إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

بعد فقدان تنظيم داعش السيطرة على الكثير من المناطق في سوريا والعراق، وعدم قدرته على القيام بعمليات إرهابية كبيرة في الداخل الأوروبي والولايات المتحدة، بالإضافة إلى التراجع الشديد في عدد المقاتلين الأجانب داخل التنظيم؛ بدأ داعش يؤسس وحدة استراتيجية لاستهداف الدول الغربية، تعتمد على تكتيك "الظهور والتلاشي"؛ حيث يتم القيام بعمليات مفاجئة ضد الدول والمصالح الغربية، باستخدام عمليات الطعن والتفجير والدهس وغيرها من العمليات التي تتسم باتساع التأثير ومحدودية النطاق؛ حيث تعتبر هذه العمليات ذات تكلفة مادية وبشرية محدودة مقارنةً بالعمليات التي كان يقوم بها التنظيم من قبل.







استراتيجية جديدة



ازداد استخدام داعش لهذه الاستراتيجية بعد هزيمته في بلدة الباغوز بسوريا في مارس 2019، وتتسم استراتيجية "الظهور والتلاشي" بعدد من الأمور؛ وذلك على النحو التالي:



1– استخدام أساليب بدائية وأدوات متوافرة: يعتمد تنظيم داعش في استراتيجية "الظهور والتلاشي" على استخدام وسائل بدائية قليلة التكلفة، مثل الأسلحة البيضاء، والأسلحة النارية، والتفجير باستخدام عبوات ناسفة بدائية الصنع، وكذلك عمليات الاغتيال، والاختطاف. ومن أوضح الأمثلة على ذلك العملة الإرهابية التي وقعت في "نيس" بفرنسا في أكتوبر 2020 وأسفرت عن ذبح امرأة داخل كاتدرائية "نوتردام"، وإصابة امرأة أخرى بجروح خطيرة، تسببت في وفاتها في وقتٍ لاحقٍ، بالإضافة إلى طعن عامل في الكنيسة. وقبل هذه العملية بنحو شهر، وقعت عملية إرهابية أخرى في باريس؛ ما أدى إلى إصابة أربعة أشخاص في هجوم بسكين نفذه لاجئ من أصول باكستانية.







2– الاعتماد على المفاجأة والسرعة في التنفيذ والهروب: يقوم التنظيم، في الغالب، باختيار الأماكن التي يستطيع من خلالها إيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا، وتكون ذات تماسك أمني هش. ومن ثم، نجد أن التنظيم يعمد –في الغالب– إلى اختيار مدنٍ غير العاصمة، كما يعتمد التنظيم على استراتيجية المفاجأة والسرعة في التنفيذ والهروب.







3– الاعتماد على "الذئاب الغاضبة المنفردة": يعتمد التنظيم، في تنفيذ استراتيجيته، على تجنيد الأفراد المسلمين الغاضبين في الدول الغربية، والمتعاطفين بشكل أو بآخر مع التنظيم، ويُطلق على هؤلاء "الذئاب الغاضبة"؛ حيث يتم تجنيدهم في الغالب عن طريق الإنترنت، كما لا يعتمدون في عملهم على التراتبية المعتادة. ومن ثم، يمكن أن يُطلق عليهم "ذئاب غاضبة منفردة". وفي هذا الصدد، نجد أن الناطق السابق باسم داعش "أبو محمد العدناني" قد دعا المتعاطفين مع التنظيم إلى القتل دون الرجوع إلى القيادات، وباستخدام أي سلاح متاح، ولو بـ"سكين المطبخ".







4– استقطاب العناصر ذات الخلفية الجنائية: لا يبدو أن تنظيم داعش بات يُعير اهتمامًا كبيرًا بالقضايا الفقهية أو الفكرية في تجنيد القائمين على تنفيذ استراتيجية "الظهور والتلاشي"؛ حيث تُظهر المتابعة الواسعة للعمليات الإرهابية التي قام التنظيم بتنفيذها في أوروبا في السنتين الماضيتين؛ أن التنظيم بات يعمل على استقطاب العناصر ذات الخلفية الجنائية من المقيمين في الدول الغربية، دون الوقوف كثيرًا عند الأبعاد الفقهية والعقيدية.



وفي هذا الصدد، أظهرت التحقيقات القضائية التي تم إجراؤها في تونس حول الإرهابي "إبراهيم العيساوي" منفذ عملية نيس بفرنسا في أكتوبر 2020؛ أن العيساوي ليس مصنفًا إرهابيًّا لدى السلطات التونسية، وغادر البلاد بطريقة قانونية في سبتمبر 2020، بيد أنه كان لديه سوابق تتعلق بأعمال عنف ومخدرات؛ حيث كان لفترةٍ مدمنًا على تعاطي المخدرات.







ظروف حاكمة



يمكن تفسير أسباب تبنى تنظيم داعش استراتيجية "الظهور والتلاشي" لاستهداف الدول الغربية؛ وذلك على النحو التالي: 



1– تراجع موارد التنظيم البشرية والمالية: تراجعت قدرات التنظيم المالية واللوجستية تراجعًا كبيرًا بعد هزيمة التنظيم في سوريا والعراق، بالإضافة إلى تراجع معدلات التجنيد في التنظيم، نتيجة فقدانه السيطرة على الأرض، وفقدانه الكثير من مصادر التمويل، وتراجع جاذبيته لدى قطاع كبير من المتطرفين، وهي الأمور التي دفعت التنظيم الإرهابي إلى البحث عن استراتيجية للقيام بعمليات مؤثرة بأقل تكلفة. وبالنظر إلى كل هذه التحديات، فقد باتت استراتيجية "الظهور والتلاشي"، هي الأكثر تفضيلًا لدى التنظيم للقيام بعمليات إرهابية انتقامية في الدول الغربية.







2– فقدان التنظيم القدرةَ على التخطيط ووضع التكتيكات: بعد هزيمة التنظيم وسقوط "دولة الخلافة" المزعومة في سوريا والعراق، لم يعد تنظيم داعش قادرًا على وضع تكتيكات لعمليات كبيرة، أو التخطيط لعمليات منظمة في الدول الغربية، وقد دفعت هذه المعطيات التنظيم الإرهابي إلى تبني استراتيجية جديدة تعتمد على خطط وأدوات بدائية غير مكلفة، يستطيع أن يقوم بها الأفراد العاديون، دون الخضوع لتدريب أو تخطيط، خاصةً بعد مقتل وفرار أغلب قيادات التنظيم.







3– إظهار القدرة على القيام بعمليات جديدة: يهدف التنظيم من تلك العمليات الخاطفة، إلى تأكيد قدرته على القيام بعمليات نوعية مكلفة، لا سيما مع اهتمام كبير من وسائل الإعلام الغربية والعالمية بتغطية هذه العمليات؛ ما يحقق للتنظيم أحد أهدافه، وهو إظهار القدرة على الاستمرارية والقيام بعمليات موجعة، بالرغم من الضربات القوية التي تلقَّاها، وبالرغم من مقتل معظم قيادات الصفَّيْن الأول والثاني بالتنظيم، بمن فيهم زعيم التنظيم السابق أبو بكر البغدادي.







4– استعادة ثقة أتباع التنظيم وداعميه: يهدف تنظيم داعش، من هذه الاستراتيجية، إلى استعادة ثقة أتباعه وداعميه في الدول الغربية؛ وذلك بعد الهزائم الكبرى التي تلقَّاها التنظيم، وفرار الكثير من أتباعه. ومن ثم، يريد التنظيم أن يحافظ على "الصورة الذهنية" له في أعين مناصريه، ويثبت أنه قادر على البقاء والقيام بعمليات جديدة ضد الدول الغربية التي نفَّذت العديد من الضربات الموجعة ضد التنظيم، ومن ثم، يستطيع استقطاب أعداد جديدة من الإرهابيين في الدول الغربية.







وفي المجمل، تؤكد استراتيجية تنظيم داعش الجديدة "الظهور والتلاشي" التي تقوم بها وحدة نوعية لاستهداف الدول الغربية؛ أن التنظيم بات يعاني كثيرًا من تراجع إمكاناته وقدراته، بعد الضربات المؤلمة التي تلقَّاها، وهو ما دفعه إلى محاولة إظهار القدرة على القيام بعمليات موجعة جديدة؛ حيث توفر له هذه الاستراتيجية القدرة على التحايل على الحصار الأمني، وضعف الإمكانات، فضلًا عن توافر عنصر المباغتة، واتساع نطاق التأثير، والاهتمام الإعلامي الكبير، وهو ما يحتاجه التنظيم لاستعادة ثقة أتباعه ومؤيديه، بعد سقوط مشروعه "المُتوهَّم".

ملامح استراتيجية داعش لاستهداف الدول الغربية