نوار الصمد 

في ظل التصعيد العسكري القائم بين حزب الله وإسرائيل، تبرز فرنسا لاعباً دولياً يسعى إلى القيام بدور الوساطة في هذا النزاع المعقد. واستناداً إلى تاريخها العميق في لبنان وعلاقاتها الإقليمية والدولية، تتهيأ أمام فرنسا عدة عوامل تعزز فرص نجاحها في القيام بهذا الدور، كما تظهر في الوقت نفسه عوامل أخرى تشكل عقبات أمام إتمامها هذه المهمة بنجاح.عوامل داعمةمن أهم العوامل التي تعزز من إمكانية لعب فرنسا لدور الوساطة بين الأطراف المتنازعة:1– مبادرات التهدئة الفرنسية السابقة: لفرنسا جذور ثقافية وسياسية عميقة في لبنان؛ لأنها كانت القوة الاستعمارية المنتدبة عليه. وهذه العلاقة تمنحها نفوذاً سياسياً داخل البلاد، خاصةً بين النخب السياسية اللبنانية. وهذه العلاقة الوثيقة مكَّنتها من لعب دور إنساني ودبلوماسي فعال في الأزمات السابقة بين لبنان وإسرائيل كما في حرب عام 1982؛ حين توسط فرنسوا ميتيران لإجلاء قوات منظمة التحرير من بيروت المحاصرة، وفي حرب عام 2006 حين ساهم جاك شيراك بشكل فعال في صدور قرار مجلس الأمن رقم 1701؛ هذا بالإضافة إلى أن فرنسا تُعتبر طرفاً مقبولاً لدى مختلف الطوائف في لبنان؛ ما يخولها التحدث مع جميع الأطراف دون أن تُعتبر منحازة.2– انفتاح فرنسا على الجناح السياسي لحزب الله: ترفض فرنسا تصنيف الجناح السياسي لحزب الله منظمةً إرهابيةً؛ لاعتبارها أن ذلك يجعلها قادرة على التحاور معه؛ ما يعطيها ميزة تفاضلية على بعض الدول الأوروبية والغربية الأخرى التي تقاطعه تماماً. والجدير بالذكر أن التواصل مستمر منذ سنوات بين فرنسا وحزب الله، كاللقاء الذي جمع بين موفد الرئيس الفرنسي ماكرون إلى لبنان جان إيف لودريان مع رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد، وبالتحديد في 24 سبتمبر 2024. وتُبرر الدبلوماسية الفرنسية موقفها هذا باعتبار أن حزب الله ليس تنظيماً عسكرياً فقط، بل هو أيضاً حزب سياسي في البرلمان ومشارك في الحكومات اللبنانية ممثلاً للطائفة الشيعية التي تشكل ثلث سكان لبنان تقريباً.3– تجنب القطيعة التامة مع إيران: ويندرج موقف فرنسا من حزب الله في سياق سياسة فرنسية أوسع تتميز بالمرونة الدبلوماسية تجاه إيران. وتقوم هذه المرونة على الظهور بمظهر القوة المنفصلة عن الموقف الأمريكي وغير المصطفة وراءه؛ ما يتيح لها فتح قنوات تواصل مباشرة مع إيران؛ حيث يمكن إدراج الاجتماع الذي حصل بين ماكرون والرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 سبتمبر 2024، ضمن هذه المرونة الدبلوماسية.4– التعاون الوثيق مع الولايات المتحدة: تَعتبر فرنسا أن تعاونها الدبلوماسي مع واشنطن قد يُمكِّنها من دفع الأخيرة إلى ممارسة الضغط على الجانب الإسرائيلي من أجل القبول بوقف إطلاق النار في لبنان. صحيح أن المبادرة التي قادتها فرنسا، بالتعاون مع الولايات المتحدة، في 26 سبتمبر 2024 لوقف إطلاق النار لمدة 21 يوماً بين إسرائيل وحزب الله، لم تؤدِّ إلى النتيجة المطلوبة، غير أن فرنسا لا تزال تعتبر أن الاستمرار في محاورة حزب الله والضغط عليه وترك أمر إسرائيل للولايات المتحدة هو الطريق الأقصر للتوصل إلى وقف إطلاق النار.تحديات معرقلةأما أبرز العوامل التي تعيق دور الوساطة الفرنسي فيمكن الإشارة إليها بما يلي:1– الانقسام داخل فريق الرئيس ماكرون: تعتبر بعض التحليلات أن هناك خلافات داخلية لدى فريق عمل الرئيس الفرنسي ماكرون في الإليزيه حول الأزمة الحالية في لبنان، خصوصاً بين الخلية الدبلوماسية وقسم التواصل؛ حيث إن هناك من هو مؤيد للبنان وهناك من هو مؤيد لإسرائيل. حتى إن مقطع الفيديو الذي وجهه ماكرون إلى اللبنانيين في سبتمبر الماضي عقب تفجيرات البيجر لطمأنتهم بأن هناك مساراً دبلوماسياً يتم العمل عليه، مستنكراً فيه التعرض للمدنيين ومن دون أن يذكر كلمة واحدة عن سياسات حزب الله التصعيدية ضد إسرائيل؛ قد شكَّل صدمة لجزء من معسكر ماكرون. وتتهم الأطراف المؤيدة لإسرائيل داخل معسكر الرئاسة، رئيس الخلية الدبلوماسية للإليزيه إيمانويل بون، الذي شغل منصب سفير في لبنان بين عامي 2015 و2017، بأنه يعمل في عزلة ومن دون أن يجعل ماكرون يستفيد من الآراء الخارجية.2– تصاعد التوتر مع إسرائيل: ترى بعض القراءات أن زيارة وزير الخارجية الفرنسية جان نويل بارو إلى بيروت في 2 أكتوبر 2024 كشفت عن العجز الفرنسي في مسألة لعب دور الوساطة؛ حيث إن إسرائيل أعلنت عن بدء عمليتها البرية على الحدود اللبنانية في مساء يوم انتهاء الزيارة التي طالب فيها بارو بعدم مهاجمة لبنان برياً. وتَعتبر هذه القراءات أنه على الرغم من محاولة فرنسا الادعاء بأنها وسيط محايد، فإن النظرة الإسرائيلية إليها تعتبر أنها أكثر قرباً إلى لبنان. ومما ساهم في زيادة عدم الثقة الإسرائيلية بدور الوساطة الفرنسي، إعلان ماكرون في 5 أكتوبر 2024 عن تأييده وقف تسليم الأسلحة التي يتم استعمالها في الحرب في غزة إلى إسرائيل. وهذا الموقف استدعى رداً غاضباً من بنيامين نتنياهو الذي صنفه تحت خانة العار. وظهر هذا التشنج في العلاقة بين الطرفين، الذي وصفته صحيفة لوفيجارو الفرنسية بأنه "أزمة دبلوماسية صغيرة"، خلال حفل التكريم لضحايا 7 أكتوبر في باريس، الذي أقيم في 7 أكتوبر 2024؛ حيث تمت مقاطعة خطاب رئيس الوزراء ميشيل بارنييه حين أتى على ذكر أن الجالية اليهودية في فرنسا يمكنها الاعتماد على رئيس الجمهورية (أي ماكرون) لحمايتها، بصيحات الاستهجان.3– تراجع النفوذ الفرنسي في الشرق الأوسط: يمكن اعتبار أن فرنسا قامت مؤخراً بعدة خطوات خاطئة من خلال تعاملها مع ملفات الشرق الأوسط؛ ما أدى إلى تراجع نفوذها فيه، ومنها إدارة ملف الحرب في غزة بشكل سيئ في البداية؛ حيث تأخر ماكرون في الذهاب إلى إسرائيل بعد أحداث 7 أكتوبر، ومن ثم بتصريحه حول إنشاء تحالف دولي ضد حماس الذي لم يكن مفهوماً، كما يمكن إضافة فشل مبادرة ماكرون التي أطلقها في بيروت بعد انفجار المرفأ في عام 2020 من أجل حل الأزمة السياسية هناك إلى جملة الخطوات الخاطئة التي ساهمت في إضعاف دور فرنسا في المنطقة.4– استمرار الانقسامات اللبنانية: تدفع فرنسا نحو إقناع الأطراف السياسية في لبنان بضرورة انتخاب رئيس للجمهورية كمدخل للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار؛ حيث سيؤدي تعهد هذا الرئيس الجديد بتطبيق القرار 1701 بكل بنوده إلى تكثيف الضغط على إسرائيل من أجل إيقاف الحرب. ولكن حتى هذه الخطوة تحولت إلى نقطة خلاف بين القوى السياسية اللبنانية؛ حيث إن فريقاً مؤلفاً من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط ورئيس مجلس النواب نبيه بري صار يدعو إلى انتخاب رئيس توافقي للبلاد، وفريقاً ثانياً يضم القوات اللبنانية وبعض أطراف المعارضة أصبح يريد انتخاب رئيس يتعهد بتطبيق القرارات الدولية 1559 و1680 و1701، كما ظهرت عقدة إضافية بعد زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى بيروت في 4 أكتوبر 2024، تمثلت في مطالبة الفريق اللبناني المقرب لإيران بإعلان وقف إطلاق النار قبل انتخاب الرئيس.حدود الدورعلى الرغم من أن التحديات الحالية تعيق فرنسا عن لعب دور الوساطة في النزاع الدائر في لبنان حالياً، فإن الدور الفرنسي يساهم في تحقيق الأمور التالية:1– الحد من المخاطر المحيطة بلبنان: حيث تحاول فرنسا لفت النظر إلى خطورة حدوث اجتياح بري واسع النطاق للبنان، وتشدد على حماية وحدة أراضيه، كما أنها تحاول حماية لبنان من خطر الانهيار، خصوصاً بعد الرسالة التي وجهها نتنياهو إلى الشعب اللبناني في 9 أكتوبر 2024 التي حذرهم فيها من مواجهة دمار ومعاناة الفلسطينيين في غزة إذا لم يحرروا بلدهم من حزب الله. ولقد قام وزير الخارجية الفرنسي بارو بالرد على هذه الرسالة معتبراً أنها بمنزلة استفزاز، وأن دمار لبنان سوف يؤدي إلى وضع أسوأ أمنياً على إسرائيل مما هو عليه الآن.2– السعي إلى تحقيق التوازن بين أطراف الصراع بالمنطقة: حيث إن إيجاد هذا التوازن من شأنه أن يعزز دور الوساطة الذي تحاول فرنسا القيام به، وهي تقوم بذلك حتى لا تتهم بالانحياز لصالح طرف على حساب طرف آخر في النزاع؛ لذلك فإنه حينما تم توجيه انتقادات إلى ماكرون على عدم تعليقه على اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، قام رئيس الحكومة الفرنسية بارنييه من داخل البرلمان الفرنسي بتوجيه تحية مؤثرة للثمانية والخمسين مظلياً فرنسياً الذين قُتلوا في عام 1983 في اعتداء بسيارة مفخخة في بيروت، والذي تتهم فرنسا حزب الله بالضلوع به.كما أنه على خلفية الانتقادات الإسرائيلية لماكرون بعدم رفع الصوت تجاه إيران التي تسلح حزب الله، لوحظ حصول تحول في الموقف الفرنسي تجاه إيران؛ حيث تضمن بيان صحفي صادر عن الإليزيه، في ختام أعمال مجلس الدفاع المنعقد في 1 أكتوبر 2024، كلاماً عن حشد الموارد العسكرية الفرنسية في الشرق الأوسط لمواجهة التهديد الإيراني؛ حيث تم اعتبار ذلك أول اعتراف فرنسي رسمي بالمساهمة الفرنسية في التصدي للصواريخ الإيرانية المرسلة إلى إسرائيل، كما تضمن البيان نفسه تذكير رئيس الدولة بمطلب فرنسا بأن يوقف حزب الله أعماله الإرهابية ضد إسرائيل.3– تعزيز الدور الأممي: حيث إن فرنسا هي أحد الداعمين الرئيسيين لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان (اليونيفيل)؛ فهي تساهم بنحو 700 جندي فيها، كما أنها كانت من أوائل المنددين بعمليات استهدافها مؤخراً؛ حيث اعتبر ماكرون أنه من غير المقبول أن يتم ذلك بشكل متعمد من قبل الجيش الإسرائيلي، كما تحاول فرنسا تعزيز حضور هذه القوات من أجل ضمان فاعلية رقابتها على تطبيق القرار 1701 بعد وقف إطلاق النار. وتعتبر بعض التحليلات أن الطرف الإسرائيلي يعمل على دفع هذه القوات إلى الانسحاب؛ وذلك لتجنب إعاقة عملياته العسكرية، ولعدم وجود شهود على ما يريد أن يفعل، بالإضافة إلى رغبته في إنشاء منطقة عازلة طويلة الأمد.4– دعم الجيش اللبناني: كما أن فرنسا تسعى إلى استضافة مؤتمر دولي لدعم الجيش اللبناني في 24 أكتوبر 2024 من أجل تأمين احتياجاته وتمكينه من القيام بمهماته في المرحلة التي تلي وقف إطلاق النار وإعادة انتشاره في الجنوب. وكانت الدول الغربية في السابق تتهرب من مسألة دعم الجيش اللبناني بحجة الخوف من وقوع الأسلحة المرسلة بيد حزب الله، كما أن حزب الله كان يتحجج في السابق بضعف الجيش اللبناني وعدم قدرته على الدفاع عن لبنان من أجل أن يبرر حاجة لبنان إلى سلاحه.في الختام، يتضح أن الدور الفرنسي في النزاع الدائر حالياً في لبنان، على الرغم من محدوديته والتحديات التي تواجهه، يظل محورياً للحفاظ على ما تبقى من استقرار البلاد؛ حيث إن فرنسا تسعى إلى الحد من المخاطر المحتملة وتحقيق توازن دقيق بين الأطراف المتنازعة، بالإضافة إلى تعزيز دور الأمم المتحدة لضمان تطبيق القرارات الدولية. وعلى الرغم من الانتقادات والضغوط التي تواجهها، يبقى لبنان بالنسبة إلى فرنسا من المعاقل الأخيرة لنفوذها المتراجع على الساحة الدولية.

هل تنجح فرنسا في لعب دور الوساطة بين حزب الله وإسرائيل؟