د. حمدي بشير

تصاعد الجدل حول الدور الذي يمكن أن تمارسه موريتانيا في الأزمة التي تتصاعد حدتها في شمال مالي. ويبدو أن تحركات القوى الدولية المعنية بما يجري في تلك المنطقة، وفي مقدمتها روسيا وفرنسا، قد دفعت إلى إثارة تساؤلات عديدة حول هذا الدور المحتمل الذي قد تقوم به نواكشوط، خاصةً بعد تراجع دور الجزائر في منطقة الساحل في ظل التوتر الذي تتسم به علاقاتها مع فرنسا وروسيا ودول الساحل.وقد جاء ذلك في سياق تحركات عديدة قامت بها موريتانيا في أكثر من اتجاه، ففي 21 نوفمبر 2024، أجرى وزير الدفاع الموريتاني "حنن ولد سيدي" مباحثات مع السفير الروسي في موريتانيا "بوريس زيلكو"، من أجل تعزيز التعاون بين نواكشوط وموسكو، وجاء ذلك بعد أيام من نفي الحكومة الموريتانية وجود أي فتور في العلاقات مع موسكو، وهو ما تزامن مع افتتاح أوكرانيا سفارة لها في موريتانيا، ونفي الحكومة الموريتانية أي وجود لقوات أوكرانية على أراضيها في إطار سياسة "الحرب بالوكالة"، التي أشارت اتجاهات عديدة إلى أن بعض ملامحها بدأت تظهر في مالي، في ظل قنوات التواصل التي تؤسسها روسيا وأوكرانيا مع أطراف الصراع هناك.وفي هذا الإطار، يبدو أن موريتانيا باتت تشعر بقلق متصاعد تجاه الصراع المتنامي في مالي بشكل يضعها بين ضغوط المعسكرين المتنافسين، على نحو قد يدفعها إلى البحث عن آلية للخروج من حلقة الصراع، على غرار التوسط من أجل تسوية الأزمة في شمال مالي، وهو ما يمكن أن يقلص من حدة الضغوط التي تتعرض لها بسبب استمرار تلك الأزمة.عوامل داعمة يمكن القول إن ثمة عوامل عديدة تؤهل موريتانيا لأن تمارس دور الوسيط في الأزمة في مالي، من أهمها:1- فشل العملية العسكرية في شمال مالي: يشير مراقبون إلى فشل النهج الحالي للحكومة في مالي، الذي يعتمد على الضربات الجوية الاستعراضية والحصول على دعم من مجموعة "فاجنر"، في تحقيق نصر حاسم. ففي أواخر يوليو 2024، قتلت الجماعات المسلحة ما يصل إلى 47 جندياً مالياً و84 من مرتزقة "فاجنر" بالقرب من الحدود الجزائرية، مما أدى إلى بدء جولة جديدة من القتال.وبعد أشهر من القتال، لم يحقق أي طرف نصراً واضحاً، بل إن القوات المسلحة المالية ومجموعة "فاجنر" استنزفت كميات كبيرة من الذخائر خلال العمليات الهجومية، والتي أدت إلى نزوح وقتل المدنيين الشماليين، بينما فشلت في تقليص قدرات الجماعات المسلحة بشكل ملموس، والتي انسحبت بدورها إلى مناطق أكثر بعداً في الصحراء الكبرى، حيث تنفق مواردها النادرة من أجل البقاء.2- رفض مالي الوساطة الجزائرية في الأزمة: رغم الدور الذي مارسته الجزائر في الوساطة بين الحكومة المالية وطوارق شمال مالي خلال السنوات الماضية، حيث بذلت جهوداً حثيثة من أجل إطلاق سراح العديد من الرهائن وعقد صفقات السلام في شمال مالي، بما في ذلك اتفاق الجزائر لعام 2015؛ لكنها لم تعد وسيطاً مرحباً به، خاصةً بعد أن وجهت لها باماكو اتهامات بالتدخل في شؤونها من خلال تنظيم لقاءات مع زعماء المتمردين.3- حفاظ نواكشوط على دور متوازن في الساحل: انشغلت دول جوار مالي، لا سيما بوركينافاسو والنيجر، بشكل كبير في مواجهة تحديات الأمن الداخلي على نحو قلص من قدرتها على ممارسة دور الوسيط، على عكس موريتانيا التي تبدو مهيأة بشكل أكبر للمشاركة في جهود تعزيز السلام، خاصةً أنها دولة مستقرة نسبياً، وقد فرض حيادها التاريخي في النزاعات الإقليمية تداعيات إيجابية على علاقاتها مع القوى الإقليمية والدولية، فضلاً عن أنها تمتلك القدرة على فتح قنوات تواصل مع جميع أطراف الصراع في شمال مالي (الجماعات المسلحة، والتنظيمات الإرهابية، والقوات المتحالفة مع الحكومة)، وهو ما يوفر فرصاً عديدة لها يمكن أن تساعدها في ممارسة هذا الدور.4- امتلاك نواكشوط علاقات مع قبائل شمال مالي: تسمح السياسة المتوازنة التي تتبناها موريتانيا ببدء اتصالات مع أطراف الأزمة في شمال مالي، نظراً للعلاقات التاريخية التي تربط سكانها من قبيلة بيدان (المور الأبيض) بسكان مالي من الطوارق. وقد تبنت المجموعتان العرقيتان تاريخياً أنماط هجرة متشابهة، ولا تزال روابطهما الشخصية والدينية والتجارية قائمة حتى الآن، حيث حافظ المواطنون الموريتانيون على علاقاتهم بالسكان في شمال مالي من خلال عبور طرق الترحال القديمة.5- الدعم الدولي المتوقع للوساطة الموريتانية: يحظى الرئيس الموريتاني "محمد ولد الغزواني" بدعم دولي كبير، ويمكن أن يستغل تولي موريتانيا رئاسة الاتحاد الأفريقي لتشكيل مجموعة اتصال لشمال مالي. ومن شأن مجموعة الاتصال أن تساعد في تنسيق وتمويل وتنفيذ البرامج لدعم النتائج التي يمكن أن تسفر عنها المحادثات متعددة الأطراف التي ربما يتم إجراؤها في مرحلة لاحقة.تحديات محتملةرغم الفرص المواتية للوساطة الموريتانية، إلا أنه ثمة تحديات محتملة يمكن أن تواجه الدور الموريتاني، يتمثل أبرزها فيما يلي:1- التباين الحاد لمصالح أطراف الأزمة في مالي: يتبنى الطرفان الرئيسيان في الصراع (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، والحكومة الانتقالية المالية) أهدافاً متعارضة، فجماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" هي جماعة تابعة لتنظيم "القاعدة"، وتهدف إلى إزاحة الحكومة. في حين تهدف باماكو إلى القضاء على الإرهاب، وفرض السيطرة على أراضيها. وفي الوقت نفسه، يقاتل تحالف من الجماعات المسلحة غير الإرهابية المناهضة للحكومة (الإطار الاستراتيجي الدائم للدفاع عن شعب أزواد) من أجل مزيد من الحكم الذاتي الإقليمي والفرص الاقتصادية، وهو ما يفرض حرية حركة محدودة أمام أي دور قد تقوم به نواكشوط خلال المرحلة القادمة.2- غموض موقف حكومة مالي إزاء وساطة نواكشوط: لم يوافق أي من الأطراف الرئيسية بعد على وساطة موريتانيا، ما يجعل موقفهم إزاء وساطة نواكشوط لا يزال غامضاً. فقد نجحت باماكو تدريجياً في إبعاد القوات الفرنسية وقوات الاتحاد الأوروبي وقوات الأمم المتحدة على مدى السنوات القليلة الماضية، الأمر الذي كشف عداءها للجهود الدولية الرامية إلى تحقيق الاستقرار. ومن المرجح أن ترفض الحكومة الانتقالية في مالي طلباً بالتعامل مع زعماء الجماعات المسلحة الإرهابية أو غير الإرهابية. وسوف يكون من الصعب إقناع الحكومة الانتقالية المالية بالانخراط في محادثات متعددة الأطراف، على نحو قد لا يتوافق مع أية تحركات قد تقوم بها موريتانيا.3- تردد نواكشوط إزاء التدخل في الصراع المالي: تتسم العلاقات بين موريتانيا والحكومة المالية بعدم الاستقرار، خاصةً بعد التوتر الذي شهدته خلال الفترة الأخيرة بسبب اختراق القوات المالية ومجموعة "فاجنر" للحدود الموريتانية، وتبدي موريتانيا قلقاً من أن تؤدي وساطتها في مالي إلى زيادة التوتر في علاقاتها مع الحكومة المالية، فضلاً عن أن مالي قد تنظر بقلق إلى علاقات موريتانيا مع الدول الغربية في الوقت الذي تعتبر فيه مالي من أهم القوى الحليفة لروسيا في المنطقة.نجاح مشروطإجمالاً، يمكن القول إن نجاح موريتانيا في ممارسة دور الوسيط في الأزمة المالية سوف يعتمد في المقام الأول على موقف مالي من هذه الوساطة، فضلاً عن الخطوات التي ستتخذها العديد من القوى الدولية المعنية تجاه ما يجري في تلك المنطقة، على غرار روسيا، ناهيك عن موقف الجزائر، التي لا تبدو مطمئنة إلى المعطيات التي يمكن أن يفرضها قيام نواكشوط بهذا الدور في المرحلة القادمة.

هل تمارس موريتانيا دور الوسيط في أزمة شمال مالي؟