد النظام الحاكم في جنوب السودان: قد يؤدي عدم وجود موقف رسمي حاسم تجاه تجاوزات أوغندا الحدودية ضد جنوب السودان خلال الفترة الأخيرة إلى تصاعد وتيرة الانتقادات الشعبية ضد نظام حكم الرئيس "سلفا كير"، ولا سيما في ضوء قرار النظام الحاكم إرجاء عقد الانتخابات الرئاسية لمدة عامين في سبتمبر 2024؛ علماً بأنه كان من المزمع إجراؤها في ديسمبر من العام ذاته. وقد أشارت الحكومة إلى أن هذا الإجراء مرتبط بإفساح المجال أمام استكمال بعض المتطلبات والعمليات اللازمة لإجراء هذه الانتخابات، من قبيل التعداد السكاني، وصياغة دستور دائم، وتسجيل الأحزاب السياسية وغيرها. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن هذا التأجيل يعد الثاني من نوعه؛ حيث سبق أن تم تأجيلها في عام 2022.

2– تأثر الأوضاع الاقتصادية لجنوب السودان بشكل سلبي: قد يدفع تقدم قوات الجيش الأوغندي من أجل السيطرة على مساحات حدودية مشتركة مع جنوب السودان، خاصةً بولاية "غرب بحر الغزال"، إلى سيطرة أوغندا على مناجم الذهب، وهو ما سيقود إلى التأثير على حجم المعروض والإيراد المالي من مبيعات هذا المعدن الاستراتيجي؛ ما سيترتب عليه زيادة تداعيات الأوضاع الصعبة المصاحبة لعدم انتظام العمل أو انقطاع خط أنابيب نقل النفط الخام من جنوب السودان إلى مدينة "بورتسودان" بجمهورية السودان في فبراير 2024. ويرتبط ذلك بتصاعد وتيرة المواجهات المسلحة بين الجيش السوداني بقيادة "عبد الفتاح البرهان" وقوات الدعم السريع بقيادة "حميدتي"، التي بدأت في أبريل 2023.

وقد يؤدي ذلك إلى التأثير على الأوضاع الاقتصادية لجنوب السودان ككل، وقد تصل الخسائر المالية لجنوب السودان إلى نحو (100) مليون دولار شهرياً على الأقل وفقاً لما أكده رئيس اللجنة الفرعية البرلمانية للنفط "ماجايا" في مارس 2024؛ حيث يسهم القطاع النفطي بنحو (90%) من عائدات جنوب السودان، ويمثل تقريباً كافة صادراته؛ وذلك وفقاً لتقديرات البنك الدولي. وبالطبع سيكون لهذه الخسائر المالية تأثيراتها على ارتفاع أسعار السوق، ونقص في المعروض من الوقود، وانقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة، وحودث اضطرابات في توفير الخدمات الأساسية للمواطنين.

3– تفاقم وتيرة الاضطرابات الأمنية على الحدود المشتركة: يرجح ذلك تنامي وتيرة التحركات النوعية التي تقوم بها أوغندا تجاه المناطق الحدودية في جنوب السودان منذ أغسطس 2024، ومنها إنشاء قواعد عسكرية في منطقة "بوجي" بولاية "شرق الاستوائية"، ودخول القوات الأوغندية قريتين، وتدمير الممتلكات وقتل المدنيين، وكذلك قيام هذه القوات بحفر آبار مياه، وتشجيع المدنيين الأوغنديين على الاستقرار في المنطقة؛ ما يشير إلى أنهم يخططون للبقاء في الأراضي التي تدَّعي أوغندا أنها تابعة لها. ويرتبط ذلك بالأساس بوجود احتياطيات ذهبية قيِّمة، وأراضٍ زراعية غنية في المنطقة، ولعل هذا ما دعا المستوطنين الأوغنديين بالفعل إلى إنشاء مزرعة لقصب السكر داخل جنوب السودان. ويضاف إلى ما سبق أن من المرجح أن يحتشد الشباب المحليون في جنوب السودان لمجابهة التعديات التي تقوم بها القوات الأوغندية.

4– التأثير على حيادية دور جنوب السودان في الأزمة السودانية: يعزز ذلك احتمالية وقوع اشتباكات بين قوات الدعم السريع التي قد تسعى إلى استغلال الأوضاع المضطربة على الحدود لتعزيز مصالحها المتعلقة بالتعدين في ولاية "غرب بحر الغزال" بجنوب السودان من جانب، وبين قوات الدفاع الشعبي الأوغندية التي تسعى إلى تعزيز مساحات وقواعد وجودها العسكري في هذه الولاية من جانب آخر، وهو ما قد يعرِّض جهود جنوب السودان للبقاء على الحياد في الصراع الداخلي القائم في جمهورية السودان. وقد يؤدي ذلك إلى التأثير سلباً على مستقبل المبادرة التي أعلنها رئيس جنوب السودان "سلفا كير" بشأن الوساطة بين طرفي الصراع القائم، والتي تم الإفصاح عنها خلال زيارة رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق "البرهان" إلى جنوب السودان في منتصف سبتمبر 2024.

5– احتمالية تزايد نفوذ "قوات الدعم السريع" في جنوب السودان: يدعم ذلك وجود تقارير دولية تفيد بتقديم هذه القوات المساعدة والمساندة لشباب المجتمعات المحلية الذين يحشدون ضد قوات الدفاع الشعبي الأوغندية، ولا سيما في ضوء تقدم عناصر هذه القوات نحو أراضٍ واقعة في جنوب السودان من قبيل "ردوم" و"كفيا كنجي" و"سونجو"، وهي مناطق غنية بالذهب والنحاس والمعادن الأخرى. وقد استغلت عناصر قوات الدعم السريع تقدمها على حساب الجيش السوداني في جنوب "دارفور" خلال الفترات الماضية لبسط سيطرتها على هذه الأراضي، كما رصدت التقارير ذاتها وجود علاقات سياسية واقتصادية بين قوات الدعم السريع وأعضاء رفيعي المستوى في نظام حكم الرئيس "سلفا كير" في جنوب السودان. ولعل هذا ما ييسر لها مسألة الحصول على الوقود والإمدادات من الولايات الحدودية في جنوب السودان، وعلى رأسها مدينة "واو" الواقعة بولاية "غرب بحر الغزال"، التي كانت لازمة في حربها ضد الجيش السوداني في كثير من الفترات منذ بداية اندلاع الصراع في منتصف أبريل 2023.

وختاماً، يمكن القول بوجود فرص واحتمالات قائمة في اتجاه توسع دوائر التوتر على الحدود بين جنوب السودان وأوغندا خلال الآونة المقبلة، ولا سيما في ضوء وجود ميراث سلبي من تكرارها بصور مختلفة خلال السنوات الماضية، بيد أن ذلك قد لا يتحول إلى صراع فعلي على نحو مؤثر على الاتجاه العام للعلاقات بين الدولتين انطلاقاً من طبيعة وتشابكات المصالح المتبادلة بين الطرفين من جانب، وترجيح الموقف الرسمي لجنوب السودان الميل إلى الاحتواء والتهدئة عبر تبني السبل السلمية في تسوية الخلافات القائمة والابتعاد عن المواقف الحادة أو المتطرفة من جانب آخر، كما تطرح الرؤية المستقبلية تزايد وتيرة الرفض والضغوط الشعبية من قِبل المجتمعات المحلية في جنوب السودان لدفع النظام الحاكم إلى تبني مواقف حاسمة حيال توغل القوات الأوغندية داخل أراضيها، وهو ما قد يعزز من تفاقم أزمة الشرعية للنظام الحاكم الآخذة في التراجع خلال الآونة الأخيرة بشكل مطرد.

ما فرص تفجر صراع بين أوغندا وجنوب السودان؟