نوار الصمد 

بثت حسابات روسية مقربة من الكرملين، على شبكات التواصل الاجتماعي، في الأول من مارس 2024، محادثة سرية لضباط رفيعي المستوى في سلاح الجو الألماني، كانوا يناقشون خلالها الاحتمالات النظرية لاستخدام صواريخ توروس Taurus الألمانية البعيدة المدى في أوكرانيا، التي كان المستشار الألماني أولاف شولتز قد رفض مراراً تسليمها إلى كييف في السابق، وهو التسريب الذي أثار حالة من الجدل حول قدرات روسيا وحدود اختراقها للمؤسسات الأمنية والعسكرية الغربية، ناهيك عن الكشف عن أوجه قصور عديدة لدى المؤسسات الألمانية. دلالات رئيسيةيمكن الإشارة إلى دلالات تسريب التسجيل عبر النقاط التالية:1– الإضرار بموثوقية الجيش الألماني: انشغلت ردود الفعل الألمانية الأولى بمحاولة معرفة إذا ما كان التسجيل المسرب أصلياً أو مزيفاً أو جرى التلاعب بأجزاء منه. ولاحقاً ذكرت صحيفة "دير شبيجل" أن التسجيل حقيقي، وهو الأمر الذي أكدته وزارة الدفاع الألمانية أيضاً. وتركزت النقاشات فيما بعد حول معرفة كيفية حصول التسرب، وإذا كان قد حصل عبر التنصت أو عبر اختراق إجراءات جهاز مكافحة التجسس العسكري الألماني، وإذا كان هذا الاختراق أمراً استثنائياً أم مشكلة أمنية هيكلية يعاني منها الجيش الألماني. ولقد أرجع وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، في 5 مارس 2024، سبب حصول التسرب إلى "خطأ فردي" جسيم؛ فبدلاً من التواصل عبر شبكة مشفرة، كان المشاركون الأربعة في التسجيل – الذي يعود تاريخه إلى 19 فبراير 2024 – يتبادلون الحديث عبر منصة WebEx؛ حيث اتصل أحد المشاركين من هاتفه الخلوي من داخل غرفة فندق في سنغافورة.2– كشف النقاشات الألمانية حول ضرب جسر جزيرة القرم: بحسب قناة تاجيسشاو Tagesschau الألمانية، فإن هذه المحادثة أتت في سياق التحضير لتوصية تخص وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس. ويكشف محتوى المحادثة التي عرضتها مارجريتا سيمونيان رئيسة تحرير RT، بمدة 38 دقيقة، عن مناقشات بين المشاركين حول كيفية استخدام الجيش الأوكراني لصواريخ توروس البعيدة المدى التي يصعب اكتشافها عبر الرادار، إذا قررت ألمانيا تزويده بها. ووردت إشارات داخل التسجيل عن احتمال استخدام هذه الصواريخ لضرب جسر كيرتش Kertch الرمزي والاستراتيجي للغاية الذي يربط روسيا بشبه جزيرة القرم، وأن نحو 20 صاروخ توروس ستكون كفيلة بتدمير أعمدته. وأوضح المناقشون فكرة أن النشر السريع لهذه الصواريخ في أوكرانيا، سيتطلَّب إرسال جنود ألمان إلى هناك، في حين أنه يمكن للأوكرانيين استخدامها بأنفسهم إذا تم تدريبهم عليها لعدة أشهر في قاعدة بوشل الجوية بغرب ألمانيا.3– تشويه صورة المستشار الألماني "شولتز": إن محادثة التسجيل تُظهِر أن المستشار الألماني أولاف شولتز – على عكس ما كان يدَّعي – لا يفعل كل ما هو ضروري لمساعدة أوكرانيا؛ فهو كان قد علَّل رفضه السابق لإرسال صواريخ توروس إلى أوكرانيا بأن هذا الأمر يستدعي نقل جنود ألمان إلى أوكرانيا لتشغيل هذه المنظومة، وبأنه لا يريد أن يفعل ذلك لأن هذا سيجعل ألمانيا دولة مشارِكة في الحرب، في حين أن المحادثة المُسرَّبة كشفت أنه يمكن تدريب الضباط الأوكرانيين على ذلك في ألمانيا.4– مناورة لتحويل الأنظار عن الداخل الروسي: إن حصول هذا التسريب على وسائل التواصل الاجتماعي الروسية دفع العديد من المحللين إلى وضع ذلك في سياق محاولة إكساب فلاديمير بوتين المزيد من الشرعية قبل أيام من الانتخابات الرئاسية الروسية في 15 و17 مارس 2024؛ فبحسب صحيفة فرانكفورتر روندشاو Frankfurter Rundschau الألمانية في 3 مارس 2024، يأتي نشر هذه المعلومات من باب المناورة من قبل القادة الروس الذين قرروا الكشف عن هذه المحادثة للتغطية على عدم سير الأمور في الداخل الروسي بالطريقة التي يرغب فيها الكرملين، خصوصاً بعد مشهد الحشود التي شاركت في دفن أليكسي نافالني، وأن المطلوب كان إعادة توحيد الشعب الروسي خلف بوتين وإظهار أن روسيا معرضة لتهديد حرب عدوانية.5– رغبة موسكو في عرقلة أي تحرك لحصول كييف على صواريخ ألمانية: تقول وجهة نظر مقربة من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا CDU إن تسريب روسيا عمداً لهذه المحادثة وفي هذا التوقيت بالذات، يهدف إلى القضاء كلياً على فكرة تسليم صواريخ توروس إلى كييف. وتطلب أوكرانيا من ألمانيا منذ فترة طويلة الحصول على هذه الصواريخ التي يزيد مداها عن 500 كيلومتر. ولقد بدأ النقاش الداخلي الألماني حول هذه النقطة منذ أبريل 2023 الماضي، ولكن موقف برلين الرسمي كان دائماً الرفض حتى الآن تحت حجة أن هذا الأمر يؤدي إلى خطر تصعيد الصراع، ويضع ألمانيا في موقف العداء المباشر مع روسيا. ولقد اعتبرت صحيفة La Libre Belgique البلجيكية في 5 مارس 2024 أن موسكو تريد إخافة أولاف شولتز؛ حتى لا يُغيِّر رأيه بشأن تسليم صواريخ توروس إلى كييف، واعتبرت أن هذا التسجيل يشكل وسيلة ضغط غير مسبوقة على الحكومة الألمانية من قِبَل فلاديمير بوتين.إرباك برلين قد تتعدد التداعيات المحتملة لهذا التسريب في عدة سياقات، نذكر منها:1– تزايد التصعيد الروسي ضد ألمانيا: اعتبر وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، في 2 مارس 2024، أثناء زيارته إلى تركيا، في تعليقه على محتوى التسجيل، أن معسكر الحرب في أوروبا لا يزال قوياً جداً، مندداً بـالخطط المخادِعة للجيش الألماني، كما رأى ديمتري ميدفيديف، عبر حسابه على Telegram، أن المنافسين القدامى (أي الألمان) أصبحوا مرة أخرى "أعداءنا اللدودين، ويستعدون لإطلاق الصواريخ لضرب الوطن الروسي". وطلبت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا توضيحات سريعة من ألمانيا حول محتوى التسجيل المسرب، معتبرةً أن أي محاولة لتجنب الإجابة على الأسئلة سيُشكِّل اعترافاً بالذنب.وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن التسجيل يشهد بأنه داخل الجيش الألماني، تتم مناقشة خطط لتنفيذ ضربات ضد الأراضي الروسية بالتفصيل وبشكل ملموس. ويُظهِر تصاعدُ الجدل الداخلي في ألمانيا حول تسليم صواريخ توروس أن الموقف الألماني بشأن شبه جزيرة القرم ما زال غامضاً للغاية على الرغم من اعتراف حلفاء أوكرانيا بشرعية حدود عام 1991، وأن السيادة الأوكرانية تمتد إلى دونباس وشبه جزيرة القرم، لكن البعض في ألمانيا ما زال يعتبر أن تدمير جسر القرم – وهو صرح روسي – سيكون بمنزلة استفزاز غير ضروري لبوتين.2– إرباك الاستقرار السياسي في ألمانيا: سارعت وسائل الإعلام الألمانية إلى تسمية هذا التسريب "بفضيحة التنصت" محاولةً إيجاد تفسيرات للطريقة التي مكَّنت روسيا من الوصول إلى محادثة جمعت أربعة أعضاء رفيعي المستوى في سلاح الجو الألماني، بمن فيهم المفتش العام لسلاح الجو الألماني إنجو جيرهارتز، كما يضع هذا التسريب أولاف شولتز تحت ضغط الساحة السياسية الداخلية؛ حيث عبَّرت بعض أوساط المعارضة، كنائب رئيس كتلة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا ألكسندر دوبريندت، عن عدم استبعاد المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق برلمانية، واستدعاء شولتز لشرح موقفه أمام البوندستاج، حسب ما ذكرت دير شبيجل في 3 مارس 2024.وحتى داخل فريق الأغلبية الحاكم، أشاع هذا التسريب حالة من الإرباك تجلَّت في تساؤل رئيس هيئة المراقبة البرلمانية كونستانتين فون نوتز – وهو عضو في البرلمان عن حزب الخضر – إذا ما كانت فضيحة التنصت هذه هي حالة معزولة أم مشكلة هيكلية داخل أجهزة الاستخبارات. ومن المفارقات أن رئيس حزب البديل من أجل ألمانيا في ولاية تورينجيا "بيورن هوكي" المعروف بقربه من موسكو، هنَّأ أولاف شولتز لأنه قاوم ضغوط المُروِّجين للحرب.3– التأثير السلبي على الثقة بين الحلفاء الغربيين: وكان الجدل الدائر حول صواريخ توروس قد تجدد بالفعل يوم 4 مارس 2024؛ عندما ناقش شولتز علناً، للمرة الأولى، أسباب رفض تسلميها لأوكرانيا، معتبراً أنه لا يمكن لألمانيا أن تقوم بما تقوم به بريطانيا وفرنسا، في إشارة إلى أن حلفاءه تدخَّلوا في الأراضي الأوكرانية. ولقد أدى هذا التصريح إلى إغضاب لندن، وإلى اعتبار أليسيا كيرنز رئيسة لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البريطاني، أن تصريحات شولتز كاذبة وغير مسؤولة وصفعة على وجه الحلفاء.وفي سياق آخر، أدى كشف التسجيل المسرب عن تزويد فرنسا وبريطانيا لأوكرانيا بصواريخ سكالب Scalp&nbsp;وستورم شادو الطويلة المدى، إلى استياء إضافي في صفوف حلفاء ألمانيا، على اعتبار أن الطرف الألماني يُفشِي أسرار حلفائه، حتى لو أتى ذلك عن غير قصد. وذكرت بعض المواقف في الدول الحليفة لألمانيا أن ألمانيا سبق أن زوَّدت كوريا الجنوبية بهذه الصواريخ من دون أن يترافق ذلك مع وجود عسكريين ألمان على الأرض.4– تصاعد حرب المعلومات: أعرب وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، في 3 مارس 2024، عن أسفه لما وصفه بـحرب المعلومات الروسية، واصفاً أبعاد الحادث بأنه يتجاوز بكثير مجرد اعتراض ونشر محادثة، واضعاً إياه في سياق هجوم تضليل هجين يهدف إلى تقسيم الألمان. وقد يكون التفسير المحتمل لبث التسجيلات التي استولى عليها الروس، هو الرغبة في إرسال رسالة إلى ألمانيا، بل إلى الدول الأعضاء في الناتو، أن أمن اتصالاتهم أقل تطوراً من إمكانيات التنصت المتاحة لروسيا. وفي هذا السياق تُعلِّق صحيفة كورييري ديلا سيرا Corriere della Sera الإيطالية، في 5 مارس 2024، بأن أسباب تركيز الدعاية الروسية على ألمانيا، واعتبارها الهدف رقم واحد من حيث الأولوية في حرب بوتين المهجنة ضد "الغرب الجماعي"، يكمن في أن ألمانيا كانت دائماً الحلقة الأضعف في العلاقات الغربية مع موسكو.5– تعقيد الحسابات السياسية الداخلية لشولتز: ويربط بعض المراقبين الدوافع الأساسية من وراء رفض أولاف شولتز تسليم صواريخ توروس إلى أوكرانيا بحسابات السياسة الداخلية؛ حيث يعارض الرأي العام في ولايات ألمانيا الشرقية السابقة زيادة المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وهي الولايات التي من المقرر أن تُجرَى فيها انتخابات إقليمية قريباً؛ حيث يجد الحزب الاشتراكي نفسه في وضع سيئ ضمن استطلاعات الرأي. وتلفت بعض الآراء نظر شولتز إلى أنه يراهن دائماً على الاستراتيجية الخاطئة؛ لأنه على الرغم من كل الالتواءات التي انخرط فيها حتى لا يسيء إلى موسكو، سخر الكرملين منه في النهاية، وأظهر من خلال تسريب التسجيل عدم صدقه مع الألمان.6– احتدام الجدل حول مسألة إرسال صواريخ توروس: وترى بعض الآراء أن لدى ألمانيا خياراً واحداً فقط لتخليص نفسها من هذه الورطة، وهو تسليم صواريخ توروس لأوكرانيا الآن ودون أي إبطاء قبل أن تباشر روسيا شن هجومها المخطط له في فصل الربيع، وأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي تُمكِّن أولاف شولتز من إنقاذ نفسه من هذا الخطأ الفادح، حسب ما ورد في صحيفة ديلي تلجراف البريطانية في 5 مارس 2024.فيما ترى آراء أخرى أنه يجب تجنب المبالغة في المزايدة. صحيح أنه يتعين على ألمانيا المحافظة على مساعداتها للقوات الأوكرانية، لكن ليس من مصلحتها الإذعان لكل رغبات كييف. ورأت صحيفة الجارديان البريطانية في 5 مارس 2024، أنه ليس من مصلحة أوروبا الغربية وصول مستوى الحرب في أوكرانيا إلى مرحلة تبادل الصواريخ البعيدة المدى، فيما ذكرت صحيفة لوفيجارو الفرنسية، في 7 مارس 2023، أن المستشار الألماني لا يحب التصرف من دون الجناح الوقائي للأمريكيين، وأن ألمانيا لا تفعل الأشياء إلا إذا فعلتها الولايات المتحدة قبلها. وحتى الآن لم يُسلِّم الأمريكيون هذا النوع من الصواريخ إلى أوكرانيا.وفي الختام، تكشف الأحداث الأخيرة التي أحاطت بالمناقشات الألمانية بشأن إرسال صواريخ توروس إلى أوكرانيا، أن السياسة الخارجية الألمانية ما زالت تتأثر بعوامل التوازن الدقيق بين المصالح الداخلية والتحالفات الإقليمية والدولية، وأن هاجس الإبحار بحذر عبر التعقيدات الجيوسياسية ما زال عاملاً مسيطراً في رسم توجهاتها الحالية.

التداعيات المحتملة لتسريبات تسليم صواريخ توروس لكييف