كرم سعيد

كشفت وكالة المخابرات الكينية، في مطلع يناير 2025، عن شراء 6 طائرات مسيّرة من طراز "بيرقدار" التركية، في خطوة تعكس التطور المتسارع في العلاقات مع أنقرة. ويُبرز هذا التطور دور الطائرات المسيّرة التركية كأداة فعالة في مواجهة التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود في أفريقيا، بالإضافة إلى كونها وسيلة لتعزيز الحضور التركي في كينيا. وتأتي هذه الصفقة ضمن جهود أنقرة لتوسيع نفوذها في شرق أفريقيا، مما يثير تساؤلات حول السياقات التي أُبرمت فيها هذه الصفقة والدوافع الاستراتيجية التي تقف خلفها.سياق مضطربتأتي صفقة المسيّرات التركية التي حصلت عليها كينيا في إطار العديد من التطورات الأمنية، الداخلية والإقليمية، التي تمثل تهديداً لكينيا، ويتمثل أبرزها فيما يلي:&nbsp;1- تصاعد تهديدات حركة الشباب في الصومال: جاءت صفقة المسيّرات في ظل تصاعد تهديدات حركة الشباب الصومالية في المناطق الحدودية بين الصومال وكينيا، إذ تعد الأخيرة من أكثر الدول الأفريقية تأثراً بالاضطرابات الأمنية التي تشهدها الساحة الصومالية، حيث تقوم حركة الشباب في الصومال بتنفيذ هجمات في بعض المدن والمناطق الحدودية الممتدة على مسافة 700 كلم مع كينيا. وتستهدف حركة الشباب كينيا منذ تدخلها العسكري في الصومال عام 2011، ثم مشاركتها في قوة الاتحاد الأفريقي في الصومال التي أُنشئت عام 2012 لمكافحة التمرد.2- استمرار التوترات على حدود كينيا مع بعض دول الجوار: ترتبط صفقة الطائرات المسيّرة التركية بالتوترات المستمرة على الحدود الكينية مع بعض دول الجوار، وخاصةً الصومال وجنوب السودان وأوغندا، إلى جانب التحديات الأمنية في المحيط الهندي، مثل تنامي عمليات القرصنة البحرية، والاتجار بالبشر، وتهريب البضائع غير المشروعة، والصيد غير القانوني.وفي هذا السياق، تمثل الطائرات المسيّرة أداة استراتيجية لتأمين الحدود الهشة وبناء قوة رادعة لمواجهة النشاط العملياتي للجماعات الإرهابية، والتعامل مع الخلافات الحدودية، والحد من الجريمة المنظمة. ويعزز هذا التوجه أهمية استخدام المسيّرات، خاصةً أن الطبيعة الجغرافية الوعرة للحدود الكينية تشكل عقبة كبيرة أمام جهود السلطات لتحقيق السيطرة الكاملة عليها.3- تنامي التوترات بين الصومال وإثيوبيا: تنظر كينيا بحذر إلى التداعيات السلبية للتوترات الراهنة بين إثيوبيا والصومال على الأوضاع الأمنية المتفاقمة في منطقة القرن الأفريقي؛ إذ يمكن أن تؤدي هذه التوترات إلى تقويض جهود مكافحة الإرهاب في شرق القارة. وبرغم خفض التوترات بين البلدين بعد اتفاق وُصف بالتاريخي بين البلدين في 12 ديسمبر 2024، برعاية تركيا، ينهي الملفات العالقة، ويتضمن العمل باتجاه إقرار إبرام اتفاقيات تجارية وثنائية؛ إلا أن ذلك لم يمنع تجدد المواجهات، وكان آخرها في 24 ديسمبر 2024 على خلفية اتهام الصومال للقوات الإثيوبية بمهاجمة جنوده في منطقة حدودية.4- السيولة الأمنية في دول الساحل والصحراء: شهدت منطقة الساحل الأفريقي، موجة انقلابات عسكرية، كان آخرها في الجابون والنيجر وتشاد ومالي وبوركينافاسو، والتي أسفرت عن نسف التحالفات الأمنية في المنطقة، بعد قطع هذه الدول علاقاتها الأمنية مع باريس وواشنطن، وإنهاء وجودهما العسكري، وهو ما أدى إلى حدوث اختلالات أمنية غير مسبوقة، خاصةً بعد انسحاب القوات الفرنسية، وتجميد الاتفاقيات الدفاعية مع الولايات المتحدة الأمريكية. وفي هذا السياق، فقد أبدت كينيا قلقاً لافتاً من التطورات التي شهدتها دول الساحل، لا سيما وأنها تعتبر مركزاً لنشاط الجماعات الإرهابية المرتبطة بتنظيمي "القاعدة" و"داعش" في منطقة الساحل.5- الاضطرابات المحلية نتيجة تأزم الأوضاع الاقتصادية: أعلنت الاستخبارات الكينية عن امتلاكها عدداً من الطائرات المسيّرة التركية، في ظل سياق محلي متأزم يعاني من تدهور اقتصادي حاد وارتفاع ملحوظ في الأسعار، ما أدى إلى تراجع مستويات المعيشة بشكل كبير. فقد تصاعدت حدة التوتر الداخلي في كينيا مع اندلاع احتجاجات واسعة في يونيو 2024 رفضاً لمشروع قانون المالية للعام ذاته، الذي تضمن فرض ضرائب إضافية بهدف تقليص عجز الموازنة.وقد جاءت هذه الإجراءات استجابةً لضغوط صندوق النقد الدولي، الذي يطالب الحكومة الكينية بتطبيق سياسات تقشفية صارمة. وأثرت هذه الاحتجاجات بشكل سلبي على الوضع الأمني، ما دفع الحكومة إلى تعزيز قدرات أجهزتها الأمنية، بما في ذلك الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة مثل المسيّرات التركية، لتحسين قدرتها على التعامل مع الاضطرابات الداخلية.حسابات نيروبيتستهدف كينيا من حرصها على تعزيز التعاون الدفاعي مع أنقرة تحقيق عدد من الأهداف، التي يأتي على رأسها ما يلي: 1- السعي نحو تطوير القدرات العسكرية الكينية: تستهدف كينيا عبر امتلاك المسيّرات التركية، تحسين وتطوير القدرات الدفاعية الكينية، إذ إنها تلعب دوراً متزايد الأهمية في العديد من العمليات والمهام الأمنية للجيش الكيني في مواجهة التنظيمات المسلحة في المناطق الحدودية الهشة. كما أن كينيا تسعى من خلال حيازتها إلى رفع الكفاءة القتالية وتقليل الخسائر في العنصر البشري.2- الاستفادة من التكلفة المنخفضة للمسيّرات: على الرغم من ارتباط كينيا منذ سبتمبر 2023 باتفاقية دفاعية مع واشنطن مدتها 5 سنوات، إلا أن الصناعات الدفاعية التركية وبخاصة في مجال المسيّرات في رؤية كينيا تمثل أولوية استراتيجية، بالنظر إلى تنوع قدرات المسيّرات التركية، والتكلفة المنخفضة سواء لحيازة أو تشغيل المسيّرات التركية.3- المساهمة في معالجة المخاوف الأمنية لكينيا: ثمة قلق متنامٍ لدى كينيا من تمدد المخاطر التي أفرزها إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في المنطقة بعد إنهاء عملية "برخان"، بالإضافة إلى تفكيك عدد واسع من دول الساحل والصحراء اتفاقياتها الأمنية مع واشنطن، بما يعنيه ذلك من تصاعد وتيرة العمليات الإرهابية للجماعات المسلحة. ولذلك دفعت هذه التطورات كينيا إلى تأمين الأدوات العسكرية التي يمكن الاعتماد عليها في التوقيت الحالي لكبح جماح المخاطر الأمنية التي تشهدها المنطقة. كما تشير بعض الاتجاهات إلى أن تصاعد التوترات بين الصومال وإثيوبيا مثلت محركاً رئيسياً للحكومة الكينية لحيازة المسيّرات التركية.مصالح أنقرةعلى الجانب الآخر، تستهدف أنقرة من وراء تحركها لتعزيز التعاون الدفاعي مع نيروبي تحقيق عدد من الأهداف، ويمكن بيانها على النحو التالي:1- زيادة صادرات السلاح للدول الأفريقية: تسعى تركيا بصورة مكثفة لتسويق صناعاتها العسكرية في الأسواق الأفريقية. ولعل هذا ما تجسد بوضوح في صفقات المسيّرات التي تم توقيعها مع كينيا، وغيرها من الدول الأفريقية، وبالتالي تحاول أنقرة استغلال الاضطرابات الأمنية المتفاقمة في القارة الأفريقية لإيجاد أسواق جديدة تستوعب صادراتها العسكرية.2- توسيع التمدد التركي بمنطقة شرق أفريقيا: من بين الأهداف الرئيسية لتركيا، توسيع تمددها في منطقة شرق أفريقيا على حساب القوى الدولية التقليدية التي تراجع حضورها في هذه المنطقة، وبخاصة باريس وواشنطن، وعلى ضوء ذلك تعكس المرونة التركية في إتمام صفقة المسيّرات مع كينيا محاولة أنقرة محاصرة نفوذ الخصوم الدوليين في شرق أفريقيا. وبالتوازي، ربما تحاول تركيا طرح نفسها كبديل للأدوار الغربية التي تراجعت في هذه المنطقة، من خلال توظيف سلاح المسيّرات الذي يحظى بسمعة وقبول واسع في مناطق الصراعات.3- إعادة صياغة الترتيبات الأمنية بالقرن الأفريقي: تشير بعض التقديرات إلى مساعي أنقرة لتوظيف التعاون الدفاعي مع كينيا لتثبيت دورها في معادلة الترتيبات الأمنية التي تشهدها منطقة القرن الأفريقي، وهو ما تجلى في لعب دور الوسيط لخفض التوترات بين الصومال وإثيوبيا، بالإضافة إلى تعزيز التعاون مع دول المنطقة سواء في مكافحة التنظيمات الإرهابية أو عمليات القرصنة والجريمة المنظمة.نقطة استناد وختاماً، يمكن القول إن حرص كينيا على حيازة المسيّرات التركية يعكس رغبتها في تطوير قدراتها العسكرية لمواجهة التحولات الأمنية المحلية والإقليمية في شرق أفريقيا، بينما تعتبر أنقرة، في المقابل، أن صفقات المسيّرات باتت إحدى الأدوات والمداخل الرئيسية التي تعتمد عليها تركيا لخلق مساحات للحضور في شرق أفريقيا، والتي تمثل في رؤية تركيا نقطة استناد استراتيجية لتعميق نفوذها في القارة الأفريقية.

ما دوافع كينيا وتركيا لتعزيز التعاون الدفاعي بين البلدين؟