Intelligence Diplomacy:
عرض: د. إيمان عبد الحليم
بعد أن شهدت الحرب الأوكرانية مشاركة مكثفة للمعلومات الاستخباراتية، وخصوصاً بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين؛ تصاعد الحديث عن الفرص التي قد تتيحها الدبلوماسية الاستخباراتية في تدعيم العلاقات وتكثيف التعاون بين الدول والحلفاء؛ حيث بدت الاستخبارات واحدة من الأدوات التي تستخدمها واشنطن في تحقيق أهداف سياستها الخارجية.
ومن هذا المنطلق، كتب "بريت هولمجرين" مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الاستخبارات والبحوث، مقالاً نشرته مجلة "فورين بوليسي" في 19 فبراير 2024، وحمل عنوان "عصر دبلوماسية الاستخبارات"، وهو المقال الذي أوضح فيه أنه لا يوجد تعريف مقبول بوجه عام لـ"الدبلوماسية الاستخباراتية"؛ إذ ينظر البعض إلى المفهوم نظرة ضيقة، باعتباره تبادلاً تقليدياً للاستخبارات مع شركاء أجانب، ويعتبره آخرون وسيلة لتعزيز حملات الدبلوماسية العامة، أو للفت الانتباه إلى تصريحات المسؤولين الحكوميين، مثل البيانات الصحفية.
وأوضح "هولمجرين" أنه في وزارة الخارجية الأمريكية، تُعرَّف دبلوماسية الاستخبارات بأنها "استخدام الاستخبارات لدعم الأنشطة الدبلوماسية، والدبلوماسية العامة؛ لتعزيز أهداف السياسة الخارجية الأمريكية، وإعلام الشركاء، وبناء التحالفات، وتسهيل التعاون، ودفع التقارب في الأساليب ووجهات النظر، والتحقق من المعاهدات"؛ ما يلقي الضوء على الفرص التي قد تتيحها الدبلوماسية الاستخباراتية، تجاوزاً للمخاطر السابقة التي ارتبطت بتلك الدبلوماسية خلال حرب العراق على نحو خاص.
الفرص الممكنة
يشير "هولمجرين" في تقريره، إلى توظيف المعلومات الاستخباراتية في الحرب الأوكرانية؛ ما أتاح الفرصة للتحذير من خطط روسيا تجاه أوكرانيا، وتكثيف التعاون في مواجهتها، مع ما يثيره الأمر من إمكانية توظيف الدبلوماسية الاستخباراتية في ساحات أخرى؛ الأمر الذي يتطلَّب من جانب آخر معالجة المخاوف التي تثيرها تلك الدبلوماسية بشأن الأمن القومي. وبوجه عام، تجلَّت أبرز ملامح صعود دبلوماسية الاستخبارات فيما يأتي:
1– مشاركة المعلومات الاستخباراتية بشأن الهجوم الروسي على أوكرانيا: في الأشهر التي سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا، قامت الولايات المتحدة بأسلوب استراتيجي بتخفيض مستوى المعلومات الاستخباراتية ورفع السرية عنها؛ لتحذير أوكرانيا والعالم من الخطط الروسية للغزو. ورغم أن الكشف عن خطط موسكو مقدماً لم يمنع الحرب، فإن الكشف عن معلومات استخباراتية أمريكية مكَّنت أوكرانيا من الدفاع عن نفسها، وساعدت في حشد الحلفاء والشركاء لدعم كييف، وقوَّضت التضليل الروسي في نظر العامة، مع استعادة مصداقية الاستخبارات الأمريكية.
كما سمحت الإفصاحات الاستخباراتية لمدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز، بتحذير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في نوفمبر 2021 من أن بلاده كانت على علم بنوايا موسكو في أوكرانيا، وسترد رداً حاسماً، كما قدَّمت التحذيرات للشعب الأوكراني بشأن خطط روسيا. ومن الأمثلة على ذلك الكشف عن أن موسكو قد تختلق ما تسمى فظائع "العلم الزائف" لتبرير غزو أوكرانيا.
2– رفع واشنطن السرية عن معلومات استخباراتية دعماً لحلفائها: لقد شاركت الولايات المتحدة دائماً المعلومات الاستخباراتية الخاصة بالتهديدات مع الشركاء الأجانب، وكان هذا النوع من المعلومات منذ فترة طويلة ورقة قيِّمة في يد الدبلوماسيين الأمريكيين؛ ففي أكتوبر 1962، على سبيل المثال، قدَّمت واشنطن معلومات استخباراتية رفعت عنها السرية إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، كشفت عن وجود صواريخ هجومية سوفييتية في كوبا. وفي أبريل 2017، رفع البيت الأبيض السرية عن معلومات استخباراتية توضح تفاصيل استخدام النظام السوري الأسلحة الكيميائية ضد شعبه؛ وذلك لحشد الدعم لتوجيه ضربات ضد سوريا.
ومع ذلك، يمكن القول إن هجوم روسيا على أوكرانيا يرمز إلى التطور الملحوظ للدعم الاستخباراتي للدبلوماسية الأمريكية من حيث الحجم والنطاق والسرعة، ويتضح ذلك من قيام 18 وكالة بأنشطة استخباراتية لدعم مصالح الأمن القومي، ولتمكين الولايات المتحدة وحلفائها من الرد على الغزو الروسي لأوكرانيا.
3– إمكانية توظيف "الدبلوماسية الاستخباراتية" في صراعات متعددة: بالنظر إلى دقة مجتمع الاستخبارات ونجاحه في كشف المؤامرات الروسية، اقترح كثيرون في الحكومة الأمريكية وفي وسائل الإعلام، بأنه يُمكِن أن يُستخدَم الكشف عن المعلومات الاستخباراتية أداةً للدبلوماسية في صراعات وتحديات عالمية أخرى؛ إذ يبحث العديد من كبار المسؤولين في الخارجية الأمريكية الآن عن فرص استخدام المعلومات الاستخباراتية المخففة، أو التي رُفعت عنها السرية، في الارتباطات الدولية، أو التصريحات العامة، أو المساعي الدبلوماسية.
وألمح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن نفسه، إلى "التآزر العميق بين استخباراتنا ودبلوماسيتنا"؛ وذلك خلال حديث ألقاه أمام مكتب مدير المخابرات الوطنية في يوليو 2022، وقال: "أعتقد أننا بحاجة حقاً إلى الاستمرار في جعل (الدبلوماسية الاستخباراتية) جزءاً من تفكيرنا"، وأضاف أن ذلك "ليس عندما يتعلق الأمر بالعدوان الروسي على أوكرانيا فقط، بل في جميع المجالات".
4– استخدام واشنطن دبلوماسية الاستخبارات في مواجهة بكين: قد استخدمت الخارجية الأمريكية بالفعل دبلوماسية الاستخبارات بعد الحرب في أوكرانيا؛ ففي عام 2023 وحده، استُخدِمت المعلومات الاستخباراتية المخففة، أو التي رُفعت عنها السرية علناً – وبوجه خاص في القنوات الدبلوماسية – لتحذير الصين من عواقب توفير أسلحة فتاكة لروسيا لمساعدتها في حربها في أوكرانيا. وفي الآونة الأخيرة، استخدمت الخارجية معلومات استخباراتية منخفضة المستوى؛ وذلك ضمن جهد أكبر لتشجيع الدول التي كانت تفكر في استيراد المعدات العسكرية الصينية – في انتهاكٍ للاتفاقيات الثنائية مع الولايات المتحدة – على تغيير مسارها. واعتمدت وزارة الخارجية اعتماداً كبيراً على معلومات استخباراتية منخفضة المستوى للتعامل مع الدول لمنع وصول تقنيات المراقبة إلى الحكومات المرتبطة بانتهاكات حقوق الإنسان.
5– اعتبار واشنطن دبلوماسية الاستخبارات أداةً لتأكيد النفوذ الأمريكي: ففي سبتمبر 2023، أوجز بلينكن نهج الولايات المتحدة تجاه الدبلوماسية وهي تنتقل من نهاية نظام ما بعد الحرب الباردة إلى حقبة جديدة من المنافسة الاستراتيجية يُحدِّدها الصراع بين الديمقراطية والاستبداد، وقال إن جوهر هذه الاستراتيجية يكمن في "إعادة الانخراط والتنشيط وإعادة تصوُّر أعظم أصولنا الاستراتيجية: تحالفات أمريكا وشراكاتها"؛ إذ يمكن أن يؤدي تبادل المعلومات إلى بناء الثقة، وإنشاء وجهات نظر مشتركة تعتمد على معلومات موثوقة، وفتح مجالات جديدة للتعاون بين الشركاء، لتُشكِّل التحالفات المعززة أيضاً رصيداً بالغ الأهمية لمجتمع الاستخبارات الأمريكي.
وتُوضح استراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن وكذلك استراتيجية الاستخبارات الوطنية الأخيرة التي أقرَّها مدير الاستخبارات الوطنية، أن دبلوماسية الاستخبارات ستلعب دوراً مركزياً في المنافسة الاستراتيجية الأمريكية ضد القوى الاستبدادية والرجعية.
6– تصاعُد الجدل حول مخاوف الأمن القومي الأمريكي: إن استخدام بعض المعلومات الاستخباراتية، أو التي رُفعت عنها السرية بأسلوب استراتيجي ومسؤول، يمكن أن يكون عامل تمكين قوياً للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، وهو ما لا يقتصر على الساحة الأوكرانية وحدها. ويؤكد هذا الواقعَ الجديدَ، الحجمُ الهائل لطلبات خفض التصنيف ورفع السرية من قبل مسؤولي وزارة الخارجية والدبلوماسيين. على سبيل المثال، كان هناك في عام 2021، أكثر من 900 طلب لخفض مستوى الاستخبارات أو لرفع السرية، وفي عام 2023، كان هناك أكثر من 1100 طلب من هذا القبيل؛ أي أكثر من 20 طلباً في الأسبوع الواحد.
ولكن بالرغم من ذلك، فإنه في حال غياب الضمانات والرقابة المناسبة، من الممكن أيضاً استخدام دبلوماسية الاستخبارات بطرق تزيد من المخاطر التي تُهدِّد الأمن القومي، وتُقوِّض الثقة مع الشركاء الأجانب، وتؤدي إلى تآكل مصالح الولايات المتحدة. والمثال الأكثر شهرةً على ذلك، هو ما حدث في عام 2003، قبل غزو العراق، عندما رفعت إدارة جورج دبليو بوش السرية عن المعلومات الاستخباراتية لإثبات أن الرئيس العراقي صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل، ثم تبيَّن أن هذه المعلومات كانت غير دقيقة؛ ما أساء لسمعة مجتمع الاستخبارات في جميع أنحاء العالم ولجيل كامل.
7– تزايد الحاجة إلى ضمان تعظيم فوائد دبلوماسية الاستخبارات الأمريكية: إن التحدي الذي يواجه مجتمع الاستخبارات وصانعي السياسات هو تعظيم فوائد دبلوماسية الاستخبارات مع الوقاية من سوء الاستخدام الذي سبقت الإشارة إليه؛ ما يستلزم استيعاب الدروس المستفادة من العراق، بحسب الكاتب، وفي الوقت نفسه إبراز الأسباب والعوامل التي جعلت الدبلوماسية الاستخباراتية ناجحة إلى حد كبير في توجيه الرد الأمريكي على الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا. وأول هذه العوامل هو القيادة الحاسمة للرئيس جو بايدن؛ ففي أواخر عام 2021، حينما كانت روسيا تحشد قواتها وتضع الأساس لما قدَّر مجتمع الاستخبارات بوضوح أنه هجوم وشيك على أوكرانيا، أصدر بايدن توجيهات بخفض مستوى المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بخطط موسكو ونواياها، وهو ما أتاح تحقيق تكافؤ الفرص في مجال المعلومات.
هذا بالإضافة إلى وضوح الهدف الأمريكي الخاص بمنع الحرب. وحسبما أشار مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، من على منصة البيت الأبيض في أوائل عام 2022، فإنه "عن طريق المعلومات الاستخباراتية بوجه خاص – التي استُخدِمت لبدء الحرب في العراق – نحن نحاول وقف الحرب ومنعها"؛ وذلك مع الإشارة أيضاً إلى أن الاستخبارات الأمريكية بشأن روسيا وأوكرانيا كانت – ولا تزال – محددة ومتسقة ودقيقة؛ فقد كان لدى محللي مجتمع الاستخبارات درجة عالية من الثقة بمصداقية وموثوقية المعلومات التي جمعوها حول الأنشطة والنوايا الروسية نتيجة سنوات من الاستثمار في جمع البيانات وتحليلها.
وعلاوةً على ما سبق، فإن البيانات الجديدة المفتوحة المصدر حول الأنشطة الروسية، مثل الصور التجارية ووسائل التواصل الاجتماعي، أتاحت لمجتمع الاستخبارات خفض مستوى المعلومات الموثوقة أو رفع السرية عنها لمشاركتها مع الشركاء الأجانب أو الجمهور دون تعريض مصادر وطرق جمع المعلومات الأكثر حساسيةً للخطر.
8– مساعي واشنطن لإضفاء الطابع المؤسسي على دبلوماسية الاستخبارات: في ضوء الدروس المستفادة المشار إليها، اتخذت الخارجية الأمريكية عدة خطوات لتحديد أفضل الممارسات حول إذا ما كان سيتم استخدام دبلوماسية الاستخبارات بدقة وانضباط ورعاية، ومتى وكيف، ومن خلال وضع مبادئ توجيهية للمساعدة في توجيه طلبات موظفي وزارة الخارجية للكشف عن المعلومات الاستخبارية أو نشرها علناً؛ وذلك ومع تأكيد أن الدبلوماسية الاستخباراتية ينبغي أن تدعم هدفاً سياسياً محدداً، وأن تكون متسقة مع العناصر الأخرى للقوة الوطنية وتعززها، وإعطاء الأولوية لتعزيز التحالفات والشراكات، والاعتماد على معلومات استخباراتية موثوقة ومتعددة المصادر للحفاظ على مصداقية الولايات المتحدة، ومشاركة معلومات جديدة وفريدة من نوعها لا تتوافر من خلال المصادر المفتوحة.
ويضاف إلى ذلك أيضاً تأكيد أهمية أن تكون المعلومات الاستخباراتية المستخدمة لدعم الدبلوماسية واضحة ومفهومة وسهلة التواصل مع الجمهور المستهدف، وأن تزن مقترحاتُ الدبلوماسية الاستخباراتية بعناية الفوائدَ المتوقعة مقابل المخاطر المحتملة على المصادر والأساليب، ودون إغفال الاستفادة من التكنولوجيا لتوسيع نطاق الوصول إلى أدوات الدبلوماسية الاستخباراتية للدبلوماسيين في الداخل والخارج، من خلال إتاحة الموارد وأدوات تبادل المعلومات الاستخباراتية عبر الإنترنت عبر الشبكات السرية وغير السرية في وزارة الخارجية، والبدء أيضاً في تدريب وتثقيف مسؤولي الخارجية والسفراء الجدد على دبلوماسية الاستخبارات، وكيفية دمج هذه القدرات في أنشطتهم الدبلوماسية في جميع أنحاء العالم.
خلاصة القول أن دبلوماسية الاستخبارات أصبحت ذات أهمية متزايدة للدعم والتمكين، ولكن من الأهمية بمكان الاستفادة منها بطريقة تتفق مع مقتضيات الأمن القومي، وبدون ذلك، يظل هناك خطر إساءة استخدام دبلوماسية الاستخبارات، ولكن إذا توافرت الضمانات الصحيحة، فإن دبلوماسية الاستخبارات سوف تلعب دوراً حاسماً في تأمين مستقبل الدول؛ وذلك مع تأكيد أنه لا يوجد نهج واحد يناسب الجميع في التعامل مع دبلوماسية الاستخبارات؛ حيث تعمل الوكالات الحكومية المختلفة، في الولايات المتحدة وأماكن أخرى، على تطوير ونشر نماذج تتفق مع توجهاتها وأهدافها الخاصة.
المصدر:
Brett M. Holmgren, "The Age of Intelligence Diplomacy", Foreign Policy, February 2024.
جميع الحقوق محفوظة لموقع إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية 2023